بدأ کقائد شیعی وانتهی بأن جعلنا جمیعا من شیعته: مفارقة حسن نصر الله
بدأ کقائد شیعی وانتهی بأن جعلنا جمیعا من شیعته: مفارقة حسن نصر الله
معنی الکاریزما أوسع من حسن الهیئة الشخصیة، ومن بلاغة زائدة فی إلقاء خطب السیاسة، ومن جاذبیة سحریة یتمتع بها قیادی، فالثقة المتحصلة من ممارسة مرئیة هی الأساس الخرسانی الصلب لتکون أسطورة الزعیم السیاسی .
والسید حسن نصر الله مثال رفیع علی کاریزما الزعامة السیاسیة، فقد تحول من زعیم حزب إلی زعیم أمة، ومن منتسب لطائفة الشیعة إلی رمز لطائفة المقاومة فی الأمة کلها، ولا یکاد المواطن العربی یصدق أحدا من المشایخ أو من قادة السلاح أو من زعماء السیاسة بأکثر مما یفعل مع حسن نصر الله، ولا یحتشد الناس لسماع خطبة زعیم ـ منذ عصر جمال عبد الناصر ـ کما یحدث مع السید حسن .
وتبدو زعامة السید حسن ظاهرة مفارقات حقیقیة، فلم یولد وفی یده طبق زعامة فضی موروث، ولم تتزاحم علی موائد عصره ملاعق ذهب تعطی الزعامة للراغبین والطامعین .
فقد ظهرت وتطورت ظاهرة السید فی سیاق تراجع عربی عام، انکسرت موجة المد القومی العربی من أواسط السبعینیات، وسقط دور مصر القیادی فی بلاعة کامب دیفید، وانفسح المجال لعربدة إسرائیلیة متصلة فی الشرق العربی، ضربت إسرائیل مفاعل أوزیراک العراقی بینما کان بیغین مجتمعا مع السادات، وزحفت إسرائیل بالغزو الشارونی إلی بیروت، وبدا أن إسرائیل نجحت فی احتلال عاصمة عربیة خارج فلسطین لأول مرة، وفی وسط الحطام تکونت ظاهرة المقاومة اللبنانیة، وکانت تیاراتها الأولی قومیة ویساریة متأثرة بتراث المقاومة الفلسطینیة، وسرعان ما تحول المشهد مع بروز حرکة أمل بمیولها الطائفیة الظاهرة، ثم مع الانشقاق عن أمل ، وتکون النواة الأولی لحزب الله، ودور المؤسس الأول الشهید عباس الموسوی، ثم خلافة حسن نصر الله، ومع تطور حزب الله ـ تحت زعامة السید حسن ـ من منظمة مقاومة استشهادیة إلی رقم صعب فی معادلات المنطقة کلها .
وکان لافتا أن یحدث ذلک فی لبنان بالذات، بترکیب الموزاییک فیه، وبکونه أضعف الدول العربیة فی قوة السلاح النظامی، وبکون الدولة اللبنانیة أقرب إلی الشرکة المساهمة منها إلی الکیان القابض، وربما تکون هذه السمات الفریدة للبنان هی التی أسهمت فی نجاح مسعی حسن نصر الله، فقد بدا لبنان کأرض أحلام، حریات حرکة للناس، وانفتاح لحدود لبنان علی ما عداه، بیئة حریة وتحد فی الوقت ذاته، وموطئا لمیلاد مفارقة العصر العربی التی حملت اسم نصر الله، وفی بیئة ثقافة إیمانیة عمیقة، وتطلع لمصائر الشهادة باعتبارها أغلی المنی، کل ذلک لعب دوره فی بناء ظاهرة الحزب المقاوم والزعیم المتفرد بطاقة الإلهام .
ونظن أن سنوات التسعینیات کانت هی الزمن المثالی لبلورة مفارقة حسن نصر الله، فقد خرج العرب من حرب الخلیج الثانیة فی حالة یرثی لها، ذهبت جیوش عربیة للحرب تحت القیادة الأمریکیة، وکان الطرف الآخر فی الحرب هو جیش العراق، وسیق العرب إلی مدرید، وذهب الفلسطینیون إلی مفاوضات أوسلو السریة، وکان الاتحاد السوفیتی قد ذهب بددا، وذهب تأثیره الموازن نسبیا لنفوذ أمریکا فی المنطقة، وبدت لغة المقاومة غریبة تماما کغربة الإسلام فی آخر الزمان، وراجت أوهام وخیالات عن حقائق العصر الجدید، وبینها أن المقاومة مودة قدیمة، وأن التسویات هی لغة العصر، وأن ملاینة أمریکا ومسایرتها هی طوق النجاة، وذهب زعیم المقاومة الفلسطینیة التاریخی یاسر عرفات إلی خیمة غزة ـ أریحا، وإلی سلطة حکم ذاتی هی قبضة هواء.
وبالمقابل بدا صعود حزب الله مفارقا، وعدوا عرفات ـ رحمه الله ـ بإقامة دولة فلسطینیة قبل قدوم سنة 2000، ولم تقم الدولة الفلسطینیة إلی الآن، بینما کانت المقاومة ـ المفارقة ـ عند وعدها بالضبط، ونجحت فی طرد الاحتلال الإسرائیلی من جنوب لبنان سنة 2000، ودون أن توقع صکا أو تتعهد بتطبیع، وکانت العظة باهرة، فقد ثبت أن تصمیم القوة الذاتیة قادر علی قلب المعادلات المفروضة، فقد نجحت خطة حسن نصر الله وخابت خطة عرفات، بل وزحف تاریخ نصر الله إلی جغرافیا عرفات نفسها، وبدت الانتفاضة الفلسطینیة الثانیة ترجیعا لصدی انتصار المقاومة فی لبنان، فقد نشبت الانتفاضة الثانیة بعد النصر اللبنانی بشهور، وبدا تحول الانتفاضة الثانیة من الحجارة إلی السلاح ملفتا، وبدت إسرائیل منهکة أکثر مع الانتفاضة الثانیة، واضطرت لفک الارتباط والجلاء الأرضی عن غزة وتفکیک المستوطنات الیهودیة لأول مرة فی التاریخ الفلسطینی الحدیث والمعاصر، وکانت تلک هی الثمرة الثانیة المؤکدة لنجاح خط حسن نصر الله، صحیح أن نزعة الاستشهاد فی المقاومة الفلسطینیة لها تاریخها الطویل، لکن الثقة المستعادة بسلاح المقاومة مع نجاحها فی تحریر الجنوب اللبنانی، الثقة بجدوی السلاح المقاوم، الثقة فی نصر الله الموعود للصابرین والاستشهادیین، هذه الثقة ردت اعتبار المقاومة، وبدت فصائل المقاومة وقادتها موضع استقطاب لمشاعر الناس بعد خیبة الأمل راکبة الجمل فی الحکام وجیوشهم النظامیة .
ومن مقام البطل إلی مقام الأسطورة تحول حسن نصر الله، فقد ثبت ـ مع تطور حزب الله ـ أن الأمة قادرة علی اجتراح البطولة، وأنها قادرة علی النصر فی لبنان وفلسطین، وأن قوة سلاح الجماعات الشعبیة قادرة علی قهر الجیش الإسرائیلی الذی قیل طویلا أنه لایقهر، لکن تلک لم تکن نهایة المطاف فی دراما المقاومة المفارقة لاستسلام العصر العربی، فقد بدأ حزب الله ـ مع العشریة الأولی من الألفیة الثالثة ـ فی التحول من جماعة مقاومة إلی قوة من طراز فرید، صحیح أنه ولد وتطور ببرکة دم الشهداء، ولم یتخلف حسن نصر الله یوما عن قطار الشهادة، وقدم ابنه هادی شهیدا محتسبا عند الله، لکن حزب الله ـ بقیادة نصر الله ـ تحول من جماعة استشهادیة إلی جیش حرب عصابات فائق الخبرة والتکنولوجیا، وأسهم الاستعداد الذاتی الفائق فی الاستفادة القصوی من عون إیران وغیرها، ودعمت تکنولوجیا الصواریخ استشهادیة رجال الله، مع التدریب العسکری الشاق، وشبکة الأنفاق السریة، وجهاز المخابرات طویل الذراع إلی قلب إسرائیل ذاتها، وتحول حزب الله إلی أکبر وأکفأ قوة عربیة إلی الشرق من فلسطین. وبدت مواعظ حرب تموز (یولیو) 2006 ظاهرة بأماراتها، فقد کانت هی الحرب العربیة الإسرائیلیة الأطول بأیامها، ودخلت النظم العربیة ـ من وراء أمریکا ـ طرفا داعما بالسیاسة لحرب إسرائیل، لکن حزب الله انتصر، ووضع مدن الداخل الإسرائیلی تحت رحمة صواریخه، وزحف بالهلع إلی قلب قادة إسرائیل المرتبکة، بینما بدا حسن نصر الله بقامته القصیرة ـ نسبیا ـ کأنه المارد العملاق، وبدا وعده الصادق کأنه کلمة الله، وبدت لثغته الرائیة المحببة کأنها البلسم الشافی، وبدت تعهداته کأنها الأقدار، تعهد بهزیمة إسرائیل وقد فعلها مرتین، وتعهد بإطلاق سمیر القنطار عمید الأسری العرب فی سجون إسرائیل، وهاهو الوعد الآن یتحقق .
إنها دراما حسن نصر الله الذی بدأ کقائد شیعی، وانتهی بأن جعلنا جمیعا من شیعته.
( للکاتب المصری عبد الحلیم قندیل )
ن/25