qodsna.ir qodsna.ir

حوار فلسطینی بالشتائم

حوار فلسطینی بالشتائم

 

یبدو المشهد الفلسطینی الحالی مغرقاً فی مأساویته. ولا نبالغ اذا قلنا ان درجة الانهیار الحالیة، على الصعد کافة، لم تصل الی الدرک الأسفل بعد، ویبدو ان ما هو اسوأ قادم لا محالة، فی ظل ما نراه من تصعید مرعب، اعلامی وسیاسی وأمنی فی جانبی المعادلة السیاسیة الفلسطینیة.

انفجار فی قطاع غزة یستهدف خمسة من قادة الصف الثانی المیدانیین فی حرکة حماس ، یستشهدون جمیعاً ومعهم طفلة، علاوة على اصابة عشرین آخرین من الذین کانوا یتواجدون بالصدفة فی مکان الجریمة. حرکة حماس تتهم قادة الأمن الفتحاویین الهاربین بالوقوف خلف الانفجار، وتشن حملة اعتقالات تشمل مئتی شخص من تنظیم فتح بینهم قادة کبار، وتسیطر على جمیع مقار الحرکة واندیتها الریاضیة. لاحظوا انها المرة الأولى التی توجه فیها حماس اتهاماً مباشراً لحرکة فتح . فقد کانت تتهم دائماً اسرائیل بالوقوف خلف کل الانفجارات والاغتیالات السابقة، فلا بد ان هناک تطورات لا نعرفها وننتظر ان نعرفها فی الأیام المقبلة.

الانفجار خطیر، ویشکل تجاوزاً لکل الخطوط الحمراء، ولکن الاتهام اکثر خطورة، لما یمکن ان یترتب علیه من عملیات اغتیال ربما تمتد الى خارج الأراضی الفلسطینیة، لأن رؤوس الفتنة ، حسب روایة حرکة حماس ، یتواجدون فی رام الله وعواصم عربیة، والقاهرة على وجه الخصوص.

قطاع غزة منطقة صغیرة، لا تتجاوز مساحته مئة وخمسین میلاً مربعاً، معظم الاشیاء معروفة، ومن الصعب اخفاء أی سر، والأهم من ذلک انه یشکل مستودعاً للفقر والتطرف، تحکمه القبلیة، والعشائریة، والمناطقیة، وتسوده تقسیمات فصائلیة وعقائدیة، ولذلک ما یحتاجه حالیاً، وفی ظل الاحتقان المتضخم الحالی، بسبب فشل اتفاق التهدئة، هو عود ثقاب، لیأتی الانفجار الدموی الکبیر الذی لا یتمناه احد غیر اسرائیل.

حرکة فتح أخذت على منافستها حماس تسرعها فی توجیه الاتهامات الیها بالمسؤولیة عن الانفجار وقبل ان تبدأ التحقیقات، وهذا مأخذ صحیح ومنطقی، ولکن ما هوغیر منطقی فی الوقت نفسه، ان یبادر السید نبیل ابو ردینة، المتحدث باسم الرئیس محمود عباس فی رام الله، بالقول ان صراع الأجنحة داخل حرکة حماس هو المسؤول عن هذه التفجیرات. السید ابو ردینة اصدر فتواه هذه بعد دقائق من حدوث التفجیر، وقبل ان تبدأ التحقیقات ایضاً، وزاد تلفزیون فلسطین الرسمی الطین بلّة عندما احتفل بالجریمة وأذاع اخبار الانفجار على وقع الأهازیج والأغانی الفتحاویة.

وعلى ذکر التلفزیون الرسمی فان من تابع اجهزة الاعلام الفلسطینیة بکافة توجهاتها، ومحطات التلفزة على وجه الخصوص، یصاب بحالة من الغثیان، فقد تدنى الخطاب الاعلامی الى مستویات غیر مسبوقة، فبینما استخدمت فضائیة الأقصى التابعة لحرکة حماس مفردات وأوصاف غریبة عن القاموس الفلسطینی مثل ابناء القردة والخنازیر ، ذهب تلفزیون فلسطین الرسمی، الذی کان یتباهى زمیله على الآخر بترفعه، وأدبه، الى ما هو ابعد من ذلک، عندما وصف انصار حرکة حماس بـ السفلة و الظلامیین و العملاء .

ومن المفارقة ان هذا الانحدار الاعلامی ومستویاته المتدنیة تصاعد فی الوقت الذی وصل فیه الى القاهرة الرئیس عباس للقاء الرئیس حسنی مبارک والاتفاق على انطلاق الحوار الفلسطینی الداخلی فی الأیام القلیلة المقبلة.

کیف یمکن ان یتحاور أبناء القردة والخنازیر مع السفلة و الظلامیین ، وفی ظل الدعوات المتصاعدة والغاضبة بالانتقام، والاستئصال، التی نسمعها، ونراها بأعیننا، على شاشات التلفزة، وعلى ألسن کبار المسؤولین فی حرکة حماس خاصة؟ الحوار بدأ فعلاً بین الجانبین، من خلال حملات اعتقال مکثفة ومسعورة فی کل من قطاع غزة والضفة الغربیة شملت المئات، وهی مستمرة وفی تزاید. نتفهم ان تعتقل شرطة حماس بعض المشتبه بهم بعد جریمة التفجیر من أبناء حرکة فتح فی قطاع غزة، فهذا أمر یحدث فی کل مکان فی العالم بعد کل جریمة کهذه، ولکن لماذا تعتقل شرطة فتح فی الضفة الغربیة، العشرات من اتباع حرکة حماس دون وقوع أی جریمة هناک، فهل تأتی هذه الاعتقالات فی اطار القانون أم النکایة أم بهدف تبادل الأسرى فی مرحلة لاحقة؟

اعتقالات عشوائیة، تکشف عن غیاب واضح للقانون تسیطر علیها عقلیة ثأریة انفعالیة لا تحتکم الى العقل، او المنطق، فکیف تبرر حرکة حماس اعتقال شخصیات قیادیة فتحاویة محترمة کانت الأکثر انتقاداً لمرحلة الفلتان الأمنی فی الامبراطوریة الغابرة، مثل احمد نصر، والدکتور زکریا الاغا، واحمد حلس وغیرهم، والاستیلاء علی الأندیة والمؤسسات الخیریة الفتحاویة فی الوقت نفسه؟

لا ننکر ان هناک مجموعة صغیرة فی حرکة فتح ترید تخریب الانجاز الأمنی الذی تحقق فی قطاع غزة، مثلما ندرک ان بعض افراد هذه المجموعة مرتبط بجهات خارجیة، امریکیة على وجه الخصوص، وقد أکد هذه الحقیقة الدامغة اللواء نصر یوسف عضو اللجنة المرکزیة لحرکة فتح عندما کان وزیراً للداخلیة، وحاول فی حینها القیام بعملیة اصلاح للأجهزة الأمنیة واصطدم بهذه الحقیقة المرة. وهذه امور موثقة فی محاضر اللجنة المرکزیة والمجلس الثوری لحرکة فتح ، ولکن حرکة حماس اخطأت فی التعمیم ، و وضع جمیع ابناء حرکة فتح وغالبیتهم الساحقة من الشرفاء المناضلین، فی سلة واحدة مع هذه المجموعة، وأخذتهم جمیعاً بجریرة اعمالها، وقبل اکتمال التحقیقات فی جریمة الانفجار، وتوجیه الاتهام المقترن بالأدلة الدامغة الى المتورطین.

یصعب علینا ان نرى الجهتین المتخاصمتین حماس و فتح لا توجهان أی اتهام الى الاسرائیلیین وعملائهم الذین یریدون اذکاء الفتنة واشعال اوارها، وتفجیر الاقتتال الداخلی الفلسطینی بین ابناء الدم والوطن والعقیدة الواحدة، ففور بدء مثل هذا الاقتتال وما قد یتضمنه من عملیات اغتیال متبادلة لا سمح الله، سیدخل عملاء اسرائیل على الخط ، ویبدأون عملیات القتل فی الجانبین، تماماً مثلما استغلوا فرصة حدوث انقسام، وحرب داخلیة، بین حرکة فتح وجماعة المجلس الثوری التی انشقت عنها فی السبعینات، واقدموا علی اغتیال 15 قیادیاً وممثلاً لحرکة فتح ومنظمة التحریر فی اوروبا.

علینا ان نقر ونعترف بأن طرفی المعادلة الفلسطینیة یرتکبان اخطاء قاتلة فی ادارتهما للأزمة الحالیة بدأت تنعکس سلبیاً على حرکة النضال الفلسطینی ضد العدو الاسرائیلی، وتشوه صورة المقاومة والشعب الفلسطینی معاً.

فحرکة فتح التی راهنت على المفاوضات للوصول الى الدولة الفلسطینیة المستقلة تعیش مأزقاً کارثیاً، بمواصلة السیر فی عملیة سلمیة عبثیة لم تجن من ورائها غیر المزید من الاستیطان، والتوسع، والحواجز المهینة، والتوغلات الإذلالیة فی الضفة الغربیة، والمؤلم اکثر انها لا تفکر بأی بدائل أخرى غیر الاستمرار فی تلقی الصفعات.

أما حرکة حماس فتعیش مأزقاً اکثر صعوبة بوقوعها فی مصیدة التهدئة التی أُعدت لها بإحکام. فالسید اسماعیل هنیة رئیس وزرائها یصرخ یومیاً بأن الطرف الاسرائیلی لم یلتزم بها مطلقاً، فالمعابر ما زالت مغلقة، والقطاع ما زال محاصراً، والأکثر من ذلک بدأ بعض المندسین فی تخریب الأوضاع الأمنیة واذکاء نار الفتنة فی القطاع، وبدأ بعض المعارضین للتهدئة یتجهون الى منظمات اکثر تطرفاً تتبنی ایدیولوجیة القاعدة .

اخفاق الجانبین یحتم الحوار الحقیقی البناء القائم على النوایا الطیبة، وتقدیم مصلحة الوطن على المصلحة الفصائلیة او العقائدیة الایدیولوجیة، واول خطوة فی هذا الاتجاه الاعتراف بالفشل، وصعوبة شطب الآخر، والعودة الى الشعب الفلسطینی مصدر السلطات، ودافع الثمن الأبهظ لمثل هذه الخلافات.

لعل جریمة اغتیال الشهید شهاب النتشة فی الخلیل بتدمیر بیته فوق رأسه بجرافات الجیش الاسرائیلی بعد ان قدم نموذجاً فی المقاومة برفضه الاستسلام، والقتال حتى آخر رصاصة فی بندقیته، لعل هذه الجریمة تفتح أعین الجانبین على المستوى الوحشی للتغول الاسرائیلی ضد أبناء الشعب الفلسطینی، وتذکرهما بالجهة الحقیقیة التی تستحق الالتفات نحوها.

( المقال لعبد الباری عطوان فی القدس العربی اللندنیة )

ن/25


| رمز الموضوع: 141103