أمیرکا أدرکت "حجم دورها".. وإسرائیل "تبحث عن دور"
إحتفلت الولایات المتحدة الأمیرکیة فی 12 أکتوبر الجاری بیوم "کریستوفر کولومبوس" الرحالة الإیطالی المشهور الذی یُنسب الیه اکتشاف العالم الجدید (أمیرکا) من خلال عبوره للمحیط الأطلسی ووصوله فی 12 أکتوبر من العام 1492 الجزر الکاریبیة. وکان العام 1492 قد بدأ أوروبیاً بانتصار جنود الملک الأسبانی فرناندو على المسلمین الأندلسیین فی غرناطة، وهی کانت آخر موقع محصن فی الدولة الأندلسیة، وبعدها حصل الطرد التدریجی للمسلمین من أسبانیا.
أی أن العام 1492 کان عام زرع بِذرة دولة جدیدة فی الغرب الأطلسی وعام انهیار دولة إسلامیة عریقة (الأندلس) فی الغرب المتوسطی.
مطلع القرن العشرین کان أیضاً مناسبة لتزامن مهم فی نشوء وسقوط أمم ودول. فقد انهارت الدولة العثمانیة عقب الحرب العالمیة الأولى وخرجت من باطنها الدولة الترکیة الحدیثة ودول أخرى عدیدة فی الشرق الأوسط. لکن ظهر أیضاً فی مطلع القرن مشروع الدولة الصهیونیة الیهودیة ومشروع الدولة العربیة الموحدة. المشروع الأول کانت تقف خلفه حرکة صهیونیة منظمة منذ العام 1897 بشکل جیّد، والمشروع الثانی العربی قاده الشریف حسین، حاکم مکة آنذاک، من خلال ثورة ضدَّ العثمانیین فی العام 1916 وبدعم من بریطانیا التی أطلقت هی أیضاً وعد بلفور الشهیر الداعم لمطلب الیهود فی بناء دولة إسرائیل على أرض فلسطین.
طبعاً، حافظت بریطانیا (التی لا تملک فلسطین أصلاً) على وعدها للحرکة الصهیونیة (التی لا تستحق قانوناً ولا شرعاً) بإیجاد الدولة الإسرائیلیة على أرض فلسطین. وخذلت الإمبراطوریة البریطانیة حلیفها العربی (القائم آنذاک على تحالفات قبلیة)، فأسقطت مشروع الدولة العربیة الموحّدة الذی کان یستهدف توحید الجزیرة العربیة وبلاد الشام والعراق (أی بلدان الخلیج والمشرق العربی حالیاً)، لتحلّ مکان هذا المشروع صیغة "سایکس- بیکو" التی قسّمت المنطقة العربیة إلى مناطق نفوذ ووجود عسکری بین بریطانیا وفرنسا المنتصریتین فی الحرب العالمیة الأولى.
أمّا مطلع القرن الحالی، فهو یشهد مزیجاً من صعود وهبوط أدوار لدول أکثر من شهوده على استئصال وجود أو نشوء أمم. فما یحدث فی بدایة القرن الحادی والعشرین هو استمرار لتفاعلات الحدث الهام فی العقد الأخیر من القرن الماضی، وهو سقوط الاتحاد السوفییتی وانتهاء نصف قرن من صراع القطبین الأمیرکی والروسی وتحکّمهما بمسارات ومصائر العدید من الشعوب والدول وأزماتها.
فی هذه الظروف المستجدّة والمتغیّرات الدولیة، بدأت تنمو قوى کبرى جدیدة فی آسیا وأمیرکا اللاتینیة مع تطویر مهم حدث للاتحاد الأوروبی، وبشکلٍ اتّجه العالم فیه نحو عصر الکتل الاقتصادیة الکبرى وتراجعت فیه منظومة التحالفات العسکریة الأیدیولوجیة.
أمّا المنطقة العربیة، فقد خضعت أمورها لواقع تُهیمن علیه ثلاثة ظروف: الظرف الأول کان وما یزال هو العنصر الأهمّ فی هذا الواقع، وهو حال التشتّت العربی وانعدام المشروع العربی الواحد وسیطرة الجمود السیاسی العفن على مواقع الحکم والمعارضة معاً فی معظم أرجاء البلاد العربیة. وبالتالی، وفی ظلِّ تفاعلات هذا الظرف، فإنّ الدور العربی معطّل، والوجود العربی أیضاً مهدّد.
الظرف الثانی المؤثّر بالواقع العربی الراهن هو السیاسة الأمیرکیة التی نتجت عن حکم إدارة بوش الإبن والتی راهنت على مفهموم الإمبراطوریة العسکریة الأمیرکیة وعلى الإنفرادیة بالقرار الدولی، حیث اعتبرت هذه الإدارة ومنظّروها من "المحافظین الجدد" أنّ ما کان لأمیرکا فی ظلِّ الحرب الباردة فهو لها، وما کان لخصمها الشیوعی یجب أن یکون أیضاً لها، وبأنّه لا یمکن تحقیق ذلک إلاّ من خلال منع نشوء منافسین دولیین وتوسیع الانتشار العسکری فی العالم وفرض سیاسة: "من لیس معنا فهو ضدّنا". کلّ ذلک حدث بحجّة "محاربة الإرهاب" وضرورة اصطفاف دول الغرب خصوصاً خلف القیادة الأمیرکیة فی هذه الحرب التی عنوانها العام: "الخطر الإسلامی القادم من الشرق".
الظرف الثالث، المؤثّر فعلیاً بالواقع العربی الراهن، هو التحوّل الخطیر الذی حدث فی کیفیة رؤیة الغرب عموماً، وأمیرکا خصوصاً، لدور إسرائیل فی الشرق الأوسط. فقد أدرک "حکّام إسرائیل" أنّ ما کانت تمثّله الدولة الإسرائیلیة من دور القلعة العسکریة الأمیرکیة والغربیة فی مواجهة "العدو السوفییتی الشیوعی" وبجوار حدوده الجنوبیة قد انهار مع انهیار الاتحاد السوفییتی، وبأنّ إسرائیل کوجود لدولة فاصلة بین المشرق العربی ومغربه، لن یتمّ التخلّی عنه، لکن الدور الإسرائیلی فی المنطقة أصبح محدوداً بعدما أصبح الوجود العسکری الأمیرکی المباشر مباحاً من المحیط إلى الخلیج. وقد کانت المحطة الفاصلة الأولى فی هذا التحوّل بالنظرة الأمیرکیة لدور إسرائیل ما حدث فی العام 1991 حینما اشترکت قوات عربیة مع قوات أمیرکیة فی تحریر الکویت، وحینما ضغط جورج بوش الأب ووزیر خارجیته جیمس بیکر على إسرائیل لعدم الردّ على الصواریخ العراقیة التی طالتها خلال الحرب، ثمّ الضغط علیها للقبول بصیغة مؤتمر مدرید. وما زلت أذکر کلمة جیمس بیکر أمام مؤتمر "الإیباک" حینها عن ضرورة مراجعة إسرائیل لنفسها والتخلّی عن حلم دولة إسرائیل الکبرى.
فترة إدارة جورج بوش الإبن کانت تراجعاً عن هذا التحوّل الأمیرکی برؤیة الدور الإسرائیلی، بل کانت داعمة للدور الإسرائیلی الجدید الذی ابتدعته تل أبیب والحرکة الصهیونیة فی مطلع التسعینات من القرن الماضی بأنّ إسرائیل والغرب معاً فی جبهة واحدة ضدّ "الخطر الإسلامی" القادم من الشرق.
الآن فی فترة إدارة أوباما، وما سبقها من فشل کبیر للسیاسة الأمیرکیة التی اتبعتها إدارة بوش الإبن، هناک عودة للرؤیة الأمیرکیة التی بدأتها إدارة جورج بوش الأب، والتی کانت واضحة أیضاً فی "توصیات بیکر/هاملتون" المعلنة منذ ثلاثة أعوام تقریباً. فأمیرکا مع إسرائیل وجوداً ومعها دوراً بالحدود التی تراها واشنطن ولیس بالید المطلقة فی المنطقة کما کان الحال مع الإدارة الأمیرکیة السابقة.
أمیرکا تدرک حجمها الآن، وهی تسعى لشراکة دولیة بعدما فشلت سیاسة "الإنفرادیة". وهی أسقطت شعار "الحرب على الإرهاب" بعدما تعثّرت وتتعثّر حربا العراق وأفغانستان، وبعد فشل الحربین الإسرائیلیتین على لبنان وغزّة.
الیوم، إسرائیل هی عبء کبیر على أمیرکا وعلى مصالحها فی العالمین الإسلامی والعربی، ولم تعد إسرائیل وشواطئها هی المتاح الأساس فقط للتسهیلات العسکریة الأمیرکیة فی الشرق الأوسط (کما کانت فی حقبةٍ طویلة فی الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائیل مصدر أمنٍ وحمایة للمصالح الأمیرکیة، بل إنَّ تلک العلاقة الخاصَّة معها أضحت هی السبب فی تهدید مصالح واشنطن فی بقعةٍ جغرافیةٍ تمتدّ من المحیط الأطلسی إلى المحیط الهندی، ویعیش علیها مئات الملایین من العرب وغیر العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً بل وسائر خیراتهم الاقتصادیة ارتباطاً شدیداً بالشرکات والمصالح الأمیرکیة.
لکن سیبقى الموقف الأمیرکی ضعیفاً فی التأثیر على إسرائیل الظالمة وتجاه الشعب الفلسطینی المظلوم طالما أنَّ واشنطن تعتبر الحروب الإسرائیلیة دفاعاً عن النفس ولا تتعامل مع إسرائیل على أنَّها حالة احتلال یتوجَّب وقفها فوراً، بینما تنظر واشنطن إلى المقاومة الفلسطینیة کما لو کانت حالةً إرهابیةً تستوجب الردع والعقاب.
أمیرکا أدرکت الآن حدود دورها فی العالم وتسعى للوقوف عنده. المشکلة الآن هی فی إسرائیل التی لا حدود لها، فکیف ترضى بحدودٍ لدورها؟!.. والمشکلة أولاً وأخیراً هی فی انعدام الدور العربی الفعّال.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS