الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

عن مصر .. لا عن عبد الناصر

 

عن مصر .. لا عن عبد الناصر

  

مرّةً أخرى تشهد المنطقة العربیة سجالاً إعلامیاً حول جمال عبد الناصر الذی وافته المنیّة یوم 28 سبتمبر من العام 1970. فبعد 38 عاماً على غیابه، ما زال ناصر حاضراً فی کلّ بلد عربی بأشکال مختلفة هی فی معظم الأحیان تتّصف بالحبّ الأعمى أو بالحقد الأعمى، أو فی بعض الأحیان بالموضوعیة والتجرّد عن الهوى السیاسی أو المصالح الشخصیة.

ولعلّ مسلسل "ناصر" لکاتبه یسری الجندی ومخرجه باسل الخطیب، والذی تعرضه فضائیات عربیة خلال شهر رمضان، قد ساهم فی عودة السجال الإعلامی حول حقبة تاریخیة هامّة من تاریخ مصر والعرب، وعن دور قائد عربی لم یظهر مثیله فی کل فترة القرن العشرین رغم أنّه حکم مصر لمدّة 16 عاماً فقط، وهی فترة قلیلة نسبیاً قیاساً لفترة حکم العدید من الحکّام العرب منذ استقلال أوطانهم وحتى الآن.

إذن، لِمَ هذا الاستحضار الدائم لموضوع تجربة ناصر، من مؤیّدیه أو من معارضیه، رغم أنّ تجربته فی الحکم کانت محدودة بمصر فقط، ورغم أنّ ناصر لم یمت مخلّفاً وراءه ورثة للحکم، کما لم یستمرّ من جاء بعده فی رؤیة ناصر السیاسیة أو مضامینها الفکریة والاجتماعیة؟!

أعتقد أنّ الإجابة عن ذلک ترتبط بعناصر ثلاثة تجمع بین الشخص والموقع والمحیط. فلو ظهر جمال عبد الناصر فی غیر مصر لما استطاع أن یکون عظیماً بدوره ولما کانت تجربته بالقیمة نفسها، کما شرح ذلک الأستاذ محمد حسنین هیکل أکثر من مرّة فی کتاباته وأحادیثه. فالعنصر الأهم فی قیمة تجربة ناصر هو مکانها، أی مصر، وبما هی علیه مصر من موقع جغرافی یربط آسیا بأفریقیا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما کان – وما یزال- لهذا الموقع من أهمّیة استراتیجیة عسکریة لکلّ من أراد الهیمنة على عموم المنطقة. فحملة نابلیون بونابرت فی الشرق الأوسط کان مدخلها مصر. ووجود الاستعمار الإنجلیزی فی المنطقة کان أساسه السیطرة على مصر وقناة السویس. ثمّ کان النفوذ السوفییتی فی المنطقة من خلال العلاقة الخاصّة مع مصر، وهکذا کان زواله أیضاً بعدما طرد أنور السادات الخبراء السوفییت وأقام تحالفاً استراتیجیاً مع أمیرکا، کانت أولى إفرازاته معاهدة کامب دیفید مع إسرائیل، وإخراج مصر من الصراع العربی/الإسرائیلی، وفتح أبواب البلاد العربیة والإسلامیة لسیاسة العلاقات والتطبیع مع إسرائیل.

لقد تمیّزت حقبة ناصر بحالة معاکسة تماماً لما هی علیه الآن مصر والمنطقة العربیة. وکانت التفاعلات السیاسیة والاجتماعیة التی یحدثها ناصر فی مصر تترک آثاراً کبیرة لیس فقط داخل البلاد العربیة بل فی عموم آسیا وأفریقیا وأمیرکا الجنوبیة. وکان ذلک یؤدّی إلى تعزیز دور ناصر وقیمة تجربته خارج حدود مصر. فقوّة ناصر کانت قی قدرته على تحریک الشارع العربی وفی "رجع الصدى" لما یقوله ویفعله فی کثیر من بلدان العالم.

فلقد أدرک جمال عبد الناصر ما کتب عنه کثیراً المرحوم جمال حمدان عن "عبقریة المکان"، وما کتبه أیضاً المفکّر الراحل عصمت سیف الدولة عن دور مصر الریادی فی التاریخ القدیم والحدیث، وبأنّ مصر لا یمکن أن تعیش منعزلة عن محیطها العربی وعمّا یحدث فی جناحیْ الأمّة بالمشرق والمغرب بینما مصر هی فی موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها یرتبطان بالتطوّرات التی تحدث حولها.

وهذا هو العنصر الثانی من أسباب الاهتمام الدائم بتجربة ناصر. فالاختلال بتوازن مصر وبدورها یعنی اختلالاً فی توازن الأمّة العربیة کلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة ناصر وبعد معاهدة کامب دیفید.

لقد ربط القدر بین یوم انفصال سوریا عن مصر عام 1961 وبین أول أزمة صحیة تعرّض لها جمال عبد الناصر، ثمّ ربط القدر أیضاً بین وفاته فی 28 سبتمبر عام 1970 وبین مناسبة ذکرى الإنفصال آنذاک.

ورغم کل ما قیل وکُتب عن تجربة حکم جمال عبد الناصر فی مصر وعن سیاسة ثورة 23 یولیو بشأن العمل العربی المشترک، فإنَّ خیر شهادة لعبد الناصر کانت أنَّه دفع حیاته ثمناً من أجل الحفاظ على التضامن العربی، ولوقف سفک الدماء العربیة الّذی کان یحدث فی الأردن بین الجیش الأردنی ومنظمة التحریر الفلسطینیة طوال شهر أیلول/سبتمبر 1970، ولم یکن لهذه المأساة أن تتوقّف لولا الجهود المضنیة الّتی بذلتها القاهرة فی ظلّ قیادة جمال عبد الناصر وحتى آخر لحظة من حیاته.

مات ناصر وهو یحاول وقف انهیار التضامن العربی الذی بنى هو أساساته فی مؤتمر الخرطوم عام 1967، والذی توقفت بعده الصراعات العربیة/العربیة وبدأ السعی لبناء تضامنٍ عربی مقاتل ضدّ العدوّ الإسرائیلی .

مات ناصر وهو یسعى جاهداً لتحویل هزیمة عام 1967 منطلقاً لبناء وضعٍ عربی أفضل، ومن أجل التحریر والتقدّم والتکامل بین العرب .. مات وهو یبنی جیشاً استطاع بعد أشهرٍ قلیلة من هزیمة 67، أن یبدأ استنزافاً عسکریاً شدیداً للعدوّ الإسرائیلی، وأن یعدّ الخطط التی أدّت إلى انتصار حرب تشرین/أکتوبر عام 1973 ..

 أمّا العنصر الثالث الذی یشدّ الاهتمام  إلى تجربة ناصر بعد 38 سنة من وفاته، فهو مضامین رؤیة ناصر وسلوکه الشخصی النزیه وطبیعته القیادیة. وهذه کلّها نحتاجها الآن بشدّة  فی ظلّ أوضاع عربیة تسیر من سیء إلى أسوأ، ومن هیمنة غیر مباشرة لأطراف دولیة وإقلیمیة إلى تدخّل مباشر فی بلدان الأمّة، بل فی احتلال بعضها کما حدث أمیرکیاً فی العراق، وإسرائیلیاً فی لبنان، وغیر ذلک على الأبواب الأفریقیة والآسیویة للأمّة العربیة.

الأمّة العربیة لا تتحدّث الآن عن حلم التوحّد والتکامل بین أقطارها، کما کان الأمر فی فترة ناصر، بل هی الآن تعیش کابوس خطر تقسیم کلّ قطر على أسس عرقیة وإثنیة وطائفیة ومذهبیة.

الأمّة الآن تخشى على نفسها من نفسها أکثر ممّا یجب أن تخشاه من المحتلین لبعض أرضها والساعین إلى السیطرة الکاملة على ثرواتها ومقدّراتها.

فضعف جسم الأمّة العربیة هو من ضعف قلبها فی مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً فی قوالب فکریة جامدة یفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.

حبّذا لو یتمّ کسر هذه القوالب المتحجّرة، ولو تُنزَع اللصقات الحزبیة والأیدیولوجیة عن کثیر من الغایات النبیلة والتجارب المخلصة، وأن یتمّ وضع قواسم فکریة مشترکة لما تحتاجه الأمّة الآن من عناصر لنهضة عربیة جدیدة، وأن یتمّ استخلاص الدروس والعبر من تجارب الماضی، بإیجابیاتها وسلبیاتها، وفیها – کما هو حال التجربة الناصریة- الکثیر من الغایات النبیلة والسیرة النزیهة لتجربة اجتهدت وجاهدت کثیراً من أجل خدمة مصر والعرب کلّهم.

(  بقلم  صبحی غندور مدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن )

ن/25


| رمز الموضوع: 141204







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)