من أجل مصر.. لا من أجل العرب
بقلم صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی بواشنطن
تصاعدت فی الآونة الأخیرة وتیرة "الوطنیة المصریة" فی مواجهة حملة النقد الواسعة التی تعرّضت لها الحکومة المصریة بعد قرارها بإقامة "جدار فولاذی" على الحدود مع قطاع غزَّة، المحاصر من کلّ الجبهات إسرائیلیاً.
فهکذا هو الآن حال المنطقة العربیة کلّها: "الوطنیة" هی سلاحٌ یُستخدم فقط ضدّ العرب الآخرین، و"العروبة" یتمّ اللجوء إلیها فی المواجهة مع دول إسلامیة غیر عربیة!
أمَّا فی الداخل المصری، کما هو أیضاً حال العدید من بلدان عربیة أخرى، فالأمراض الطائفیة تزداد انتشاراً والناس أصبحوا ینقسمون على أسس دینیة، لا على معاییر اجتماعیة وسیاسیة، کما هی عادةً الظاهرة الصحّیة.
هی مفاهیم متّصلة یسند بعضها البعض الآخر، سلباً أم إیجاباً، عن "الوطنیة والعروبة والدین". فواقع حال البلاد العربیة یقوم على هذه الثلاثیة المتلازمة من الهُویّات. وحینما یتحقّق الفهم السلیم لها والتعبیر الصحیح عنها فی الفکر والممارسة، نشهد توحّداً وطنیاً مبدعاً وسیاسةً خارجیة تجمع معاً بین مصلحة الأوطان والأمَّة العربیة.
العکس یحدث حینما یتمّ توظیف "الوطنیة والعروبة والدین" لصالح معارک حکومات وحکّام همُّهم الأول هو کرسیّ الحکم ومصالح الفئة القلیلة الحاکمة. فلا انفصال أبداً بین ما هو قائم على مستوى بعض الحکومات، وبین ما تعیشه الأمَّة العربیة من انقسامات طائفیة وأثنیة، وتفکّک فی وحدة الکیانات، ومن تخلٍّ عن مسؤولیات قومیة، ومن تسهیل لمزید من التدخّل الأجنبی.
أفلیس عیباً على بعض العرب اعتبار أو رؤیة ما فعلته وتفعله إسرائیل ضد الفلسطینیین فی غزَّة وکأنّه "ردّة فعل"؟! أو التعامل مع العدوان والحصار على غزّة (کما کان العدوان على لبنان صیف العام 2006) وکأنّه صراع إسرائیل مع فصیل فلسطینی (أو لبنانی)؟!
وهل أصبح الصراع العربی/الصهیونی مختزَلاً إلى هذا المستوى الردیء من التوصیف بعدما جرى اختزاله أولاً بالقول إنّه الآن "صراع فلسطینی/إسرائیلی"، ممّا یبرّر نفض أیدی بعض العرب من مسؤولیاتهم الوطنیة والقومیة والدینیة؟.
وبمقدار ما یتألّم العرب الیوم من وجع سیاسات قام ویقوم بها الحکم المصری منذ توقیع المعاهدة مع إسرائیل، ومن تهمیشٍ ثمَّ لدور مصر العربی، بقدر ما یشدّهم الحنین إلى حقبة ما زالت تذکرها أجیال عربیة کثیرة، وهی حقبة جمال عبد الناصر الذی یصادف یوم 15/1/2010 ذکرى میلاده ال92.
فلقد تمیّزت حقبة ناصر بحالة معاکسة تماماً لما هی علیه مصر الآن والمنطقة العربیة. وکانت التفاعلات السیاسیة والاجتماعیة التی یحدثها ناصر فی مصر تترک آثاراً إیجابیة کبیرة، لیس فقط داخل البلاد العربیة بل فی عموم آسیا وأفریقیا وأمیرکا الجنوبیة. وکان ذلک یؤدّی إلى تعزیز دور مصر وقیمة تجربتها الثوریة خارج حدودها. فقوّة ناصر کانت قی قدرته على تحریک الشارع العربی وفی "رجع الصدى" لما یقوله ویفعله فی کثیر من بلدان العالم.
لقد أدرک جمال عبد الناصر دور مصر الریادی فی التاریخ القدیم والحدیث، وبأنّ مصر لا یمکن أن تعیش منعزلة عن محیطها العربی وعمّا یحدث فی جناحیْ الأمّة بالمشرق والمغرب، بینما مصر هی فی موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها یرتبطان بالتطوّرات التی تحدث حولها.
فلو ظهر جمال عبد الناصر فی غیر مصر لما استطاع أن یکون عظیماً بدوره، ولما کانت تجربته بالقیمة نفسها. فالعنصر الأهم فی قیمة تجربة ناصر هو مکانها، أی مصر، وبما هی علیه مصر من موقع جغرافی یربط آسیا بأفریقیا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما کان – وما یزال- لهذا الموقع من أهمّیة استراتیجیة لکلّ من أراد الهیمنة على عموم المنطقة.
فالاختلال بتوازن مصر وبدورها یعنی اختلالاً فی توازن الأمّة العربیة کلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة ناصر عام 1970 ، وبعد معاهدة "کامب دیفید" فی العام 1979.
الأمّة العربیة لا تتحدّث الآن عن حلم التوحّد والتکامل بین أقطارها، کما کان الأمر فی فترة ناصر، بل هی تعیش الآن کابوس خطر تقسیم الأوطان على أسس عرقیة وإثنیة وطائفیة ومذهبیة.
إنّ القدر لم یسمح لجمال عبد الناصر أن یعیش طویلاً وأن یحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلحة المصریة وللمجتمع المصری عموماً عقب حرب العام 1967، إضافةً إلى سیاسة التضامن العربی التی أرسى عبد الناصر فی قمة الخرطوم عام 1967 قواعدها حیث دخلت المنطقة العربیة کلها فی مرحلة جدیدة من التضامن العربی الجاد والفعّال لأجل تحریر الأراضی العربیة المحتلة ورفض تحقیق الشروط الإسرائیلیة للسلام مع العرب.
هذه الحقبة الزمنیة (67/70) مهمّة جداً فی التاریخ العربی المعاصر وفی تاریخ العلاقات العربیة/العربیة، وفی تاریخ الصراع العربی/الصهیونی. وللأسف لم یتوقف الکثیرون عند هذه الحقبة وما حملته من أساسات لم یحافَظ علیها لا فی داخل مصر ولا فی المنطقة العربیة عموماً.
إنّ لحظات التحوّل التاریخی فی دور مصر بدأت حینما استثمر أنور السادات انتصار حرب 1973 لیقبل بما لم یقبله ناصر بعد هزیمة 1967، أی الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائیل، وبشکلٍ منفرد ومستقل عن باقی الجبهات العربیة وعن جوهر الصراع: القضیة الفلسطینیة. وارتضى السادات أن یکون الانسحاب من سیناء هو الثمن لتحویل مجرى الدور المصری فی المنطقة العربیة (والعالم الثالث) من موقع القیادة إلى حال "السلامة عن طریق الانعزال" وهی الجملة التی کان عبد الناصر یردّد فی معظم خطبه بعد حرب 1967 رفضه لها.
هاهی الأمَّة العربیة الآن تعانی من انعدام التضامن العربی ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلی وغیاب الدیمقراطیة السیاسیة، مما سهّل ویسهّل الهیمنة الخارجیة على بعض أوطانها ویدفع بالوضع العربی کله نحو مزید من التأزّم والتخلّف والسیطرة الأجنبیة.
إنَّ التجربة الناصریة أصبحت الآن ملکاً للتاریخ، لها ما لها وعلیها ما علیها، لکن العروبة کهُویّة انتماء مشترک، کانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده رغم کلّ ما یجری الآن من مظاهر التخلّی عنها، فالعروبة بمضامینها الحضاریة قادرة على النهوض من جدید إذا ما توفّرت لها القیادات السلیمة، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الدستوری السلیم.
الأمَّة العربیة تحصد الآن نتائج سیاسات حکّامٍ فاسدین فی ظل اشتعال دور الطائفیین والمذهبیین والمتطرّفین العاملین على تقطیع أوصال کلّ بلد عربی لصالح مشاریع أجنبیة وصهیونیة.
فالبلاد العربیة تخشى الیوم على نفسها من نفسها أکثر ممّا یجب أن تخشاه من المحتلّین لبعض أرضها أو من الساعین إلى السیطرة على ثرواتها ومقدّراتها.
إنّ الضعف الراهن فی جسم الأمّة العربیة هو من ضعف قلبها فی مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً فی قوالب فکریة جامدة یفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد. وسیدرک من جدید أبناء هذه الأمَّة، عاجلاً کان أم آجلاً، الحاجة الى العروبة من أجل أوطانهم أولاً .
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS