لا بدائل لحلّ القضیة الفلسطینیة دون استمرار المقاومة
لا بدائل لحلّ القضیة الفلسطینیة دون استمرار المقاومة
تجدّد الجدل، منذ مدة قصیرة، فى أوساط النخب الفکریة والثقافیة والسیاسیة الفلسطینیة حول مسألتین تبدوان شدیدتى الارتباط تتمحور الأولى حول تمسک السلطة الفلسطینیة بخیار المفاوضات مع إسرائیل وآفاق عملیة التسویة السیاسیة کما کرست جزءا منها اتفاقیة اوسلو الموقعة بین الطرفین منذ سنة 1993. أما الثانیة فتتعلّق بشکل الدولة ومستقبلها بالتوازى مع تردّد فکرة حلّ السلطة الفلسطینیة القائمة حتى من قبل بعض الشخصیات القریبة من سلطة رام الله.
ویتزامن هذا الجدل مع انسداد أفق التفاوض والتسویة مع الطرف الإسرائیلى وشعور قطاع هام من النخبة الفلسطینیة بعبثیة تلک العملیة. فبرغم اقتناع بعض الشخصیات والقوى الفاعلة الإسرائیلیة بضرورة إیجاد حلّ للمسالة إنقاذا للدولة الإسرائیلیة، قبل أى شیء آخر، غیر أن هذا البعض لا یمتلک الشجاعة الکاملة للتصریح بأفکاره وتجسیدها على ارض الواقع "مثل ما صرّح به اولمرت بعد تقدیم استقالته؟!"،وبالتالى إقرار سلام حقیقی!.
ولا تتردّد الأطراف الحاکمة الإسرائیلیة فى استخدام أسلوب المماطلة والتسویف مع الطرف الفلسطینى تارة واختلاق الذرائع الزائفة لتعطیل المفاوضات تارة أخرى لقطع الطریق أمام قیام دولة فلسطینیة مستقلة، فى الوقت الذى تمارس فیه القتل والاغتیال وقلع الأشجار وقصف البیوت وتهدیمها، وقضم الأراضى الفلسطینیة لإقامة المزید من المستوطنات والتکتلات الاستیطانیة وتقیید حرکة الفلسطینیین وإذلالهم بشکل یومى عند عشرات الحواجز.
ومقابل کل ذلک لا یتردد المفاوض الفلسطینی، حسب الکثیر من المراقبین، فى تقدیم التنازلات بکل أشکالها دون مقابل وهو ما أدى إلى أن تحقق إسرائیل منذ اتفاقیة اوسلو ما لم تکن قادرة على تحقیقه قبل ذلک. ورغم کل تلک العراقیل لا یزال أسلوب التفاوض مع إسرائیل خیارا استراتیجیا ثابتا تلتزم به سلطة رام الله التزاما کاملا.
أما حدیثها أحیانا عن إمکانیة اللّجوء إلى خیارات أخرى ومنها خیار المقاومة "بکل أشکالها" کما صرّح مؤخرا احمد قریع فیبدو،هذا القول، عند البعض فاقدا لکل مصداقیة ومضحکا عند البعض الأخر"؟!".
الأمر الذى دفع الکثیر من الرموز الفکریة والسیاسیة إلى دعوة السلطة الفلسطینیة القائمة إلى ضرورة مراجعة موقفها من المفاوضات بل وقفها إلى أن تتوقف إسرائیل عن عملیات الاستیطان وامتثالها لقرارات الأمم المتحدة المختلفة، وتهیئة الظروف الداخلیة الملائمة لإنجاح أى عملیة تفاوض وذلک من خلال بلورة أرضیة تفاهم وطنى بین القوى الفلسطینیة الفاعلة والقضاء بالتالى على الانقسام "المهزلة" بین غزّة والضفة الذى لا مبرّر له خاصة وان هذا الانقسام لا یدعم موقف المفاوض الفلسطینى وسلوکه فى أى مرحلة من المراحل بل قد یستغل من قبل الطرف الإسرائیلى لتعطیل التفاوض أو الالتفاف على المطالب الفلسطینیة الأساسیة المتمثلة فى قضایا القدس و الحدود و اللاجئین و الاستیطان و المیاه والأمن..
ویرى بعض الملاحظین أن القیادة الفلسطینیة الحالیة قد انغمست بعیدا وعمیقا فى خندق التسویة بالشروط والتصورات الإسرائیلیة، وهى لا تمتلک بالتالى لا القدرة على الاحتجاج أو التراجع عن بعض التزاماتها حتى وهى تلاحظ أن الطرف الآخر"إسرائیل" لا یتردّد فى التراجع عن أى من التزاماتها السابقة فى حالة تقدیرها بأن الأمر لا یخدم مصالحها الآنیة أو الاستراتیجیة.
ویرى بعض المحللّین السیاسیین أن المفاوضات، حتى بالطریقة المعتمدة قد تحولت إلى ضرورة بالنسبة إلى سلطة رام الله إذ أن استمرارها یؤمن لها الدعم الدولى ویحافظ علیه وعلى وجودها وبقائها، ویقطع بالتالى الطریق أمام البدائل الأخرى...
ورغم اقتناع قطاع واسع من قیادات السلطة الفلسطینیة بان إسرائیل غیر ناضجة للتسویة السیاسیة مع الفلسطینیین وانها لا ترید حلاً عادلا بل حلا یخدم مصالحها الامنیة والاستراتیجیة وإعراب الرئیس الفلسطینى محمود عباس "ابو مازن" منذ أسابیع عدة عن تشاؤمه من قیام الدولة الفلسطینیة ومن الحل العادل الشامل فى ظل الإدارة الأمریکیة الحالیة، فان ذلک لا یمنع من تأکیده وغیره من القیادات الأساسیة للسلطة الفلسطینیة تشبثهم وتمسّکهم مجدّدا بحل الدولتین "قومیتین" وبالحقوق المشروعة للشعب الفلسطینى ومطالبته إسرائیل بالاعتراف بمسؤولیتها عن نشوء قضیة اللاجئین وبضرورة إیجاد حل مرض لهذه القضیة.
ولا یتردّد الکثیر من الباحثین والمفکرین وبعض الفاعلین السیاسیین الفلسطینیین بطرح فکرة حلّ السلطة الفلسطینیة القائمة"سلطة اوسلو" کإحدى وسائل الضغط على إسرائیل والمجتمع الدولى بشکل عام إذ أن ذلک قد یدفع تلک الأطراف إلى التعجیل بإنجاز اتفاق سلام یلبى المطالب المشروعة الدّنیا للفلسطینیین"النقاط الستة"، فأى فراغ محتمل للسلطة فى الضفة الغربیة قد یؤدى إما إلى سیطرة حماس على الوضع وضمها إلى غزّة بما یمثّل ذلک من "أخطار"مفترضة على إسرائیل وربما المنطقة ککل أو "اضطرار"إسرائیل إلى إعادة بسط نفوذها وهیمنتها المباشرة على الضفة بما یعنى ذلک من مسؤولیات دولة الاحتلال والتزاماتها المختلفة تجاه الشعب المحتل کما تنص على ذلک المواثیق الدولیة وهو ما یعنى أیضا عودة مختلف أشکال المقاومة ضد سلطات الاحتلال ومنها تحدیدا المقاومة المسلحة والعنیفة...
غیر أن البعض یرى أن السلطة الحالیة عاجزة بکل المقاییس عن اتخاذ مثل هذا القرار وذلک نتیجة لتورّطها بالتزامات مختلفة مع إسرائیل والولایات المتحدة والاتحاد الأوروبى من ناحیة وعدم امتلاکها لاستراتیجیة نضالیة بدیلة من ناحیة اخرى، فى حین یعتبر البعض الآخر أن وجود السلطة الفلسطینیة فى حدّ ذاته یمثّل إنجازا تاریخیا لا یمکن للشعب الفلسطینى التخلى عنه مهما کان الأمر وبالتالى فان فکرة حل السلطة الفلسطینیة هى "أمنیة سیاسیة صهیونیة"، لذلک لا یمکن الالتجاء إلیها مهما کان الأمر.
ویرى بعض المحلّلین الإسرائیلیین انه أمام تواصل انسداد الطریق أمام رؤیة حل الدولتین وفى صورة عدم حدوث تحول سریع فى مسار المفاوضات بین الإسرائیلیین والفلسطینیین، فإن مسألة الحل على أساس دولة واحدة "ثنائیة القومیة" دیمقراطیة علمانیة ستأخذ طریقها من جدید.
وکان بعض الیساریین الصهاینة قد رددوا هذه الفکرة منذ العشرینات من القرن الماضى ووجدت، آنذاک، بعض الأصداء عند بعض العناصر الفلسطینیة وقد أعادت الحرکة الوطنیة الفلسطینیة طرح فکرة فلسطین الدیمقراطیة العلمانیة التى یعیش فیها الیهود والمسیحیون والمسلمون على قدم المساواة منذ سنة 1971 وبعد التخلى عنها سنة 1974 بتبنى البرنامج المرحلى الذى ینادى بإقامة سلطة وطنیة فلسطینیة على أى جزء من ارض فلسطین المحررة وصولا إلى تبنى هدف الدولة الفلسطینیة المستقلة حسب قرارات الشرعیة الدولیة أى فى الضفة والقطاع حسب إعلان الاستقلال بالجزائر سنة 1988..
وبدا مؤخرا الکثیر من الکتاب والمثقفین والسیاسیین الفلسطینیین من جمیع التیارات والاتجاهات السیاسیة "باستثناء الحرکات التى تتکئ على الدین الإسلامی" فى الداخل وفى الشتات إعادة طرح هذا البدیل والترویج له بل وحتى"التهدید" به من قبل بعض الرجالات المحسوبین على السلطة الفلسطینیة کأحمد قریع "أبو العلاء" وسرّى نسیبة وجبریل الرجوب ومحمد اشتیه رئیس مجلس الاقتصاد الفلسطینى سابقا ورئیس حملة أبو مازن الانتخابیة ووزیر الإسکان وهانى المصرى والبروفیسور على الجرباوى وعیاد البرغوثى وعشرات الشخصیات العامة والأکادیمیة والصناعیة والإعلامیة الذین یعملون على تشکیل قوة شعبیة، حسب صحیفة هآرتس الإسرائیلیة، ضاغطة لإیقاف المفاوضات ومطالبة إسرائیل بضم المناطق بسکانها.
ویرى بعض الکتاب والفاعلین السیاسیین الفلسطینیین أن التشبّث بالبرنامج المرحلى أو بخیار الدولتین لم یعد یتماشى مع الواقع والوقائع الذى تستمر إسرائیل فرضها بهدف إعاقة إقامة دولة فلسطینیة فى الضفة والقطاع المحتلین عام 1967 وإیجاد حلّ عادل لقضیة اللاجئین ویرى هؤلاء إن هذا الوضع یفترض تحول الفلسطینیین نحو طرح تسویة الصراع فى بعده الفلسطینى - الإسرائیلی، على المجتمع الإسرائیلى خاصة وعلى العالم عامة منن اجل الاندماج عوض الانفصال والتعایش عوض الإلغاء والإفناء خاصة و أن الشعب الفلسطینى قد قدم الکثیر من التضحیات دون أن یجنى مکاسب لصالح قضیته الوطنیة...
وان کان هذا البدیل النظرى یقلق قطاعا هاما من السلطة الفلسطینیة"القائمة"فانه یشکّل إزعاجا اکبر بالنسبة إلى دولة الکیان الصهیونی، بالرغم أن بعض الأطراف الحکومیة اعترفت بأنها مجرد تکتیک تعتمده السلطة الفلسطینیة للضغط على إسرائیل لمواصلة المفاوضات، غیر أن قیام ذلک سیؤدى إلى وجود أغلبیة عربیة تطالب بمساواة مدنیة تحکمها أقلیة عرقیة صهیونیة مما یؤدى إلى احتمال اندلاع حرب أهلیة بین "القومیتین" وذوبان الدولة الإسرائیلیة بالضرورة وهو الأمر الذى حذر منه مایکل نیومان – مؤلف کتاب "القضیة ضد إسرائیل" الذى قال أن "المناداة بدولة واحدة سیؤدى إلى تخلى إسرائیل عن سبب وجودها وتعرضها إلى هیمنة غالبیة عربیة علیها. وهذا بدوره سیشیر إلى استعداد للاذعان لأى شیء قد تقرره "الغالبیة" العربیة.
فهل یستطیع احد تصور ذلک فعلاً؟ هل سیغادر ملایین الیهود ببساطة إذا قالت الغالبیة أن علیهم أن یغادروا؟ هل سیوافقون على دفع مبالغ تعویضات ساحقة؟ کلا. سیقاتلون – وهذه المرة لن یکون هناک مجالا لحل وسط بین رؤیتین متنافستین".وهو نفس الأمر الذى کان رئیس الوزراء المستقیل أیهود اولمرت قد نبّه إلى خطورته مؤخرا طالبا من الإسرائیلیین إیجاد حلّ سریع فى صیغة الدولتین قبل أن یصابوا بالندم... غیر أن الدولة الإسرائیلیة الصهیونیة بجمیع مؤسساتها بما فى ذلک الأحزاب السیاسیة بمختلف مشاربها لا یمکن، بأى حال من الأحوال،أن تتخلى عن فکرة دولة إسرائیل، ابل إنها ترغب منذ مدة فى تحویلها إلى دولة خاصة بالیهود دون غیرهم.
ورغم أهمیة إعادة طرح فکرة أو حلّ الدولة الواحدة کبدیل ناجع عن حل الدولتین غیر أن بعض الکتاب الفلسطینیین یعتبرونه نوعا من "الهروب إلى الأمام ومحاولة للقفز عن الصعوبات الموضوعیة التى یصطدم بها النضال الوطنى التحررى الفلسطینی"وذلک بدلاً من البحث عن سبل ووسائل لمواجهة هذه الصعوبات بهدف تذلیلها.
ولاشکّ أن أهمیة طرح هذه البدائل الآن، إنما تکمن فى کون تمکّن الشعب الفلسطینى من مراکمة عدة تجارب وخبرات نضالیة نوعیة خلال العقدین الماضیین وهو بالتالى قادر بمساعدة القوى العربیة والعالمیة الحیة على مواصلة المقاومة والصمود بل وحتى ممارسة الردع فى مواجهة الدولة الصهیونیة لاستعادة حقوقه المشروعة.
وما هذا النقاش والحوار والجدل بین مختلف الأطراف الفلسطینیة الفاعلة حول هذه الخیارات المختلفة إلا تعبیرا عن حیویة هذا الشعب التى تتجسّد حیویته أیضا فى ممارسته النضالیة الخلاقة والنوعیة التى یفاجئ بها العالم یومیا..
( بقلم الکاتب التونسی الدکتورعبد اللّطیــف الحنّــاشـــی )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS