الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

المطلوب من أمریکا (عبد الستار قاسم)


عبد الستار قاسم

یستعد الرئیس الأمریکی لإلقاء خطابه الموجه للعرب والمسلمین من القاهرة فی محاولة منه لتحسین صورة أمریکا فی المنطقة العربیة الإسلامیة، ولإظهار جدیة فی حل القضیة الفلسطینیة بناء على رؤیة الدولتین. وواضح أن الرئیس الأمریکی الجدید مقتنع بأن سیاسات أمریکا فی المنطقة قد ارتدت عکسیا فی کثیر من الأحیان، وأن التحیز الأمریکی الأعمى لإسرائیل قد أفرز الکثیر من المعطیات التی أثرت سلبیا على المصالح الأمریکیة فی المنطقة، وأبقت العالم مشغولا بما یطرأ فی المنطقة من حروب وتوترات. لکن هل سیملک الرئیس الأمریکی ما یکفی من التصمیم لیقیم سیاسة أمریکیة متوازنة تحفظ حقوق الشعوب، وتعترف بحق العرب والمسلمین بالاحترام؟
ما یطفو على السطح حتى الآن من تصریحات یشیر إلى أن الرئیس الأمریکی متردد، وأنه لا یملک تصورا مفصلا واضحا حول ما یمکن أن یؤدی إلى هدوء المنطقة واستقرارها. هو یتکلم حتى الآن عن حل الدولتین دون أن یشرح ماهیة الدولة الفلسطینیة، ویردد بشأنها عبارة القابلة للحیاة والتی هی عبارة غامضة لا تؤخذ على عواهنها؛ وهو أیضا یحاول ربط هذا الحل بقبول العرب والمسلمین لإسرائیل وتطبیع العلاقات معها؛ لکنه یبدو واضحا بشأن الاستیطان فی الضفة الغربیة دون أن یذکر القدس کمدینة محتلة، إذ طلب من إسرائیل التوقف عن البناء الاستیطانی بعبارات لا لبس فیها.
هناک من یرى أن القضیة الفلسطینیة هی منبع الأزمات فی المنطقة، وأن غیاب الجدیة الأمریکیة فی مواجهة إسرائیل سیفاقم الوضع فی المنطقة وسیؤدی إلى ارتفاع شعبیة القوى  المسماة بالممانعة وتمکنها من الزحف على هیمنة الدول التی تدور فی الفلک الأمریکی. ویرون بأن سیاسة أمریکیة أکثر جدیة ستحافظ على استقرار المنطقة واستمرار الأنظمة العربیة، وتعزیز التحالف العربی الإسرائیلی فی مواجهة إیران. على الرغم من أن هذه الرؤیة تتضمن شیئا من الصحة، إلا أن المسألة أوسع بکثیر من هذه الزاویة المحدودة وذلک للأسباب التالیة:
قضیة اللاجئین الفلسطینیین
تتوهم الإدارة الأمریکیة بفعل السیاسات العربیة بأن إقامة الدولة الفلسطینیة سینهی الصراع العربی الإسرائیلی، وهی بذلک تتناسى العنصر المرکزی وهو قضیة اللاجئین الفلسطینیین. هناک فلسطینیون یکتفون بإقامة دولة فلسطینیة، ویقبلون بحل الدولتین، لکن هناک آخرین یرون بأنهم لا یریدون الدولة إذا کان ثمنها الاعتراف بإسرائیل. المشکلة الأساسیة هی أن هناک حوالی ستة ملایین لاجئ فلسطینی مشتتین فی أصقاع الأرض، وأغلبهم یعیش حیاة صعبة جدا فی المخیمات، وأن الهروب من إعادة هؤلاء الناس إلى وطنهم عبارة عن خداع ذاتی لا ینتهی إلى النتائج المرغوب بها. مسألة إقامة الدولة عبارة عن مسألة هامشیة بالمقارنة مع حق العودة، وإذا أقیمت فإن وقتا قصیرا سیمر على استقرارها فی ضوء ضغط قضیة اللاجئین. صحیح أن هناک بحثا عن حل یسمى بالعادل وفق قرار مجلس الأمن 242، لکن لا عدالة بدون حق العودة. عدد لا بأس به من الفلسطینیین سیقبل التوطین، أو سیکتفی بعودة إلى الضفة الغربیة، لکن العدد الرافض لهذا الحل کبیر بما یکفی للاستمرار فی المطالبة بحق العودة بکافة الأشکال.
ثم أن فکرة الدولة المطروحة الآن لا تقیم دولة حقیقیة، وإنما تقیم کیانا فلسطینیا یعمل وکیلا أمنیا لإسرائیل, هذا أمر تشهد علیه السیاسة الأمریکیة الحالیة التی تعمل على تجنید فلسطینیین لملاحقة من یسمون بالإرهابیین وللحرص على الأمن الإسرائیلی مقابل راتب آخر الشهر. أمریکا تعمل على شراء الفلسطینیین، وفی سیاستها هذه أحدثت شروخا سیاسیة واجتماعیة خطیرة فی الداخل الفلسطینی، وعملت على القضاء على فکرة الاعتماد على الذات، وأمعنت فی التدمیر الأخلاقی للشعب الفلسطینی. هذه سیاسة لا تنتج سلاما، ولا تنتج توافقا أو اتفاقا داخلیا یحفظ السلام الداخلی بین الفلسطینیین, ولولا هذه السیاسة الأمریکیة لما وصل الفلسطینیون فیما بینهم إلى هذه الدرجة من الاقتتال والجفاء والکراهیة والبغضاء.
إن ما یثیر التساؤلات المشروعة حول جدیة الدور الأمریکی فی البحث عن حل للقضیة الفلسطینیة هو دعم أمریکا غیر المشروط لإسرائیل، وإصرارها على أن السلام لا یتحقق إلا إذا کانت إسرائیل قویة. المعنى أن أمریکا تعمل دائما على تأکید قدرة إسرائیل العسکریة بحیث تتفوق على الدول العربیة منفردة ومجتمعة، وهی بذلک تؤکد ضرورة فرض السلام وفق معاییر القوی، ولیس وفق أسس العدالة. لا یوجد توازن بتاتا بین الدعم المالی الأمریکی البخس للفلسطینیین والمشروط بالالتزام بملاحقة الإرهاب والإرهابیین، وبین دعم إسرائیل بطائرات إف 35، وملیارات الدولارات.
من الضروری أن ترى الولایات المتحدة التحول فی میزان القوى فی المنطقة العربیة الإسلامیة، ذلک لکی تقدّر بأن ما کان مقبولا لدى قطاعات عربیة وإسلامیة فیما یخص القضیة الفلسطینیة لم یعد مقبولا الآن، وأن استعدادات التنازل التی کانت قائمة منذ فترة قد خفت حدتها الآن. فمثلا، کان من الممکن لقوى المعارضة الفلسطینیة أن تمرر فکرة حل الدولتین قبل عدة سنوات، وکان من الممکن أن تقبل سوریا بشروط لقاء انسحاب إسرائیل من الجولان، لکن الآن أصبح الوضع مختلفا. من الحکمة عند البحث عن حلول أن یتم أخذ میزان القوى بالاعتبار، لا أن یبقى المرء تحت وطأة میزان قوى قد کان.
أمریکا غیر عملیة عندما تطلب موقفا عربیا وإسلامیا رسمیا جماعیا فی الاعتراف بإسرائیل وتطبیع العلاقات معها لقاء اعتراف إسرائیل بحل الدولتین. هذا طلب لن یتأتى لها الآن لأن دولا عربیة وإسلامیة ترفض وجود إسرائیل إما ضمنا أو صراحة، ولأن بعضها سیقع تحت انتقادات شدیدة من التنظیمات الإسلامیة. أی أن الطلب فیما إذا لُبّی سیعرض العدید من الأنظمة القائمة للهجوم ومخاطر الصراعات الداخلیة.
دعم الاستبداد العربی
من الصعب جدا على أمریکا کسب ود الجمهور العربی ما دامت تدعم الأنظمة السیاسیة القائمة حالیا. الأنظمة العربیة مستبدة وقمعیة وتمنع الحریات، ووفق تصنیف جهات کثیرة من ضمنها الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولیة وهیومان رایتس ووتش نجد أن الوطن العربی هو أشد مناطق العالم معاناة فی هذا المجال. أنظمة العرب توظف أجهزة الأمن لیس دفاعا عن الدولة وإنما عن النظام، وهی تقیّم الأشخاص لیس وفق مؤهلاتهم وکفاءاتهم، وإنما وفق موالاتهم للنظام.
الأنظمة العربیة أنظمة قبلیة تعصبیة، أو أنظمة عسکر تفتقد للشرعیة، وهی جمیعها شریکة فی حالات التخلف العلمی والاجتماعی والثقافی والسیاسی والاقتصادی التی تعانی منها الأمة. قادت هذه الأنظمة العرب من تخلف إلى تخلف ومن إحباط إلى آخر، ومن هزیمة إلى أخرى، وهی تحول دون المشارکة للقطاعات الأوسع، وتلاحق الذین یطالبون بأدوارهم فی صیاغة حاضر ومستقبل الجمهور. وبالرغم من ذلک، أمریکا تدعم أغلب هذه الأنظمة وتعطیها المجال لممارسة قمعها وتنکیلها بالمعارضین الذین یدافعون عن حقوق الناس. وفی هذا تضحی أمریکا بالمبادئ الدیمقراطیة التی تنادی بها، وتغض الطرف عن کل الممارسات اللا إنسانیة التی تقترف لیل نهار فی أرجاء الوطن العربی، بل هی شریک فی أغلب الأحوال وتقدم الکثیر من المعلومات المخابراتیة لأجهزة أمن العرب.
ینظر أغلب العرب بعین من الریبة والشک والعداء تجاه أمریکا لأنها تدعم من یهددون الأمن العربی وخصوصیة الإنسان. دعم الأنظمة العربیة التی تتمتع بنسبة قلیلة من التأیید الشعبی واضح للعیان ویشکل إدانة لسیاسة الولایات المتحدة فی المنطقة. الأنظمة العربیة وفق العدید من الاستطلاعات لا تتمتع بتأیید أکثر من 15% من الناس، وهم فی الغالب من المستفیدین مباشرة من هذه الأنظمة ویعملون فی وظائف حکومیة وأجهزة الأمن، ومن الصعب على أمریکا أن تحسن صورتها ما دامت تحالف الأنظمة على حساب الجمهور. فضلا عن أن أمریکا تغامر بصدقیة دفاعها عن الدیمقراطیة وحقوق الإنسان، وتجعل من نفیها مادة للتندر أمام المثقفین العرب الذین یتطلعون نجو الحریة.
ومن المفروض ألا تنخدع أمریکا ببعض المثقفین الذین یوالونها ویروجون لسیاساتها، فهؤلاء یقعون فی الغالب تحت تأثیر الأموال التی یحصلون علیها من الدول الغربیة لقاء إدارتهم لمراکز ومنظمات غیر حکومیة لا تبحث عن سبل النهوض بالأمة.
نهب الثروات العربیة
الشرکات الأمریکیة بخاصة العاملة فی مجالات الطاقة هی الأکثر سطوة على الساحة العربیة، وهی التی تحقق الأرباح الهائلة بسبب قدراتها الاستخراجیة والتسویقیة. تتحالف القوى السیاسیة الأمریکیة مع هذه الشرکات الضخمة، وتوظف قدراتها العسکریة من أجل الهیمنة وتحویل العدید من الأنظمة العربیة إلى مجرد أنظمة ریعیة تبذر الأموال التی تحصل علیها دون توظیفها فی أعمال الاستثمار. أمریکا هی المهیمنة على الخلیج، ومستعدة دائما لحروب تدفع ثمنها المنطقة من أجل الإبقاء على هیمنتها.
أمریکا تحول دون برامج التطویر العربیة المستندة على الرقی العلمی والتطویر التقنی، ومن ثم النهوض الاستشماری فی مختلف القطاعات الاجتماعیة والاقتصادیة والثقافیة. یبدو أنها سعیدة فی رؤیة أنظمة العرب توظف أموالها فی أعمال الترفیه والمشابهة الحضاریة المظهریة، ولا تعمل على دفعها نحو استثمار إنتاجی یمکن أن یشکل حصنا للمستقبل ویقلل من اعتماد العرب على النفط.
الإصرار على تفتیت العرب
الاستعمار الغربی هو الذی مزق وادی النیل وسوریا والجزیرة العربیة، وهو الذی صنع هموما خاصة فی المغرب العربی ما زالت تعمل عکس متطلبات الوحدة. وقد ساهمت الولایات المتحدة بالتعاون مع الأنظمة العربیة فی صناعة ثقافات عربیة محلیة لکی یتحول کل شعب عربی إلى قومیة بحد ذاته على حساب الفکر الوحدوی. حتى أنها غرست فکرة التشتت العربی لدى العدید من المثقفین العربی الذین باتوا یرون أنفسهم خارج الأمة العربیة، وینزعون نحو تکریس دولهم کهویة تاریخیة منفصلة عن التاریخ العربی-الإسلامی.
لم یعد فی هذا العالم مکان للدول الصغیرة، وهناک اتجاه نحو التکتلات الکبیرة، وأکبر شاهد على ذلک هو الاتحاد الأوروبی الذی ما زال یتسع حتى الآن. الدول الصغیرة عبارة عن مناطق نفوذ، وهی تعیش على هامش الاقتصاد العالمی، وتعتمد إلى حد کبیر على الصدقات أو تحت رحمة الشرکات العالمیة الکبرى. أغلب البلدان العربیة عبارة عن إقطاعیات صغیرة إما جغرافیا أو سکانیا أو جغرافیا وسکانیا معا، وهی لا تملک مقومات الاستقلال والتمیز، وإذا تطلع العرب نحو مستقبل یساهمون فیه بالحضارة العالمیة فلا مجال أمامهم غیر الوحدة.
الملاحظ أن الولایات المتحدة الأمریکیة لیست فقط عائقا أمام الوحدة العربیة، بل هی عامل هام فی تفتیت الوحدة الوطنیة لعدد من البلدان العربیة مثل لبنان وفلسطین والعراق والسودان والصومال والیمن ومصر. إن لم تکن أمریکا متآمرة مباشرة فی هذا الاتجاه، فإن مصالحها تتطلب عملیة التمزیق الداخلی لدول عربیة، وتؤدی فی النهایة إلى الاقتتال الداخلی. المطلوب أن ترفع أمریکا یدها عن الشعوب العربیة، وأن تتوقف عن دعم أطراف على حساب أطراف أخرى.
الوجود العسکری
أمریکا موجودة عسکریا الآن بشکل ظاهر فی عدد من البلدان العربیة مثل السعودیة والکویت والعراق والأردن ومصر وقطر، وفی هذا ما یثیر الکثیر من المشاعر العربیة ضدها. إنها موجودة بمبارکة أنظمة عربیة، لکن هذه الأنظمة متهمة من قبل جمهور عربی واسع بأنها عبارة عن أدوات بید أمریکا ولا تملک لنفسها قرارا، وإذا أرادت أمریکا تأکید نفسها کصدیق للعرب فإنه من المطلوب منها أن تحمل أمتعتها وترحل.
الخلاصة
ربما تجد أمریکا الآن أن الصعود الإیرانی یتطلب بعض العقلانیة فی التعامل مع العرب من خلال الأنظمة العربیة ذلک من أجل تمکین الأنظمة بعض الشیء من القیادة، ومن أجل إیجاد تبریر لها فی حال تحالفها مع إسرائیل وأمریکا ضد إیران. ترى الأنظمة العربیة فی إیران خطرا زاحفا علیها، وهی تلتقی مع إسرائیل فی ذات الحسابات، وترى أنه من المهم تهیئة أجواء مخادعة حتى تتمکن من المشارکة فی أعمال قد لا تبدو مریحة للعربی. تستطیع أمریکا أن تفعل الکثیر من أجل صناعة هذه الأجواء، لکنها تبقى مصطنعة ولا تدوم طویلا.
إذا أرادت أمریکا إقناع العرب والمسلمین بجدیتها فإن أمامها أن تتوقف عن دعم إسرائیل أولا، إذ لا یعقل أن تکسب مصداقیة فی الوقت الذی تحارب فیه أمریکا بندقیة الحریة العربیة، وتقوم بتسلیح إسرائیل بمختلف أصناف أسلحة التدمیر. لا یکفی من أمریکا المناداة بدولة فلسطینیة ووقف الاستیطان، وإنما مطلوب إجراءات عملیة فی مواجهة إسرائیل وتأییدا للحقوق الوطنیة الثابتة للشعب الفلسطینی. وإذا کان لها أن تتجنب مشاکل مستقبلیة مع الجمهور العربی فإن علیها تبنی سیاسات تنسجم مع تطلعات هذا الجمهور ولیس مع مصالح الأنظمة التی تکبت أنفاسه.


| رمز الموضوع: 141256







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)