الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

قصة الغرب مع الاسلام.. وحقوق الإنسان!

 

قصة الغرب مع الاسلام.. وحقوق الإنسان!

 

لا بد للعقل الغربی أن یسجل أن أخطر انتکاسة للمدنیة فی عصر العولمة هو فی إخفاق الدیمقراطیة بالدفاع عن مکتسبات حقوق الإنسان مع المزید من انجراف العولمة الاقتصادیة إلى العولمة الأمنیة. وهذا التحول لا یقتصر على العالم الثالث وأشباهه، الذی ما یزال فاشلاً فی تحقیق الحدود الدنیا من حریات مواطنیه، بل إن الدیمقراطیة الغربیة هی المهددة فی عقر دارها. فقد استقر فی وعی النخب السیاسیة، لدى معظمها، أن ثمة خطراً عظیماً یداهم حضارتهم، وسوف یدمر امتیازاتهم. وربما یسلبهم سلامهم الاجتماعی، ویحرمهم من رغد الحیاة الذی یتمتعون به من دون البشر الآخرین. وقد صدف أنه کان لهذا (الوحش) اسم الإسلام. وأن هذا الاسلام لیس دیناً شخصیاً، ولا حرکة قومیة أو إقلیمیة. إنه کائن أصلاً من طبیعة کلیانیة، أممیة، وأنه یستعید أممیته تلک بحیویة مفرطة ومخیفة تتجاوز حدود أقطاره، وتنذر بالانتشار والامتداد. وأکثر من هذا، هناک بین غلاة دعاته وقیاداته من یطرح أن الإسلام هو البدیل القادم عن الحضارة المادیة المتحللة والمستنفدة لإمکانیاتها. فلقد أصبح الغرب هو المنتج الأول والأکبر لآلاف الأبحاث والمؤلفات عن الإسلام التی تحاول سبر أغوار عقائده ومذاهبه، والغوص على مفاهیمه وأسراره، والتبحر فی استکشاف شعوبه. أما النوایا الحقیقیة وراء هذا السیل الجارف من اصطناع المعرفة وادعاء الموضوعیة العلمیة، فإن جُلَّ ما یکتب ویُقال ویُبحث، وینشر إنما تحرکه هدفیة واحدة تدخل فی نطاق الحرب النفسیة التی یتقنها الغرب عندما یزمع فی اختلاق نموذج العدو الکونی والمطلق، لیس له وحده، بل ضداً على الإنسانیة والمدنیة عامة. إنها تلک الهدفیة البائسة الخبیثة التی تتطلب تحشید شعوبه واستنفار غرائز الدفاع لدیها، وتوظیف کل ذلک خدمة لاستراتیجیته الهجومیة. إنها فلسفة تکوین الذات بتدمیر الآخر. فما یبرر هذا التدمیر هو شیطنته أو أَبْلَسَته التی تتقنها ثقافة الغرب نفسها، وقد شکلت ألف باء علومه النفسیة والاجتماعیة. ولها نظریاتها وأجهزة مفرداتها التی تتجدد أدواتها عند کل مشروع غزو استراتیجی ضد أی آخر متمرد على الاستیعاب، رافض للتنازل عن سیادته وإهدار ثرواته، وقوداً للحفاظ على تفوق الغرب، وتدعیم وحدانیته فی رأس الهرم من کل فعالیة إنتاجیة لحضارة العصر.

إن مبدأ تعدد الحضارات، الذی أشبعته ثقافة الحداثة الغربیة نفسها تحلیلاً وتمجیداً، یعاکسه على أرض الممارسة السیاسیة تحدیداً، المبدأ الآخر المضمر المتمم، أحادیة القطبیة الذی یشترط على تعدد الحضارات، أن یأتی الغرب فی المحلّ الأول منها. أن یظل هو قائدها الأوحد. فالصراع المحتدم ضد الإسلام بتهمة الإرهاب، ما هو إلا نموذج الصراع مع کل الأقطاب الأخرى الصاعدة کالصین والهند ودول جنوبی شرقی آسیا وسواها. وهذه تشق طریقها التنافسی إلى صمیم أسواق العولمة، وهی التی امتلکت أسباب التنافس الحقیقی بأسلحة الغرب عینها، وأحدث صناعاتها الالکترونیة الغازیة حتى لأسواق أمریکا وأوروبا. لکن الغرب لا یرید أن یفتح مع هذا النوع من قوى العصر الجدیدة صراعاً سیاسیاً مباشراً. إنه ینتقی الجبهة الأضعف المتمثلة فی هذا الإسلام الذی لم یدخل بعد أعتاب الصناعة، لا التقلیدیة منها ولا التقنیة المتقدمة. فالغرب یمرّن عضلاته ضد ضعفاء العالم، لکی یتعلم کباره دروس الطاعة سلفاً، قبل أن تدق ساعة المواجهة الکلیة معهم. وربما اقترب أوان هذه الساعة سریعاً بعد انقضاء أو استنفاد تلک المرحلة الأولى من الاشتباک مع الإسلام العربی، التی تمخضت عن نتائج متناقضة، لکنها فی مجملها لم تصب فی المصلحة الغربیة، والأمریکیة منها خاصة. فالأمرکة الغازیة، على الطریقة البوشیة، أخفقت فی إدخال الشرق الأوسط ضمن منطقة نفوذ مغلقة کلیاً لحسابها. هذا بالرغم من أن المشهدیة السیاسیة الحاکمة هنا، یکاد یتسربل معظمها بمظلة هذا النفوذ حسب شبکیات من علاقات التبعیة المتفاوتة من قطر إلى آخر. بل هناک من یعتقد من بقایا الیسار الأوروبی أن مشروع الإمبراطوریة الأمریکیة للألفیة الثالثة قد ولد فی حوافی الآبار النفطیة العربیة ثم ضاع فی صحاریها. وأکثر من هذا فقد استیقظ الیمین الأوروبی فجأة على حقیقة أن المشکلة الیهودیة على وشک أن ترتد إلى مواطنها الأصلیة، بعد أن تسبب الطیش الأمریکی بتهدید مستقبل إسرائیل فی الشرق. الأمر الذی استنفر قادة الیمین الرئاسی فی فرنسا وألمانیا وإیطالیا، وبالطبع انکلترا، فی شبه حرکة جماعیة لإنعاش اسرائیل إعلامیاً وسیاسیاً عبر إیقاع الحیاة الیومیة للرأی العام الغربی؛ وفی الوقت عینه تهب أوروبا لفرض وجود إسرائیل سلمیاً فی محیطها العربی، بعد أن وضع لبنان المقاوم حداً لعربدتها العسکریة، مسقطاً أسطورة تفوقها الاستراتیجی على المجموع العربی.

هذا (المجموع العربی) الذی لم یتح له، ولا الغرب سمح له، أن یدخل معرکة واحدة بکامل قواه، فی أیة حرب ملتبسة ومشبوهة خاضتها الأنظمة الحاکمة. ولکن حدث أن حزباً شعبیاً لبنانیاً استطاع أن یحرم اسرائیل من أخطر مقومات استمراریتها وهو النصر العسکری، المضمون لها وحدها فی کل مواجهة مع العرب. هذه الضمانة أمست شیئاً من الماضی. وتنضم بدورها إلى حلقة فی مسلسل التاریخ الإسرائیلی الأسطوری الذی کشف عنه مؤرخ إسرائیلی تتبع أصول النشأة للدین الیهودی، وعودة شعبه (المختار) إلى أرض المیعاد، وإقامة الهیکل وانهدامه لمرتین، ثم الهجرة إلى المنافی العربیة والأوروبیة. وتثبیت إیدیولوجیا الصهیونیة القائمة على حتمیة العودة الکاملة إلى فلسطین، لأحفاد أحفاد هؤلاء المهاجرین الیهود الأوائل. هذه الروایة ینسفها المؤرخ (شلومو ساند)، اعتباراً من حلقتها الأخیرة، بالبرهنة على أن یهود أوروبا العائدین لا شیء یثبت انحدارهم العضوی من أصول المهاجرین الأوائل. فإسرائیل (العبریة) هی محض اختراع أیدیولوجی. فما هی إذن.. إنها مجرد حلقة فی مسلسل الاستعمار الأوروبی، فی منحاه الاستیطانی. وقد تم انسحاب أوروبا من کل مستعمراتها الاستیطانیة أو سواها، ولم یتبق سوى المستعمرة الاسرائیلیة فی فلسطین.

الیمین الأوروبی العائد الیوم إلى منابر السلطة السیاسیة الحاکمة والإعلامیة معها فی الأکبر من دول الغرب والأهم منها، یعاوده هم الاستقطاب عبر جنوبه مع شعوره المتأزم والمتشکک فی أن ما أخفقت فیه أمریکا بأدوات الاستخدام المفرط للعنفین العسکری والأیدیولوجی، لیس من الضروری أن ینجح مقابله أو عوضاً عنه العنف الدبلوماسی الذی لا تمتلک أوروبا الاتحادیة سواه حتى الآن. وهو عنف نسبی وقاصر عن تحقیق مهمات عاجلة إزاء قضایا کبرى فی الحرب والسلم، لا تزال معظم أزمات الشرق الأوسط واقعة تحت هیمنتها. ما یجعل سیاسة حشر هذه الأزمات بین حدّی ثنائیة الإسلام الإرهابی وضده الإسلام المعتدل، غیرَ ذات جدوى. فلم تعد صناعة عناوین دینیة للمعارک التی ینوی الغرب خوضها کافیة للتغطیة على أرضیة الصراع الأصلیة. وإذا کان الغرب یعتز بکونه هو المبشر الأول بحقوق الإنسان، باعتبارها تساهم فی (تمدین) العلاقات السیاسیة بین الأمم، فتضفی على النزاعات الدولیة التی یفتعلها هو نفسه دائماً، طابعاً ثقافویاً، إلا أنه هو کذلک الباعث مجدداً لحقبة الحروب الدینیة، بعد أن أحبط الغرب کل نزعات التحرر الوطنیة والقومیة للشعوب الخارجة حدیثاً من نیر استعماره. کان همه المرکزی إجهاض کل أشکال التقدم الحقیقیة لدى دول العالم الثالث. لم یکن مسموحاً تحویل الاستقلال الوطنی لدى أیة دولة عربیة إلى اطار حاضن للتنمیة البشریة السویة. کان لا بد لکل استقلال أن یظل ناقصاً عاجزاً عن استکمال شروطه الضروریة. کانت ولادة المجتمع المدنی بشروطه الدستوریة والموضوعیة، هی الممنوع الأکبر الذی یکافحه نموذج الدولة الأمنیة القمعیة. فهو الاختراع المقدس الذی دعمه الغرب تحت مختلف أشکال الانقلابات والانعطافات العاصفة بتاریخ نشأة الدولة الوطنیة المستقلة شکلیاً والمحرومة من إنتاج الإنسان الحر المستقل فی ظلها القاتم الدامی.

لقد أُحبطت کل موجات التنویر وما کان یرافقها أحیاناً من محاولات إقران التجاوز السیاسی بالتجاوز الاجتماعی لمؤسسات التخلف. کانت الارتدادات والنکسات بمثابة الإیقاع الملازم لکل خطوة نحو التحرر الهیکلی، فی أی شأن من شؤون الواقع الفاسد. کان تاریخ الدولة العربیة الناشئة فصولاً من تجارب الأفکار التقدمیة والإصلاحیة المجهضة. لکن کان أفضل حلیف لأمراض الواقع الفاسد المحلی هو التدخل الأجنبی. هکذا کانت کل نکسة فی مضمار التمدین تسقط جیلاً کاملاً من آمال التغییر السیاسی ذی العمق الحضاری. کان نموذج الدولة القمعیة وحدَه له السیطرةُ الدائمة تحت أسماء الجمهوریات والملکیات والأمارات. لم یکن لدى المبادئ الکلیة ثمة من أرصدة شبه واقعیة إلا فی حدود القناعات اللفظیة الرائجة. کان استهلاک التنظیمات السیاسیة المعارضة وعقائدها، الباعثَ على قنوط الجماهیر من منعطف تغییری أو انقلابی إلى آخر.

هکذا ترتد المجتمعات المقموعة إلى قواعدها الغریزیة حیثما لن تتبقى ثمة تطلعات سیاسیة موضوعیة فی آفاق العمل العام المصادر أصلاً لحساب الفئات الحاکمة وحواشیها. وهنا تبرز دعوات الخلاص الإعجازی والغیبی على حطام الحداثة لتلعب أدوار السیاسة والأیدیولوجیات المهزومة. فلقد عمل الغرب بکل جهد علمی ودبلوماسی وعسکری منظم على سد جمیع منافذ التطور الطبیعی أمام شعوب مستعمراته بعد جلاء جیوشه عنها. فهو الیوم الخائف من یقظة الوحوش النائمة فی أعماق الجماهیر المسحوقة، کما یسمیها. فهو الذی حفظ لها وجودها الأرکیولوجی، وزَرْقها بکل مقویات التغذیة والنمو عندما نصَّب نفسه الحامی الأول لنظام أنظمة الأمن القمعی، وجعلها بمثابة الحاجز والسد المنیع الأخیر الذی یبدد کل سیل للحریة مهما کان جارفاً.

أنهى الغرب عصر الحداثة فی أزمان العالم الثالث المتعثرة، مع تجرید حرکات التحرر الوطنی من مشاریعها الحضاریة المؤسسة لثقافة حقوق الإنسان. أجهز على مختلف نزعات التغییر التاریخی الموضوعی، جعلها مستهلکة بائدة فی عینی النخب، ممهداً فی ذلک لنزعات الخلاص الغیبیة التی سرعان ما تتحول إلى طقسنات فئویة انتقامیة من بعضها. مع تناسی الأهداف العدوة الأصلیة. فلا یعود الدین یعرف وجهه من خلال أقنعة التأویلات شبه الأمیة التی تُلقى على ملامحه من کل حدب وصوب. وبالتالی یکون الغرب سعیداً حقاً إذا ما تولت عنه شراذم الملل والنحل ما أمکنها فی التباری بتقدیم عینات العنف والتشویه والتخلف مشفوعة دائماً بمفردات التدین ومسالکه المنحرفة. ومع ذلک تضطر حرکات التحرر کذلک إلى اختیار عباءة التدین التی تناسبها. فلقد نجحت أمرکة الغرب فی تسویق بضاعة حقوق الإنسان کبدائل زائفة، عن علمانیة هذه الحرکات. حتى کاد یصیر العصر العالمی کله مرتعاً خصباً للوحوش الغریزیة النائمة، والمستیقظة على قرع طبول کل الصراعات الموصوفة بالابتدائیة رغم کل عناوین القداسات التی تدّعی الانتماء لها. ذلک هو العالم الآخر الأرضی الذی وعد الغرب نفسه والإنسانیة بإشادته یوماً ما. لکنه هو العالم المقلوب عن کل صفاته المثالیة أو المدنیة المزعومة. وربما کان هو الهدف المقصود بعینه، لکی یحتل الغرب أخیراً مرکزیة عالم مضاد له کلیاً، لکنه خاضع له دونما أی خیار آخر مختلف.

( المقال للمفکرمطاع صفدی )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 141140







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)