الضباط الأربعة: إحباط أمریکی جدید

عبد الستار قاسم
لا یکاد إحباط یلحق بأمریکا حتى یتبعه إحباط جدید، وهی تکاد تسجل رقما قیاسیا بعدد الإحباطات والإخفاقات التی منیت بها على المستویین المحلی والعالمی فی السنوات الأخیرة. أطلقت أمریکا العنان لتصریحاتها بعد انهیار الاتحاد السوفییتی حول العالم الجدید بقالب أمریکی، وأخذت تتمختر على الساحة العالمیة وتزهو وتتأمر وکأن الشعوب قد أصبحت طوع الإشارة. لکن مشاریعها العولمیة قد أخذت تنهار رویدا رویدا، والفضل الأکبر یبقى للعرب والمسلمین الذین تصدوا بکل قوة للسیاسة الأمریکیة، وتقریبا أنقذوا العالم من الاستبداد والتجبر الأمریکی. فشلت أمریکا فی العراق، وفی أفغانستان، وهی تفشل الآن فی باکستان، وفشلت فی لبنان وفی فلسطین، وفی عدد من دول أمریکا الجنوبیة. ولم تفلح فی الداخل الأمریکی، فتدهور مستوى التعلیم، ومستوى الرعایة الصحیة، ومستوى الخدمات المدنیة. وجاءت الأزمة المالیة لتضع أمریکا فی قفص الاتهام.
على المستوى اللبنانی، حاولت أمریکا جاهدة بالتعاون مع أفلاکها العرب تحویل لبنان إلى وکر للسفیر الأمریکی یکون فیه هو الآمر الناهی، والقضاء على حزب الله وعلى القوى الإسلامیة والقومیة والوطنیة الأخرى. وألقت بکل ثقلها من أجل حشر حزب الله وسوریا فی زاویة الاتهام بمقتل رفیق الحریری. جندت أمریکا مجلس الأمن وأدوات الدعایة والإعلام، والضغوط الاقتصادیة والأمنیة والعسکریة والقانونیة من أجل أن یکون الذی قتل الحریری سوریا أو حزب الله، أو قوى قریبة منهما.
قطّعت أمریکا لبنان، ووضعت الأخ ضد أخیه، والزوج ضد زوجته، والابن ضد أبیه، والجار ضد جاره، وبثت البغضاء والکراهیة بین اللبنانیین، وعطلت العمل الجماعی اللبنانی، وأدخلت لبنان فی دوامة سوداء من الأحقاد السوداء. تعطلت أعمال الدولة اللبنانیة على مدى سنوات عدة بسبب شلل المؤسسات، وانشغال المسؤولین بالمناکفات والعداوات والتصید. أیام طویلة حانقة وصعبة مرت على لبنان بسبب الأمریکیین الذین أصروا على تلبیس تهمة اغتیال الحریری لخصومهم السیاسیین.
کان هناک إصرار من قبل أمریکا وإسرائیل وأفلاکهما العرب على إشعال حرب أهلیة فی لبنان، وکانت دائما تثور ضجة مفعمة بالتحدی والتهدید مع کل مأخذ ولو صغیر على حزب الله، بل أن المآخذ کانت تصنع صناعة وتلفق تلفیقا من أجل جر حزب الله إلى حرب أهلیة. لکن الحزب کان دائما حکیما، وعمل جاهدا على التقلیل من أهمیة الاتهامات والاستفزازات، وجنب لبنان الصراع الدموی. وقد تجلت حکمة حزب الله عندما تجاوز الاستفزاز کل الخطوط الحمراء بمحاولة فرض رقابة على شبکة اتصالات الحزب وإلحاقها بالجیش اللبنانی. لقد حسم الأمور خلال ساعتین فی 6/7/ایار 2008، وقضى على إمکانیة نشوب الحرب الأهلیة بسرعة فائقة.
الآن انکشفت الأمور، وقطعا ستلوذ أمریکا إلى ذاتها تبتلع الألم والحسرة، أما إسرائیل فستجد نفسها أمام مآزق جدیدة لا یستطع أصدقاؤها العرب تقدیم عون جاد لها بخاصة أنها ضللتهم حول اغتیال الحریری. تحریر الضباط الأربعة عبارة عن حدث تاریخی لا یقل فی أهمیته الاستراتیجیة عن انتصار حزب الله عام 2006. هذا حدث یؤثر سلبا على مجمل السیاسة الأمریکیة فی المنطقة، ویضع حلفاء أمریکا فی مواقف حرجة وصعبة، وسیؤدی إلى رفع مستوى التأیید الشعبی للمقاومة العربیة.
ویبقى الأمل فی أن یتوحد أهل لبنان، وأن یدرکوا أن مشاکلهم لا یحلها الأجنبی، وإنما هو الذی یعقدها.