صفقة تبادل الأسرى مع إسرائیل
أرغم حزب الله إسرائیل على ما کان خططه یوم 12/7/2006 حیث خطف جندیین وقتل ثمانیة جنود فى موقع داخل الخط الأخضر وهو ما أسمته دول کبرى فى العالم العربى بأنها مغامرة غیر محسوبة وتصرف انفرادى "أحمق" جر على لبنان الویلات دون مقابل، کما اتهم الحزب بأنه اعتدى على إسرائیل ، ولذلک صدر قرار مجلس الأمن رقم 1701 لیعکس کل هذه المعانى ولیفرض نزع سلاح حزب الله وتجفیف منابع تزویده بالسلاح، ویعتبر أى تعاون مع الحزب عملاً غیر مشروع. وکان الحزب قد أعلن أن إسرائیل لن تطلق سراح الأسرى العرب إلا بعملیة یتم فیها مقایضة أسراهم بالأسرى العرب، ولکن اعتبر هذه المرة أنه تحرش بإسرائیل رغم نجاحه فى المرات السابقة. ولا شک أن أوساطاً ومسئولین لا یزالون یتمنون زوال هذا الحزب لأنه کشفهم وتجرأ على إسرائیل قدس أقداسهم ومصدر إذلالهم وسجل فى ملحمة 2006 مازرع بدایة تفکیک الدولة الصهیونیة وأکد فى الواقع ما قاله التاریخ من أن کل الغزاة أیا کان اسمهم لابقاء لهم فى تراب أرضنا المقدسة.
فى ذکرى العدوان الإسرائیلى على لبنان 12/7/2008 وبعد أن عجز العدو عن تحقیق هدفه الجذرى وهو اقتلاع المقاومة الجسورة واستخلاص أسراه دون مقایضة وإزاء الموقف الصلب للمقاومة تم فى مشهد ذلیل لهذا العدو عملیة المقایضة. وقد ظهر تفسیران للموقف الإسرائیلى، الأول یرى أن إسرائیل قد قیلت ما رفضته عام 2006 وظنت بقوتها أن بوسعها أن تنهى عصر المقایضات.
والتفسیر الثانى: یرى أن إسرائیل تفعل کل شئ حتى تدفع المنطقة إلى الاعتقاد بأنها تغیرت وأنها متساهلة حتى یمکنها أن تنقض على إیران وهى تعلم أن حزب الله هو أقرب حلفائها. وبصرف النظر عن أى التفسیرین أقرب إلى الحقیقة، فقد بدا لى أن احترام إسرائیل لحزب الله مع شدة نقمتها علیه یعود إلى أسباب عدیدة أهمها سبب یلقى الخشیة فى قلبها وهو أن الحزب یحشد فکرة المقاومة العربیة ویسقط على ساحته کل الشهداء العرب، وهم یرون نظمهم وقد تخلت وخانت الدماء الطاهرة لآلاف الشهداء فى هذه الملحمة. وإذا کان الشهداء یقاومون دفاعاً عن قضیة واحدة مهما تفرقت بهم الأوطان والأعلام ضد عدو واحد فإن الربط بین مصائرهم جمیعاً ربط منطقى یرفع قدر المقاومة اللبنانیة وینزع عنها ما أراد البعض إلصاقه بها بغیاً وعدواناً من أنها مقاومة طائفیة محدودة الأفق.
وهذا هو المعنى الذى عبر عنه تسلم المقاومة لرفات العشرات من کل الدول العربیة ممن ساهموا من الجبهة اللبنانیة فى المقاومة ضد إسرائیل، ولما لم تجد الشهیدة الفلسطینیة المحیدلى مناخاً یقدس الشهداء فى فلسطین وانغمس الفلسطینیون فى الصراع الذى جر القضیة بعیداً واستخف بدماء الشهداء من أجلها آثرت أن تدفن فى لبنان لعل فلسطین تتهیأ یوما لشرف استقبال رفاتها.
ولا أدرى لماذا سرحت خلال متابعة منظر توابیت الرفات وهى تسلم إلى المقاومة فى الناقورة، وسکوت إسرائیل الذلیل عندما فوجئت فى اللحظات الأخیرة أن الجندیین الأسیرین سلماً رفات رغم أن ثمنهما فى الصفقة کان قد قدر على أساس أنهما أحیاء، سرحت فى تفکیر عمیق حزین، وتصورت حواراً بین رفات الشهداء العرب الذین قتلوا فى إسرائیل وهم ینفذون عملیات قتالیة أو خطفت إسرائیل جثثهم بعد استشهادهم فى لبنان لمقایضة رفاتهم، وبین رفات شهداء مصر الذین أسرتهم إسرائیل فى مهزلة 1967 بإغتیالهم بقسوة تکشف عن الحقد الدفین فى قلوبهم. ومع ذلک لم یعلم بمصیرهم أحد، حتى وجهت إسرائیل لطمة إلى مصر کلها وإهانة إلى أهلها قبل نظامها حین اعترف المجرمون الإسرائیلیون علناً بما أسموه عملیة شکید بأنهم قاموا بتنفیذ هذه الجریمة، ولا ندرى حتى الآن سبب بث هذا الفیلم المؤلم والذى سکتت ازاءه مصر سکوت الذلیل الذى یتجنب نکأ الجراح ولعل مصر الرسمیة قد رجت إسرائیل ألا تکشف المزید تجنباً للإحراج أمام شعبها فى سجل الاذلال الذى تتزاید صفحاته کل یوم.
وقد رأیت أنه رغم أختلاف الظروف لأعضاء المجموعتین، فإن القاتل والعدو واحد. فالمجموعة الأولى جلبت أو قتلت داخل إسرائیل فى مواجهات، والمجموعة المصریة من الرفات التى تشکو إلى ربها أنها أقحمت فى معرکة عابثة، ثم ترک الشباب تحت رحمة الأسر الوحشى ثم لقوا حتفهم وهم أحیاء عقاباً لهم على أنهم مصریون وحتى یبثوا الفزع فى قلوب کل المصرین من مثل هذا المصیر القاسى وقد خطفوا من سیناء وقتلوا فیها وربما ألقیت جثثهم للجوارح. وقد رأیت أن إسرائیل تقیم ألف حساب لکل أسیر أو رفات من جانب حزب الله حتى تقایض، لکنها لا تقیم وزناً لقتلى مصر لأنها تعلم أن المواطن الحى لا قیمة له، فکیف یکون للموتى والقتلى أى ثمن، فلا تستحق جثثهم تکالیف حفظها رفات، لأنه لا یمکن تصور المقایضة أصلاً. وتصورت أن الرفات المهملة للمصریین کانت تدمع عیونها بالرجاء وهى تودع رفات الشهداء العرب من طرف حزب الله بأن یدخل حزب الله هذه الرفات فى حساباته المقبلة، وهو یدرک أن الحزب إذا أعلن منذ الآن بأن الرفات المصریین سوف یتم مقایضتهم فى المستقبل فسوف تعمد إسرائیل إلى العنایة بهم وحفظهم وسیرفع ذلک ثمن هذه الرفات، ولکن یخشى أن تتوسع إسرائیل فى اصطیاد المصریین من منازلهم حتى یکون لدیها رصید یستهلک حصة حزب الله فى أیة مقایضة. لقد شعرت بالحزن لما آل إلیه حال مصر وأهلها أحیاء وأموات. إن مقایضة الأسرى ورفات الشهداء مناسبة للتدبر، وما أقسى أن تتسارع مثل هذه المقارنات المؤلمة فتبعث على القهر طمعاً فى یوم تشرق فیه الشمس.
( المقال للسفیر المصری الدکتور عبدالله أشعل )
م/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS