الفرار إلى إسرائیل
الفرار إلى إسرائیل
کتب البروفیسور عبد الستار قاسم فی مقال استلمته وکالة قدسنا :
ما یجری على الساحة الفلسطینیة من اقتتال واحتراب واستدماء ورعونات مؤلم وصعب وقاس ومخز ولا یُلحق بالشعب الفلسطینی إلا العار، لکن الفرار إلى إسرائیل توج هذه المهازل التاریخیة التی ستکتب بحروف سوداء. عشرات الفلسطینیین یفرون من میدان المعرکة فی الشجاعیة إلى الکیان الصهیونی الذی من المفترض أن یکون عدوهم الغاشم الأول، ویتلقاهم العدو بکل إذلال ومهانة واستهتار، فینزع عنهم ثیابهم ویغمی عیونهم ویعرضهم أمام التلفاز حفاة عراة. کعربی وفلسطینی، لم یؤلمنی الاقتتال الدموی الذی ذهب ضحیته المئات مثلما آلمنی هذا المنظر البشع الذی حرص العدو على بثه لیعرف العالم حجمنا الحقیقی کشعب فلسطینی، ولنتعلم نحن عن حقیقة أنفسنا.
کان منظر الفارین ساحقا مدمرا للنفس الإنسانیة، ولکل القیم الوطنیة والدینیة والإنسانیة، وشعرت بأن التاریخ قد ارتج من تحت أقدامی لیصرخ شهداء الأمة عبر تاریخها وفد قضّت الأحداث مضاجعهم فی القبور. لا یمکن للمرء أن یقف غیر منفعل أمام الهول، أو غیر غاضب على کل نفسه وکل القیم التی طالما استعملناها لنزور التاریخ. لقد شاهد العالم هذا المنظر المذل، وشاهده عبر معلق یقول بأن فلسطین لیست أحنّ من إسرائیل على فلسطین.
لنا تراث فی القسوة
لاحق الجیش الأردنی عام 1971 الفدائیین الفلسطینیین فی غور الأردن، وهاجمهم بقوة مما دفع العشرات منهم لعبور النهر طلبا للحمایة من جیش الاحتلال. حوالی 150 فلسطینیا محاربا عبروا النهر وسلموا أنفسهم للجیش الصهیونی، وذات المشهد التلفزیونی کان قد حصل. أوقفهم الاحتلال وأیادیهم مرفوعة مستسلمة وعرضهم على شاشات التلفاز وعلى الصفحات الأولى من الصحف المحلیة والعالمیة. الآن نسی تلفاز الأردن ووسائل الإعلام الأردنیة ما جرى فی الأغوار، ولا یذکر إلا اللحظة.
فی السجون الصهیونیة، اضطر فلسطینیون الهروب من بین صفوف المعتقلین والالتجاء إلى إدارة السجون بسبب شدة العذاب الذی تعرضوا له من قبل زملائهم ورفاق درب التحریر. سادت فی السجون مرحلة من الشک الشدید المجبول بأعمال الجواسیس، وأصبح لدى المعتقلین هواجس کثیرة جعلتهم یشککون بأن کل حرکة یقوم بها معتقل إنما عبارة عن رسالة متفق علیها مع إدارة السجون، وهی عمل من أعمال الجاسوسیة والخیانة. کانت تقوم فی السجون حفلات من الضرب والتعذیب الشدید بإشراف قادة الأقسام والغرف، وکان هناک جلادون متخصصون بالتعذیب. لا شک أن إسرائیل قد جندت جواسیس، لکنها نجحت فی تهیئة الظروف لبعضهم لیصبحوا قیادات اعتقالیة. هذه القیادات والتی غذت التعصب الفصائلی بصورة حادة دفعت العدید للفرار إلى إدارة السجون لیصبحوا جواسیس ومخبرین. وقد کنا وما زلنا نمجد هذه الأنواع من القیادات التی هی صنیعة الصهاینة، وتعمل باستمرار على إذکاء نیران الفتن فی الداخل الفلسطینی.
عدد من أبناء فلسطین أنشأوا غرف العصافیر (الجواسیس) فی السجون لأنهم اکتشفوا أنه غُرر بهم من قبل قیاداتهم. کانت ترسلهم القیادات فی نشاط عسکری ضد إسرائیل، وترسل الخبر من ثم إلى الجیش الصهیونی لیقضی علیهم.
الآن أتى دور الاقتتال فی غزة والذی کرر السیرة البائسة على الساحة الفلسطینیة. لقد دفعت حماس الأمور إلى حدّ تکررت معه الصورة القبیحة التی تسیء لحماس ولفتح ولکل الشعب الفلسطینی. لم یکن هناک اتزان أو حسابات فی استعمال القوة ضد الخصوم من قبل حماس، ولم یکن من المشرف أن یفر العشرات باتجاه الصهاینة. لا الضاغط بریء ولا الهارب قد نال وسام الشرف. ویبدو أن علینا أن نتعلم شرف حمل السلاح. من الصعب أن أجد حرکات ثوریة أو فصائل أهانت شرف السلاح مثلما نهینه نحن على الساحة الداخلیة الفلسطینیة فی هذا المرحلة التاریخیة الساقطة. للسلاح شرف وهو الدفاع عن الکرامة والعزة وصون الدین والعرض والأرض، أما سلاحنا فأغلبه للزعرنة. هناک سلاح مقاوم شریف، لکنه یتضاءل أمام زحمة الأسلحة الخائنة.
الغلّ الأسود
من الملاحظ من السلوک العربی بأن عداءنا لبعضنا یأخذ نکهة خاصة مختلفة عن عدائنا للعدو. یتمیز عداؤنا ضد بعضنا بغل وحقد شدیدین إلى درجة أننا على استعداد لحروب داخلیة على مدى سنین طویلة، وعلى استعداد دائما لاقتتال انتقامی بشع لا یراعی ضمیرا أو أخلاقا أو ذمة إنسانیة. نحن على استعداد لممارسة أقسى أنواع التعذیب والتنکیل، وأبشع صور القتل، وأسوأ أنواع التمثیل. نحن نحمل فی قلوبنا سوادا مظلما ضد بعضنا، ولا یحتمل أحدنا تفوق الآخرین وإنجازاتهم، ولا یحترم قدراتهم ومواهبهم وعطاءهم، ونرغب دائما فی تدمیر وتحطیم الآخرین.
واضح أن لدى العرب الاستعداد لمد الید للعدو الخارجی والتفاهم معه والانحناء له لیمتطینا، لکننا نمد ید المصافحة الداخلیة والقلوب لا تنطق بما ینطق به اللسان.
هذه مسائل تحتاج لدراسات علمیة وافیة، وإلى طواقم علمیة محترفة ومتخصصة لکی نقف على حقائق سلوکنا الاجتماعی والإنسانی. هناک خلل کبیر نعانی منه، وإذا کنا صادقین، فإن علینا توظیف جهود ضخمة لفهمه، ومن ثم وضع الحلول المناسبة.
القیادات الصامدة
العجیب أن قیاداتنا تتمتع بقدرة عجیبة على التبجح والفهلوة والتنصل من المسؤولیة. حصل فساد مرعب فی فلسطین، ولم یتقدم أحد باستقالته على اعتبار أنه مسؤول ولو جزئیا عما یجری؛ اعترفنا بإسرائیل ومهدنا الطریق لمزید من الإجراءات الصهیونیة للاستیلاء على الأرض، وبقیت القیادات تتحدث عن الانتصارات. دار اقتتال دموی فیما بیننا، ولم یترجل أحد عن ظهر کرسیه الخشبی الأجرب، وحصل الفلتان الأمنی وانتشر السلاح الأهوج فی الشوارع، وبقیت القیادات وکأن أحدا لا یتحمل مسؤولیة. وطبعا قیاداتنا لا تخطئ ولا ترتکب الجرائم ودائما الاحتلال هو السبب. لیت الاحتلال یخرج مؤقتا من الأرض المحتلة/67 لنرى قیاداتنا الملائکیة کیف ستتصرف. نرید أن نرى الجنة التی ستقیمها هذه القیادات عند غیاب الاحتلال.
أنا على ثقة بأن قیادات کثیرة تتمنى بقاء الاحتلال لأنها ستجد نفسها فی الشارع بلا ألقاب وبلا کراسی إن غاب الاحتلال. والاحتلال بالتأکید لا یمکن أن یترکها تواجه مصیرها لأن مصالحه ستصاب بأضرار کبیرة. ولهذا ستبقى متمسکة بالاحتلال من الناحیة العملیة، ورافضة له على شاشات التلفاز.
المهم أین الشعب؟
سیقفز من سیرد علیّ قائلا بأن شعبنا یتحمل مسؤولیة، وهو شعب معطاء وعظیم. لا یوجد شعب لا یقدم ولا یعطی، ولکن الشعوب التی تحاول تغطیة الأخطاء بالتاریخ لا ترید أن تتقدم أو تتحرر. نحن قدمنا وما زلنا نقدم، لکن قضیتنا تراجعت بصورة حادة على المستوى الفلسطینی، وتمکنت الصهیونیة من الاستمرار ببرامجها بخسائر تتناقص مع الزمن.
مشکلتنا أننا نرى الأخطاء ونغمض عیوننا: منا من یمتهن النفاق والکذب ویسیر مع السلطان فی غیّه وضلاله، ومنا من ینزوی ظانّا نفسه أنه من العباقرة الذین لا یتدخلون بشیء. حصلت جرائم کثیرة ضد الشعب الفلسطینی من قبل الفصائل الفلسطینیة والقیادات، ولم یحرک الشعب ساکنا لا داخل الجامعات ولا خارجها، ولا على مستوى الحرکة الطلابیة ولا على مستوى الأکادیمیین. نحن جمیعا نتفرج مستمتعین بما تفعله القیادات والفصائل بنا.
هل من مجیب؟ هل هناک من لدیه الاستعداد للوقوف فی وجه کل هذه المخازی؟ أنا أمد یدی، موقنا بأن الشعوب تصنع مستقبلها بأیدیها، وإذا بقیت السواعد ملفوفة بالأکمام، فإن لیل الذل سیشتد به الظلام.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS