من القاهرة مع خالص الحب (د.عزمی بشارة)
من القاهرة مع خالص الحب
* د. عزمی بشارة
من الغرائب أن یعلن رئیس الولایات المتحدة عن نیته مخاطبة العالم الإسلامی. فلنجمعه له إذا، ولیجلس بأدب ویستمع. ومن الغرائب أن یکرر الإعلام العربی ویروِّج للحدث بنفس لغة منظِّم الحدث: "یلقی الرئیس الأمیرکی خطابا موجها للعالم الاسلامی". وفور إعلان النبأ یتحول طبعا إلى "الخطاب المنتظر"، و"الخطاب المتوقع"...
ولا أدری لماذا أصر الإعلام العربی طیلة أکثر من اسبوع على محاولة استشراف ما سوف یأتی فی الخطاب، کأنه حربٌ سوف تقع أو سلامٌ سوف یبرم. هل کان سوف ینجم عن هذه المعرفة شیء ما، خطوات هامة مثلا یجب اتخاذها قبل أن یلقی خطابه؟ لا فرق ان توقعنا ام لم نتوقع، ویمکن للإعلامی العربی أن ینتظر یومین لیسمع، فلیس هنالک ما یضطره أن یتنبأ بما سوف یقوله الرجل. ولن یستبق أحد الخطاب بإعلان خطوة سیاسیة ما لو عُرِفَ المضمون. ولیست مهنته کالتنجیم أو الشغف بمعرفة المصائر قبل وقوعها القدری. إنها صناعة خلق الانتظار والتوقع والترقب والاهتمام، وصبها جمیعا فی قالب معین واتجاه معین. وقد صیغ هذا الاتجاه مؤخرا من خلال تأکید کلمة تاریخی: "زیارة تاریخیة"، "خطاب تاریخی".
ومن هنا فخلافا لما یُروَّج، لیس الرئیس الأمیرکی بحاجة ان یقوم بحملة علاقات عامة، فهنالک من یقوم بها من أجله. هنالک من یخترع هذا النوع من الاهتمام.
وطبعا هو لا یخاطب العالم الإسلامی، بل یطرح مقاربة جدیدة للمنطقة من قبل السیاسة الخارجیة الأمیرکیة. وقد سبق أن قیل غالبیتها، منذ ان القى کلمته فی موظفی وزارة الخارجیة مرورا بخطابه فی ترکیا وخطابه الموجه للشعب الإیرانی. وقد انتُخِب لیجری هذا التغییر فی الخطاب السیاسی الامیرکی. ویخطئ من لا یرى تغیرا وتغییرا. أتى التغییر بعد أن أفشلت المقاومة وغیرها الخطاب السیاسی السابق لقضایا المنطقة مقاربةً وممارسةً. هنالک تغییر. وقد فُرِضَ التغییر بفضل مقاومة الشعوب العربیة للسیاسة السابقة فی العراق وفلسطین ولبنان، ولیس بفضل من یصفقون دون شروط لهذه السیاسة، أکان ذلک فی عصر الرئیس السابق او الحالی.
ولکن مجرد تکرار الإعلام العربی للعنوان الذی اختاره هو " مخاطبة العالم الإسلامی" ضاعف من قوة الخطاب. وخلق نزعة للمبالغة ولاعتبار کل ما قیل جدیدا. إذ صُوِّر العالم الإسلامی کائنا موحدا متجانسا ینتظر فی حالة ارتباک وذهول وقلق، لا یهدأ له بال قبل سماع کلمة الرئیس. ولا بد من مکافأته على هذا الانتظار باعتبار الخطاب بدایة مرحلة جدیدة.
لکن العالم الإسلامی بعیدا عن التجانس سیاسیا، فهو یتنوع من حلفاء لأمیرکا بدرجات متفاوتة وحتى خصوم وأعداء لسیاستها بدرجات متفاوتة، ولا یمکنه أن یخاطبهم جمیعا فی إطار واحد. فالولایات المتحدة حالیا تخاطِب مسلمی وزیرستان وأفغانستان بلغة القاذفات مثلا، ومن بین من ینفذ هذه السیاسة الأمیرکیة فی باکستان وأفغانستان مسلمون أیضا. ومن المرجح أن المسلم فی إندونیسیا لم ینتظر لیجلس بأدب ویستمع الى خطاب الرئیس الامیرکی فی القاهرة.
ناهیک بأنه کان من الأسهل والأکثر منطقیة أن یدَّعی الرئیس أنه یخاطب العالم العربی من القاهرة، ولکن الولایات المتحدة رغبت وترغب بإخراج مصطلح العالم العربی من التداول أصلا، اللهم إلا فی سیاق مبادرة السلام العربیة. والغریب أن العرب الذین یؤکدون على العروبة ضد إیران فقط لم یکرّروا تأکیدهم على العروبة فی هذه الأیام "التاریخیة".
ولا شک ان الرئیس الجدید، وهو ظاهرة صوتیة ( مع الإضافة أنها ظاهرة صوتیة سجالیة لبقة ومثقفة)، قد حُمِل إلى السلطة على موجة تغییر فعلیة یفرِحُ حلفاءه المحافظین فی العالم الإسلامی بأنه لا یسعى، ولا یدعی أنه یسعى ل"ثورة دیمقراطیة دائمة" کالمحافظین الجدد، بل یعتمد لغة المصالح البراغماتیة التی میزت المحافظین فی الماضی. وقد بیَّنت هذه اللغة فی الماضی، وهی تبیِّنُ حالیا أیضا نفاق اللبرالیة الامیرکیة "التقدمیة" حین یتغنى ممثلها الأبرز حالیا، أی الرئیس الامیرکی، لغرض النفاق بحکمة ملک لا یشترک معه فی شیء. هذا هو مصیر اللبرالی خریج هارفرد، والذی حملته موجة تغییر شبابیة الى الحکم لیمثل قیما جدیدة، فوجد نفسه متبعا لسیاسة المحافظین بدل المحافظین الجدد، إذ حوَّل لقاء المصالح الى المعیار.
وطبعا یغلَّف لقاء المصالح بالکلام المعسول عن "لقاء الحضارات" و"حوار الحضارات" و"احترام الحضارات" و"الانا والآخر"، بدل صراع الحضارات. وهو نوع من الکلام الذی یسیر على حبل موازنا بین النقائض یتقنه الرئیس الحالی واتقنه فی الحملة الانتخابیة، خاصة وأن لدیه اطلاع على عبارات یساریة وتقدمیة و"لائقة سیاسیا" یستخدمها فی شرح مصالح الولایات المتحدة.
و رغم انتماء اللغتین (لغة حوار الحضارات ولغة صراع الحضارات) لنفس المنظومة الفکریة التی تقسم العالم سیاسیا أیضا الى حضارات، فان النفاق یبقى أفضل من الحرب. وقد کشف الرئیس الامیرکی عن نوع "رسالته" الى العالم الاسلامی عندما تغنىَّ بحکمة النظام الرسمی العربی القائم. وکان منافقا بالمعنیین، بمعنى التواضع الکاذب فی التعامل مع المناصب والوجاهات، لان التواضع هنا لیس تواضعا بالفعل بل محاولة فی الخداع لکسب الود، ولأنه یتضمن استخفافا بعقول الناس. والنفاق یعنی امتداح ما لا یعجبه، کما یعنی التضخیم الانتقائی لعناصر یصح فیها المدیح، کما یکسب المنافق شخصا بمراءاته، متجاهلا التناقض القیمی لان لدیه مصلحة معه. إنها السیاسة بأقبح أشکالها.
لغة النفاق الاستعماریةلم یخترعها الرئیس الامیرکی الجدید. إذا اکتفى بالتأکید على الوجه المشرق النیر فی الإسلام معتمدا على آیات عدة تبعها تصفیق من قبل الباحثین عن الاعتراف بالإسلام فی الغرب، بعد ان کان نفس الرئیس قد تعامل مع الإسلام کأنه تهمة او تشهیر به حین "اتُهِّم" به إبان الحملة الانتخابیة. وهو الآن یأخذ راحته فی النفاق بعد أن تحرر من الحملة الانتخابیة التی تفحصت علاقته بالإسلام بمجهر الیمین وماکین. والکلام التلفیقی کما اسلفنا اختصاصه الدائم، مع الدیمقراطیة وضد تصدیرها، مع الفلسطینیین وضد المقاومة، مع الحرب على أفغانستان وضد الحرب على العراق ویعتبر القضیة برمتها قضیة أفکار نمطیة، یدین العنف الفلسطینی ولیس عنف الاحتلال، ولکنه ینتقد الاستیطان... هذا اختصاص توازن الألفاظ الذی لا یضر ولا ینفع خارج الواقع والمممارسة. ولو لُفِت نظره فسوف یدخل فی الخطاب القادم کلمة ضد العنف الإسرائیلی ثم سیبرره فی العبارة التالیة، فهو کما قال ضد الحرب على العراق، ولکن تغییر صدام بفضلها کان إیجابیا.
أما نابلیون فأذکر القارئ أنه قال فی بدایة حملته على مصر إذ خطب حسبما نقل الجبرتی بالعلماء والمشایخ مفتتحا کلامه بالبسملة رافضا لیس الشرک فحسب، بل حتى مبدأ الآب والابن: " بسم الله الرحمن الرحیم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شریک له فی ملکه …أیها المشایخ والأئمة ..قولوا لأمّتکم أنّ الفرنساویة هم أیضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلک أنهم قد نزلوا فی روما الکبرى وخرّبوا فیها کرسی البابا الذی کان دائماً یحّث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزیرة مالطا وطردوا منها الکواللیریة الذین کانوا یزعمون أن الله تعالى یطلب منهم مقاتلة المسلمین". لقد ادعى نابیلون انه مسلم، وان الفرنسیین مسلمون وأنه حارب الفاتیکان لانه أطلق الحملات ضد المسلمین. صدق او لا تصدق!! ولن أضیف. وهو نفس نابلیون الذی دعم إقامة دولة للیهود فی فلسطین قبل نشوء الصهیونیة. مهما نافق الرئیس الامیرکی الجدید بلغة اللیاقة السیاسیة، "من ناحیة... ومن ناحیة أخرى..." بشکل لا یغضب أحد، إلا أنه لن یصل الى مستوى خطابات أخرى سمعها العرب الحالیون وأسلافهم. ولا یرغب بعضهم بتذکرها.
سوف یفرح الرئیس الامیرکی الجدید المحافظین العرب ببراغماتیته، وعدم رغبته بتصدیر الدیمقراطیة وبرغبته بالتعایش على أساس المصالح المشترکة مع الأنظمة العربیة والإسلامیة القائمة، هذه المصالح المغلفة بحوار الحضارات، والتسامح والاحترام المتبادل. ولکنهم سیغضبون إذا اتبع نفس البراغماتیة تجاه إیران. أما اللبرالیین الجدد العرب، الذین التقوا مع المحافظین الجدد على تصدیر الثورة الدیمقراطیة على المدمرات الامیرکیة فسوف یخیِّب أمل بعضهم، ولکنهم سوف یعوِّضون عن ذلک بتمکنهم من مدح أمیرکا علنا لأنها تخلت عن الحرب المباشرة والفوریة لصالح لغة الدبلوماسیة والسلام والحوار وغیرها، وهذا ما سوف یحصل فعلا فی منطقة الخلیج وغیرها. وعندما تتراجع الولایات المتحدة عنها بسبب "التعنت" الإیرانی ورفض وقف التخصیب، أو إذا لم یتم التوصل الى تسویةصفقة ما إیران، فسوف یمتدحون أمیرکا أیضا حین تشدد العقوبات.
فلسطینیا:
من اتفق من العرب مع کل ما قاله الرئیس الامیرکی السابق، لا یفترض أن یهمه کثیرا ما سوف یقوله الرئیس الجدید، ولا تحلیلنا لما أدلى ویدلی به. فهو سوف یتفق مع الرئیس الأمیرکی على أیة حال.
وهل کانت لدى النظم العربیة الحلیفة للولایات المتحدة مشکلة مع ما درج بوش على قوله، لکی تتأمل خیرا مما سوف یقوله الرئیس الجدید؟ فما یقوله رئیس الولایات المتحدة هو خیر بحکم تعریفه، وذلک بالنسبة لمن یرى أنه لا بد من قبول ما یقوله والتنظیر له وشرحه، ولو قال عکس ما یُنَظَّر له حالیا. فهذه هی الاستراتیجیة الوحیدة فی جعبة هذه النظم.
ولکی لا أصعِّب على أحد هضم ما یقال لن استعین بخطابات سابقة لبوش حول الإسلام والتطرف والاعتدال والخیر والشر اتفق معها عرب أمیرکا المحافظون، وکلاما آخر حول ضرورة الدیمقراطیة اتفق معه علیها عرب أمیرکا النیو- لبرالیون، فوجد کلٌّ منهم ضالته فی کلام بوش. ولو کانوا على طرفی نقیض فکریا، لم یکونوا کذلک ممارسة. فکان التحالف مع بوش کافیا للقاء النیو لبرالیین مع الأنظمة غیر اللبرالیة وغیر الدیمقراطیة العربیة الحلیفة للحلیف... بل سوف أذهب الى خارطة الطریق.
ولماذا یتأمل العرب جدیدا فی الشأن الفلسطینی من الرئیس الامیرکی ما داموا قد وافقوا بحماس على خارطة الطریق التی طرحها بوش؟ وقد حوَّلوا هذه الخارطة الى مطلب وسقف تجری مطالبة إسرائیل بتنفیذه بعد أن نفذ الفلسطینیون حصتهم منه. وظهر ذلک جلیا إبان الحرب على غزة، عندما قمعت السلطة فی الضفة لیس فقط المقاومة، بل أیضا التضامن السلمی مع غزة. فهذا برأیهم یؤهل الفلسطینیین للمطالبة أن تنفذ إسرائیل حصتها من الخارطة ما دامت فقراتها الأولى المتعلقة بهدم النبى التحتیة اللإرهاب، إما نفذت او قید التنفیذ الحثیث. ولماذا یتوقع العرب جدیدا من الرئیس الجدید ویهتفون لإصراره على دولة فلسطینیة وحل الدولتین ما دام بوش قد رأى ( من رؤیا، والمقصود رؤیا بوش) دولة فلسطینیة قبل نهایة عهده؟ سبق أن تحمسوا لرؤیا بوش، ویتحمسون الآن لرؤیا اوباما.
تغیرت أمیرکا، لا شک. کما تغیرت فی عهد روزفلت وکندی وریجان. أما المشکلة فهی تغییر عقل الأنظمة العربیة السیاسی.
صحیح أن هنالک نبرة أمیرکیة جدیدة تجاه إسرائیل تشبه نبرة الیسار الصهیونی ولیس الیمین الصهیونی، بالتأکید على "حقین لشعبین"، وتعتبر الدولة الیهودیة قیمة علیا. وترسم تکافؤا حیث لا تکافؤ. حسنا، نبرة جدیدة إذا. ولکن حتى هذه النبرة الجدیدة ناجمة لیس عن تغییر فی أمیرکا فقط بل تغییر فی إسرائیل أیضا. فهنالک حکومة فی إسرائیل ترفض التعهد شفویا بتجمید الاستیطان کما فعلت الحکومة الإسرائیلیة السابقة حتى لإدارة بوش، کما ترفض الالتزام الشفوی بمبدأ حل الدولتین کما فعلت الحکومة السابقة فی عهد أولمرت. هذا هو الفرق.
وینجم رفض اوباما التعهد بالالتزام بورقة تطمینات بوش لشارون عن رفض نتنیاهو الالتزام ب" رؤیا بوش" المتعلقة بحل الدولتین. التغییر هو أولا فی النبرة الإسرائیلیة نحو الیمین تبعه تغیّر فی النبرة الأمیرکیة تجاه هذه التغییر. وفی الشأن الفلسطینی تحدیدا لا یوجد تغییر فعلی فی الموقف الامیرکی. تغیرت النبرة لان هنالک حکومة إسرائیلیة غیرت نبرتها، وترفض الالتزام بأسسٍ تمکِّن من العودة لما یسمى ب"عملیة السلام". وهذا ما یمکن لأوباما التعهد به فعلا للعرب عدا تغییر النبرة: الضغط على إسرائیل للعودة الى "عملیة سلام". فأمیرکا وحلفاؤها العرب بحاجة لمثل هذه العملیة السیاسیة الجاریة التی صارت تشکل موسیقى مرافقة دائمة، وأجواء لا بد منها فی تصویر فیلم الاعتدال العربی، مثل الموسیقى التی ترافق التغطیة الصامتة للاستقبالات والمناسبات فی التلفزیونات الرسمیة فی الدول التی یزورها الرئیس الامیرکی حالیا.
لا تکمن المشکلة بالاعتراف بحصول تغیر فی الولایات المتحدة، وهو على کل حال لا ینشأ ولا یعبر عنه حتى فی محاضرة أو زیارة، بل المشکلة فی غیاب استراتیجیة عربیة. ولذلک فحتى لو جرى تغییرا ففیما عدا الفرح بتغیر النبرة والأجواء، لیس بوسع العرب أن یحصدوا الکثیر من هذا التغییر ما داموا یعیشون دون تحدید للمصالح العربیة ودون استراتیجیة.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS