ما لا یجوز استنتاجه من الرحلة البحریة لنشطاء السلام
ما لا یجوز استنتاجه من الرحلة البحریة لنشطاء السلام
من قبرص إلى غزة
فکرة أن العدو الصهیونی تجنب التعرض لسفینتی "غزة الحرة" و"یو أس لیبرتی" اللتین اخترقتا الحصار على غزة بحراً مساء یوم 23/8/2008 خوفاً من الإحراج الدیبلوماسی والإعلامی أمام الرأی العام الدولی تحتاج إلى وقفة وشیء من التدقیق، أساساً لأن کل تاریخ العدو الصهیونی وسلوکه ومواقفه لا تدل أن لدیه مثل هذه الأحاسیس المرهفة تجاه الإحراج الدیبلوماسی والإعلامی، من المجازر والانتهاکات والجرائم إلى الاستهتار بأبسط الأعراف الدولیة عندما لا تلائمه. وفی غزة فلنتذکر فقط الناشطة الأمریکیة رایشیل کوری التی تم سحلها بالبلدوزر، إن لم نرغب بتذکر محمد الدرة، والأهم طبعاً، حصار غزة نفسه.
فی البدایة، لا بد من التأکید بأن حصار غزة، وحصار المقاومة الفلسطینیة برمتها، کما کان حصار العراق سابقاً، وکما هو حصار المقاومة العراقیة الیوم، عبارة عن حصار رسمی عربی بامتیاز.
بالتالی، لا شک بأن اختراق حصار غزة من قبل نشطاء أجانب، کما اختراق الحصار الجوی على لیبیا من قبل الأفارقة، عبارة عن إحراج للنظام الرسمی العربی أمام المواطن العربی... لا شک بذلک سوى أن النظام الرسمی العربی لا یشعر طبعاً بالإحراج تجاه المواطن العربی، ولعل أربابه یقهقهون لو فکروا بأن ثمة من یظن أنه أحرجهم أمام المواطن العربی، تماماً کما قد یقهقه الصهاینة لو فکروا بأن ثمة من یظن أنه فرض علیهم رفع الحصار عن غزة بقوة الرأی العام والإعلام الدولیین... فهذه أضغاث أحلام التسوویین فحسب، والضعفاء المتواکلین الذین یعلقون کل مهمات التحرر الوطنی على شماعة "الرأی العام والإعلام الدولیین" بدلاً من عناصر القوة الذاتیة. فالنظام الرسمی العربی، کالکیان الصهیونی تماماً، تمنعهما مصالحهما ووجودهما من الإحساس بالإحراج أصلاً.
لیس المقصود بالطبع التقلیل من مبادرة النشطاء الذین استقلوا تینک السفینتین من قبرص إلى شاطئ غزة. على العکس، هی مبادرة تستحق کل التقدیر والحفاء الذی لاقاها به أهل غزة. وأعوذ بالله أن یکون القصد هو المزایدة.
لکن لا بد من تحلیل الأبعاد والرسائل السیاسیة المتضمنة فی أیة مبادرة أو خطوة، هی بطبیعتها... سیاسیة.
ولا بد من تحلیل معنى عدم اعتراض الکیان الصهیونی لهاتین السفینتین بأکثر من التسطیح الزاعم أن الیهود استحوا من الرأی العام الدولی... فالسیاسات، خاصة الیهودیة منها، لا تبنى على "التخجیل" والإحراج، بل على المصالح والفوائد والخسائر. ومن یرى غیر ذلک ربما یصلح أن یکون فناناً موهوباً أو شاعراً فذاً أو صدیقاً حنوناً، لکنه بالتأکید لا یستطیع أن یقدم إضافة ذات معنى فی التحلیل السیاسی.
بل نلاحظ أن ثمة جهوداً حثیثة فی الساحة الفلسطینیة، کما ظهر من المظاهرات الأسبوعیة ضد الجدار فی نعلین وبلعین، إلى الترکیز على نمط جدید من العمل السیاسی فی الساحة الفلسطینیة یقوم على:
1) مشارکة من یسمى نشطاء السلام "الإسرائیلیین"
2) الترکیز على مناهضة الاحتلال بوسائل غیر عنفیة أو غیر عسکریة
3) تخفیض السقف السیاسی ل"العمل المقاوم" باتجاه التعایش مع الیهود إما فی ظل دولة أحادیة أو ثنائیة أو دویلة مثلیة
4) التأکید على الاعتراف الفلسطینی بما یسمى "المِخرقة" الیهودیة (بالخاء، من مخارق، أی الشیء الذی لا یقبله العقل).
بالتالی، أهلاً وسهلاً بالسفن التی تکسر الحصار على غزة بحراً، لکن عند القول أنها جاءت بمشارکة ناشطی سلام "إسرائیلیین" کما جاء فی وسائل الإعلام، وبحضور أحد الناجین من "المِخرقة" الیهودیة، فإن الأمر لا یعود اختراقاً للحصار على غزة فحسب، بل اختراقاً للعقل السیاسی للشارع العربی، وتقویضاً لمفهوم المقاومة المسلحة، وإحلالاً للتعایش محل هدف التحریر.
عندما تعتقل الأنظمة العربیة أیة مبادرة شعبیة عربیة لرفع الحصار عن غزة ثم یسمح الکیان الصهیونی لسفینتین محملتین بنشطاء سلام أجانب ویهود وعرب ب"کسر الحصار"، فإن الإحراج لا یکون للنظام الرسمی العربی، بقدر ما یکون للشارع العربی.
مرة أخرى، فلیکن واضحاً أن التحلیل لا یتناول دوافع من رکبوا تلک السفن وتجشموا المخاطر للوصول إلى غزة. بل یتناول العبر السیاسیة لما یجری، خاصة أن بعض القائمین على هذا المشروع، مثل رئیس اللجنة الدولیة لرفع الحصار عن غزة د. إیاد سراج، أیدوا اتفاقیة أوسلو علناً کما فی هذا الخطاب له فی مدینة وتشیتا الأمریکیة، فی ولایة کانساس، بعد شهرین بالضبط من توقیع تلک الاتفاقیة عام 1993، کما یمکن أن تروا على هذا الرابط:
http://www.freearabvoice.org/EyadSaraj.htm
لا یجوز أن نستنتج من اختراق سفینتی "غزة الحرة" و"یو أس أس لیبرتی" للحصار على غزة أن الشارع العربی لا فائدة منه وأن الحل یکمن بالتالی باسترضاء الشارع الغربی الذی یصبح هدف عملنا السیاسی بعدها بذل کل التنازلات المبدئیة والسیاسیة من أجل استرضائه... فلو حاولت ثلة من المواطنین العرب مثلاً أن تتوجه بسفن مثل "غزة الحرة" و"یو أس أس لیبرتی"، من أی میناء عربی، باتجاه غزة، فإن الأنظمة العربیة ستسبق العدو الصهیونی على الأرجح فی إیقافها عن بلوغ هدفها. والصحیح أن مسؤولیتنا هی بالأساس إیصال المقاتلین والسلاح والمال لکل أرض عربیة محتلة، ولیس التلهی بالفزعات الإعلامیة، التی لا بأس من ترکها للأجانب، مع إدراکنا أن الحصار تحکمه أنظمة وسیاسات وبنى لا بد من دکها دکاً بثورات شعبیة عربیة. ولعل مثل هذا الإدراک لدى المواطن العربی هو الذی یشعره بأنه لا یرید أن یتلهى بالسفاسف فی غیاب "کلام الجد".
وفی النهایة لا بأس من هذه المبادرات الإعلامیة والأممیة ما دامت محکومة بسقف سیاسی مقاوم، وکل التحیة والمودة لمن یقومون بها. أما بدون التأکید على مثل هذا السقف السیاسی المقاوم، فإنها تصبح مدخلاً لقلب المزاج الشعبی ضد النهج المقاوم فی الساحة الفلسطینیة، وحتى لتغلیب نهج فتح على نهج حماس فی الساحة الفلسطینیة، مثل أولئک الناشطین "الإسرائیلیین" الذین یأتون أسبوعیاً من أماکن بعیدة "لیشتبکوا" مع الجیش الصهیونی فی مظاهرات ضد الجدار، فی الوقت الذی تحول مئات الحواجز العسکریة الصهیونیة ونقاط التفتیش عملیة الانتقال من بلدة فلسطینیة إلى أخرى فی الضفة الغربیة إلى رحلة أطول من رحلة "غزة الحرة" و"یو أس أس لیبرتی" من قبرص إلى غزة!
( بقلم الدکتور إبراهیم علوش )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS