العبرة الإیرانیة من الذریعة البیروقراطیة
العبرة الإیرانیة من الذریعة البیروقراطیة
فی برنامج على القناة التلفزیونیة الإیرانیة باللغة بالإنکلیزیة 'برس تی فی' اتصل أحد المشاهدین من جنوب إفریقیا فقال: أرجو أن یذهب الظن بالغرب إلى أن إیران تمتلک القنبلة النوویة فعلا لأن هذا هو الضمان الوحید بأنها لن تتعرض للعدوان. إذ لو حدث أن تأکد الغرب أن إیران خلو من السلاح النووی، فائذنوا ببدء الهجوم الأمریکی. قد یبدو هذا الکلام عاطفیا أو انفعالیا، خاصة أن المتصل من المسلمین. ولکن فیلیب بوبیت الذی کان مستشارا لکل الرؤساء الأمریکیین منذ کارتر حتى کلنتون مرورا بریغان وبوش الأب، والذی یصفه کسنجر بأنه أبرز فیلسوف سیاسی فی عصرنا، کان قد عبر عن الفکرة ذاتها بأشد ما یمکن من البرود الأکادیمی. فقد سأله سائل أثناء محاضرة هنا فی لندن بعید غزو العراق: ألیس منتهى التناقض أن تغزو الولایات المتحدة بلدا مثل العراق لا یملک أیا من أسلحة الدمار المزعومة بینما لا تفعل شیئا ضد بلد مثل کوریا الشمالیة التی تملک فعلا کثیرا من الأسلحة النوویة؟ فأجاب بوبیت: على العکس! بل إن المنطق السلیم یکمن تحدیدا فی ما یعتقد کثیر من الناس فی العالم أنه تناقض. فکل ما فعلته أمریکا ضد العراق منذ بدء التسعینیات إنما کان للحیلولة دون أن یصیر فی وضع مماثل لوضع کوریا الشمالیة. لأن بلوغ العراق تلک المرتبة کان یعنی أنه سوف یصبح من شبه المستحیل عملیا شن الحرب علیه ورغم أن بوبیت (وهو ابن أخت الرئیس جونسون) لیس من المقربین للإدارة الحالیة، فإنه بهذا قد شرح موقفها أبلغ شرح. الأمر الذی یعنی جوهریا أن إدارة بوش کانت على یقین من عدم امتلاک العراق لأسلحة الدمار. ویعنی فرعیا أنها اختارت، بسبب (ولیس رغم) ذلک، التذرع بأسلحة الدمار دون غیرها من الذرائع لأن هذه الذریعة کانت أقوى الأسلحة الدعائیة، أی أن کذبة أسلحة الدمار الشامل کانت أقوى 'أسلحة التضلیل الشامل' (حسب عنوان کتاب الصحافیین الأمریکیین شلدون رامبتون وجون ستاوبر).
أما بالنسبة للمسألة الفرعیة، فقد سبق لبول وولفویتز أن اعترف لمجلة 'فانتی فیر' فی آیار /مایو 2003 بأنه 'لاعتبارات تتعلق بالجهاز البیروقراطی للحکومة الأمریکیة، قرّ قرارنا على المسألة الوحیدة التی یتفق علیها الجمیع، وهی أسلحة الدمار باعتبارها السبب الأساسی' لشن الحرب. ومعروف أن هذا التبریر الشهیر صار یشار إلیه باسم 'الحجة البیروقراطیة' أو 'الذریعة البیروقراطیة'! وأما عن المسألة الجوهریة فإن الأدلة علیها بریطانیا وأمریکا لا تزال تتزاید منذ أعوام. وأحدثها ما ذکره المحقق الصحافی الأمریکی رون سوسکایند فی کتاب أصدره هذا الشهر من أن الاستخبارات البریطانیة تأکدت من مصدر عراقی موثوق (وهو یقصد رئیس الاستخبارات العراقیة السابق الفریق طاهر حبوش. إلا أن حبوش نفى صحة الادعاء) فی شباط /فبرایر 2003 أن النظام العراقی لیس لدیه أی أسلحة دمار ولکن البیت الأبیض، وخاصة دیک تشینی، لم یکن مستعدا لقبول أیة معلومة لا تتوافق مع رغبته فی الحرب. بل إن سوسکایند یقول إن الإدارة الأمریکیة کانت قد تأکدت، قبل ذلک، من صحة المعلومة ذاتها من وزیر الخارجیة السابق ناجی صبری الحدیثی. ولکنها لم تعلم البریطانیین بها لئلا یتعزز موقف بعض الأطراف البریطانیة التی کانت تسعى لمنع الحرب. وکان سوکایند أصدر قبل عامین کتابا هاما بعنوان 'عقیدة الواحد بالمئة' ذکر فیه أن دیک تشینی قال فی أواخر 2001 إنه 'إذا کان هناک مجرد احتمال لا تتجاوز نسبة صحته واحدا بالمئة بأن علماء باکستانیین یساعدون القاعدة على بناء سلاح نووی أو تطویره، فلا بد من التعامل مع هذا الاحتمال على أنه یقین'. ومن ثم أصبحت أمریکا الرسمیة تهتدی بهذه العقیدة الصماء فی حربها العمیاء على ما یسمى بالإرهاب.
إلا أن الأسرار التی کشفها کتاب سوسکایند الأخیر 'والتی تشمل، مثلا، تزویر سی ای ایه لوثیقة تزعم قیام علاقة بین العراق وهجمات 11 أیلول /سبتمبر' تجیز القول إن العقیدة التی صدرت عنها أمریکا فی غزو العراق لیست عقیدة الواحد بالمئة هذه، بل عقیدة الصفر بالمئة: أی الإصرار على العدوان رغم التیقن من انعدام الخطر المزعوم. ولهذا فمن الصعب تخطئة الرأی القائل إن إیران لا یمکن لها سد 'الذرائع البیروقراطیة' الأمریکیة إلا عکسیا، أی لیس بنزعها بل بتحقیق وجودها!
( بقلم مالک التریکی )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS