qodsna.ir qodsna.ir

صبحی غندور : إدارة أوباما.. والملفّ الفلسطینی

إستلمت وکالة قدسنا المقال التالی من صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن :

بدأ الرئیس الأمیرکی أوباما عهده فی مطلع هذا العام مبشّراً برؤیة مثالیة للسیاسة الخارجیة الأمیرکیة، فیها التأکید على حقّ الشعوب بتقریر مصیرها، وفیها دعوة للتعامل بین الدول على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشترکة. کما کان فی هذه الرؤیة نقد مباشر وغیر مباشر لما کانت علیه السیاسة الأمیرکیة فی ظلّ الإدارة السابقة، خاصّةً لجهة الانفرادیة فی القرارات الدولیة الهامّة ولاستخدامها أسلوب الحروب فی معالجة الأزمات، وما رافق هذا الأسلوب أحیاناً من أسالیب تعذیب لمعتقلین وتعدٍّ على حقوق الإنسان.

وقد کان الملفّ الفلسطینی أحد الملفّات الهامّة فی رؤیة الرئیس أوباما حیث خصّص له فور تولّیه سدّة الرئاسة مبعوثاً خاصّاً هو السیناتور السابق جورج میتشل المعروف بنجاحه فی معالجة الأزمة الأیرلندیة خلال حقبة الرئیس بیل کلینتون.

الآن، وبعد مضیّ أکثر من تسعة أشهر على وجود باراک أوباما فی "البیت الأبیض"، نجد أنّ رؤیته المثالیة لأمیرکا والعالم اصطدمت بواقع أمیرکی وبظروف خارجیة دولیة یعیقان معاً تنفیذ الکثیر ممّا تطمح له "الرؤیة الأوبامیّة".

فالواقع الأمیرکی الداخلی یقوم على قوى ضغط عدیدة تعمل باتجاه معاکس لبرنامج أوباما الإصلاحی السیاسی والاقتصادی والاجتماعی والصحّی. هذا أمرٌ ظهر بوضوح کبیر فی معرکة قانون الرعایة الصحّیة وفی قرار إغلاق معتقل غوانتامو وفی ترشیح السفیر فریمان لموقع رئاسة مجلس وکالات المخابرات وفی موضوع حجم القوات الأمیرکیة فی أفغانستان، کما هو حاصل أیضاً فی العلاقات الأمیرکیة/الإسرائیلیة وفی اضطرار إدارة أوباما للتراجع عن شرط تجمید کل أعمال الاستیطان قبل استئناف المفاوضات الإسرائیلیة/الفلسطینیة.

ففی ظلّ حضور الضغط الإسرائیلی الفاعل داخل الولایات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الکونغرس والهیمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفیذیة فی أمیرکا أسیرة ضغوط السلطة التشریعیة و"السلطة الرابعة" أی الإعلام. والمعضلة هنا أنّ الفرز لا یکون فقط بین حزب دیمقراطی حاکم وحزب جمهوری معارض بل یتوزّع "التأثیر الإسرائیلی" (کما هو أیضاً فی قوى الضغط الأخرى) على الحزبین معاً، فنرى عدداً لا بأس به من "الدیمقراطیین" یشارکون فی ممارسة الضغط على الإدارة الحاکمة لصالح هذا "اللوبی" أو ذاک علماً أنّ تعثّر "الرؤى الأوبامیة" لیس سببه حصراً حجم تأثیر "اللوبی الإسرائیلی"، فهناک طبعاً "مصالح أمیرکیة علیا" ترسمها قوى النفوذ المهیمنة تاریخیاً على صناعة القرار وعلى الحیاة السیاسیة الأمیرکیة، وهی قوى فاعلة فی المؤسسات المالیة والصناعیة الأمیرکیة الکبرى.

لکنْ هناک اختلال کبیر فی میزان "الضغوطات" على الإدارة الأمیرکیة لجهة حضور "الضغط الإسرائیلی" وغیاب "الضغط العربی" الفاعل، ممّا یسهّل الخیارات دائماً للحاکم الأمیرکی بأن یتجنّب الضغط على إسرائیل ویختار الضغط على الجانب العربی، والطرف الفلسطینی تحدیداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائیل، کما هو "الحلقة الأضعف" فی سلسلة التحرّک الأمیرکی بالمنطقة.

وقد أصبحت معادلة "الضغوطات" تقوم على أنّ إسرائیل تضغط على واشنطن، فتبادر واشنطن بالضغط على الفلسطینیین والعرب. ویحدث هذا الأمر فی کل مرّة یظهر فیها تحرّک أمیرکی جاد للتعامل مع ملفات الصراع العربی/الإسرائیلی، وهو ما حصل مؤخّراً أیضاً حینما أسقطت واشنطن شرط تجمید المستوطنات داعیةً السلطة الفلسطینیة لاستئناف المفاوضات بلا شروط ومطالبةً الدول العربیة بخطوات تطبیع مع إسرائیل لتشجیع الطرف الإسرائیلی أیضاً!!

ویبدو أنّ إدارة أوباما أصبحت مستعجلةً الآن على تحقیق إنجاز سیاسی فی منطقة الشرق الأوسط، وهی تخلّت من أجل ذلک عن شرط تجمید المستوطنات آملةً بإحیاء التفاوض من جدید على المسار الفلسطینی/الإسرائیلی لأنّه المدخل الأساس لعملیة تسویة شاملة فی المنطقة تریدها واشنطن لترتیب علاقاتها الجدیدة مع کلٍّ من إیران وسوریا، وهما دولتان مجاورتان للعراق ولهما تأثیر کبیر فی مستقبل أوضاعه السیاسیة والأمنیة.

أیضاً، لکلٍّ من طهران ودمشق علاقات خاصّة مع قوى المقاومتین اللبنانیة والفلسطینیة، فلا یمکن تحقیق استقرار سیاسی وأمنی فی العراق ولبنان ومنطقة الخلیج العربی من دون التفاهم الأمیرکی مع إیران وسوریا، ثمّ لا یمکن تحقیق هذا التفاهم بلا تسویة للصراع مع إسرائیل على الجبهتین السوریة واللبنانیة، وهذا ما لا یمکن الوصول إلیه من دون التعامل أولاً مع الملفّ الفلسطینی ووضع قضایاه الکبرى (الدولة – الحدود- مصیر اللاجئین- القدس) على سکّة التفاوض من جدید.

لذلک أعتقد أنّ ما نراه الآن من تراجع أمیرکی أمام الضغوطات الإسرائیلیة لن یکون تخلّیاً عن السعی الأمیرکی لتحقیق تسویة شاملة فی المنطقة أو عن أولویّة التعامل مع الملف الفلسطینی.

ربّما یکون الرئیس أوباما (وأرجو أن أکون صائباً فی ذلک) یعتمد أسلوب الالتفاف على الضغط الإسرائیلی من خلال استخدام واشنطن لأصدقائها فی الضغط على حکومة نتنیاهو. وقد حصل ذلک فی الأشهر الماضیة عندما سمع نتنیاهو من الرئیس الفرنسی سارکوزی وزعماء أوروبیین آخرین کلاماً ضاغطاً باتجاه العمل لتحقیق دولة فلسطینیة مستقلّة والمطالبة له بتجمید بناء المستوطنات.

وفی هذا السیاق أفسّر أیضاً تصریحات ومواقف حکومة فیاض حول تهیئة الإعلان عن دولة فلسطینیة على الأراضی المحتلّة عام 1967. فمثل هذا الموقف لا یمکن أن یصدر دون تنسیق مسبق مع الإدارة الأمیرکیة. وهو أمر یشکّل ورقة ضغط سیاسیة هامّة على حکومة نتنیاهو للإسرع بالمفاوضات حول القضایا الکبرى قبل خریف العام 2011 وهو الموعد الذی أعلنته حکومة فیاض لإعلان الدولة الفلسطینیة من طرف واحد.

لقد تضمنّت کلمة أوباما فی ذکرى اغتیال إسحق رابین إشارة مهمّة للإسرائیلیین حینما قال إنّ الأمن لإسرائیل لن یتحقّق فعلیاً طالما هناک یأس فلسطینی. کذلک کانت کلمة مستشار أوباما للأمن القومی جیم جونز فی مؤتمر الإیباک حول أهمّیة تسویة الصراع فی الشرق الأوسط بالنسبة للاستراتیجیة الأمیرکیة الحالیة.

حتّى إعلان محمود عباس عن عدم رغبته بالترشّح مجدداً لرئاسة السلطة الفلسطینیة هو فی تقدیری جزءٌ الآن من أوراق الضغط الأمیرکیة على حکومة نتنیاهو، کذلک هی بعض المواقف العربیة والترکیة الرافضة الآن لتحسین العلاقات مع إسرائیل، کما هی أیضاً ظاهرة "جی ستریت" الیهودیة فی أمیرکا.

إنّ الإدارة الأمیرکیة السابقة کانت على انسجام کامل مع الرؤى والمصالح الإسرائیلیة ومع الحروب التی خاضتها إسرائیل طیلة عهد إدارة بوش.

أمّا فی الإدارة الحالیة، فإنّ تبایناً یظهر من خلال کیفیة التعامل الأمیرکی مع الملف الفلسطینی، وفی الموقف من إیران وسوریا، وفی الرؤیة المستقبلیة للدور الإسرائیلی.

لکن فی إطار هذا التباین نلمس تأثیراً إسرائیلیاً فاعلاً على صنّاع القرار الأمیرکی، وحرکة إسرائیلیة ضاغطة فی أکثر من اتجاه دولی، بینما تعانی الأوضاع العربیة والفلسطینیة من ضعف التأثیر ومن حدّة الانقسامات الداخلیة ومن غیاب الرؤیة العربیة لمستقبل المنطقة العربیة وقضایاها المصیریة.

المشکلة هنا انّ الأمّة التی لا یتوحّد ولا یتحرّک أبناؤها من أجل قضایاها، تنقاد حتماً لما سیقرّره لها الآخرون.

ن/25


| رمز الموضوع: 141288