التمدد الإسرائیلی فی آسیا والأمن

بقلم الدکتور عبد اللّطیف الحنّاشی
أصبحت فکرة "التعددیة القطبیة" من بین الأفکار التی أخذت تحظى بنوع من الإجماع لدى قطاع واسع من الأکادیمیین والاستراتیجیین الغربیین خاصة بعد صعود "القوى الجدیدة" فی قارة آسیا وانتقال "مرکز الجاذبیة العالمی" شیئا فشیئا إلى الشرق، وهو ما سیکون له بالغ التأثیر على العلاقات الدولیة مستقبلا. وتعتبر کل من الصین والهند من أهم هذه الدول التی تتمتع بمیزتین أساسیتین على الأقل هما الحجم السکانی الهائل من ناحیة واتساع حرکة التصنیع من ناحیة أخرى، وهی التی سیتجاوز حجمها حوالی أربعة أضعاف حجم ما تنتجه الولایات المتحدة.
وکانت إسرائیل، على ما یظهر، على وعی عمیق بمجال تلک التحولات وانعکاساتها المستقبلیة على العلاقات الدولیة فاقتنصت تلک اللحظة وسعت للاستفادة من تلک التحولات وتوظیفها لصالح مشروعها واتجه اهتمامها خاصة نحو الهند والصین وارتبطت مع کل منهما بعلاقات واسعة ذات ابعاد متعددة. فکیف یبدو هذا التمدد الإسرائیلی فی کل من الهند والصین؟ وما هی حدود انعکاساته على الأمن القومی العربی؟.
تمکنت الهند من احتلال المرکز السادس من حیث المکانة الاقتصادیة بعد الولایات المتحدة والصین وروسیا الاتحادیة وأوروبا والیابان، وبلغ معدل نموها السنوی بین 7 و8 فی المائة فی السنوات الماضیة وعرفت مصالحها الاقتصادیة توسعا کبیرا، فهی تحتاج إلى مصادر الطاقة وإلى الأسواق الخارجیة وإلى حمایة شبکة المصالح المرتبطة بالطاقة وتصریف الإنتاج؛ الأمر الذی یضعها فی حالة تنافس مع العدید من الدول الأخرى. ویعتبر موقع الهند الجغرافی مؤثرا جدّا فی آسیا کلها...
أما بشریا فیبلغ عدد السکان نحو 1.2 ملیار نسمة، ویتوزعون على ثمانیة أدیان. ویشکل المسلمون فی الهند نحو 150 ملیون نسمة، أی حوالی 14 فی المائة من سکان البلاد، وتمثل بذلک اکبر أقلیة إسلامیة فی العالم، وینقسم هؤلاء إلى سنة وشیعة، وینتشرون فی أنحاء الهند، لا سیما فی مدن الشمال.
والهند دولة نوویة منذ سنة 1998 وتمتلک تجارب بحثیة متقدمة فی عالم الفضاء وتعتبر ثانی اکبر قوة مسلحة بعد القوة الصینیة، إذ یتألف جیشها من حوالی 3.8 ملیون جندی، بینهم 1.4 ملیون متفرغ، و1.15 ملیون احتیاط، و1.3 ملیون شبه متفرغ، معززین بنحو 350 صاروخ أرض جو و2300 مدفع مضاد للطیران و12 ألف مدفع میدان. أما سلاح البحریة الذی یضم 55 ألف جندی فهو من الأهم فی العالم، وحاملتی طائرات و16 غواصة واحدة منها نوویة و14 کاسحة ألغام، ویضم سلاح الطیران 170 ألف جندی و1113 طائرة بینها 852 طائرة مقاتلة. أما الموازنة الحربیة للهند فتبلغ نحو 29 ملیار دولار. وهی تعتبر من أقوى الدول المرشحة لنیل العضویة الدائمة فی مجلس الأمن الدولی إذا ما تقرر توسیع هذه العضویة.
کانت الهند على علاقة جیّدة وطیّبة مع العالم العربی وخاصة مع مصر وسوریا ولکن ورغم استمرار علاقة الهند مع الدول العربیة غیر أن علاقتها الحدیثة بإسرائیل أصبحت أکثر جدوى وأهمیة لها من علاقاتها العربیة. فبانتهاء الحرب الباردة وانهیار الاتحاد السوفییتی، الحلیف الاستراتیجی للهند، وتراجع مصدر الدعم الدبلوماسی والتکنولوجی العسکری وجدت الهند نفسها بحاجة أکیدة لإعادة تموضعها دولیا باتجاه تطویر العلاقة مع الولایات المتحدة الأمریکیة أولا وحلفائها ثانیا.
وفتح مؤتمر مدرید للسلام الذی انعقد أواخر سنة 1991 أمام الهند المجال، لربط علاقات دبلوماسیة مع إسرائیل التی تعتبر مفتاحا لتمتین العلاقة مع الولایات المتحدة الأمریکیة وهو ما حصل منذ سنة "1992 ". وکانت الهند على وعی باهتمام إسرائیل بعلاقات أمریکیة– هندیة، کما أدرکت المنظمات الیهودیة الأمریکیة أهمیة الهند للولایات المتحدة وإسرائیل، والامتیازات الممکنة لتنمیة علاقات جیدة بالجالیة الهندیة فی الولایات المتحدة التی أخذ دورها یتنامى فی الکونغرس.
تطورت العلاقة بین الطرفین بعد وصول حزب الشعب الهندی "بهارتیا جاناتا" الهندوسی إلى الحکم "1998" وبعد سنة واحدة من ذلک ارتفع التبادل التجاری بین الهند وإسرائیل بنسبة 50 فی المائة. وانطلق أول تعاون عسکری بین الطرفین سنة 2000 وتجسد فی التوقیع على صفقة سلاح بین الدولتین بقیمة ملیاری دولار، تشمل صواریخ متطورة ونظام "رادار فالکون" المحمول جوا للإنذار المبکر. ویعتبر الکثیر من الملاحظین أن بیع إسرائیل هذه الصواریخ إلى الهند، من دون اعتراض أمریکی رسمی، مؤشرا على اهتمام الولایات المتحدة بالهند، واستعدادها لتحسین العلاقات معها، بعد أن کانت تتسم بالبرودة على امتداد نحو ثلاثین سنة.
أصبحت إسرائیل منذ سنة 2006 ثانی مصدر للسلاح إلى الهند بعد روسیا وأصبحت الهند فی نفس السنة الزبون المتقدم لشرکات الأمن الإسرائیلیة وذلک بعد أن اشترت منها بمبلغ 1.5 ملیار دولار، وحسب الإحصائیات الإسرائیلیة الرسمیة فقد بلغت الصادرات الإسرائیلیة الرسمیة إلى الهند عام 2006 ملیارا و270 ملیون دولار، بینما بلغت الواردات الإسرائیلیة من الهند فی السنة نفسها ملیارا و433 ملیون دولار أصبحت فی السنوات الأخیرة المصدر الرئیسی لتزوید الجیش الهندی بالأسلحة والعتاد العسکری.
والى جانب ذلک تشتمل العلاقات التجاریة على "الهای تک" والکیماویات والأدویة.. کما حرص الطرفان على تطویر العلاقات العلمیة، فحسب مرکز التعاون الدولی التابع لوزارة الخارجیة الإسرائیلیة شارک نحو 2.300 خریج فی أکثر من 60 دورة تعلیمیة فی الهند بین 1992 إلى 2008 واشتملت على دورات تعلیمیة فی مجالات مختلفة، کالصحة والزراعة والتربیة والإدارة. ومقابل ذلک دعت إسرائیل أیضا أکثر من 900 هندی للتأهیل فی مؤسساتها ومنشآتها فی مجالات کالزراعة والطب والإدارة والعلوم والتکنولوجیا والتربیة.
وتستقبل الهند أیضا دبلوماسیین إسرائیلیین فی دورات تعلیمیة فی وزارة الخارجیة. کما تطورت الاتصالات فی المجال الثقافی بین الطرفین من خلال تبادل زیارات الفنانین وفرق الرقص والموسیقى وتبادل المعارض الفنیة والدورات الأکادیمیة.
وتجمع إسرائیل بالهند هواجس استراتیجیة مشترکة واسعة تتمثل خاصة فی نشاط الإسلام المتطرف الواسع فی الشرق الأوسط، إذ ترى الهند فی بعض الدول العربیة مصدرا للتطرف الإسلامی کما تبدو هی وإسرائیل شدیدتی القلق من العلاقات المتینة بین المملکة العربیة السعودیة والباکستان. ویخیف السلاح الذری الباکستانی الهند کما إسرائیل، ویزداد هذا الخوف فی حالة وقوع الرؤوس الذریة فی أیدی متطرفین إسلامیین. کما تبدی کل من الهند وإسرائیل اهتماما کبیرا بمنطقة آسیا الوسطى، إذ تبیع کل منهما أسلحة مختلفة للکثیر من دول المنطقة، والدولتان معنیتان بالتقلیص من التأثیر الإیرانی والسعودی فی المنطقة.
أما على المستوى الاقتصادی فتبدو إسرائیل مهتمة بمشروع استیراد النفط والغاز الطبیعی من آسیا الوسطى إلى إسرائیل من طریق ترکیا. ویقتضی المشروع الذی قدمه وزیر الطاقة الهندی سنة 2005 مد أنابیب نفط تحت البحر الأبیض المتوسط، بین مینائی تشیهان "آخر نقطة لأنبوب النفط بین باکو وتشیهان" فی ترکیا وعسقلان إلى میناء ایلات الإسرائیلی فی البحر الأحمر، ثم تصدیره إلى الهند والیابان والصین. کما أظهرت إسرائیل، منذ التسعینات من القرن الماضی، مصلحة متزایدة لمنطقة المحیط الهندی بسبب مخاوفها من إیران وباکستان فضاعفت من تعاونها البحری مع الهند وخاصة بین الأسطولین.
ویمثل المحیط الهندی منطقة هامة للتواصل بدول المحیط مع انسداد الطرق البریة فی وجهها. ورغم تشعّب العلاقة بین الهند وإسرائیل فان أی طرف منهما لا یعتبر أن تلک العلاقة موجهة إلى طرف أو أطراف أخرى، بل یؤکدان أن ما بینهما هو مجرد تعاون امنی لا غیر؛ کما لا تمثلان حلفا بل مجرّد تعاون امنی وتعزیز للقدرات الدفاعیة لکلا البلدین وتدعیم للاستقرار الإقلیمی؟!.
ویبدو أن أی طرف منهما لا یرغب فی الانجرار إلى النزاع الإقلیمی للآخر أو یکون احد أطرافه. فإسرائیل لا تکنّ العداء الصریح للباکستان، کما أنها تسلک سلوکا حذرا جدا فی علاقاتها مع الصین التی "لا ترتاح" إلیها الهند...
أما موقف الهند من القضایا العربیة فیبدو متفهّما أحیانا ومتعاطفا فی أحیان أخرى باعتبار البعد الإسلامی الذی یتضمنه صراع العرب مع إسرائیل ووجود أقلیة هامة من المسلمین فی البلاد، بالإضافة إلى تعدد مصالحها السیاسیة والاقتصادیة وتنوعها فی العالم العربی والعدد الضخم للجالیة الهندیة فی الخلیج الفارسی . ورغم کل ذلک یعتبر العرب أن إسرائیل قد تمکنت بمساعدة الهند من محاصرة العالم العربی من الخلف، وذلک عبر البوابة الآسیویة. فکیف تبدو العلاقات العربیة الهندیة؟
نشیر فی البدایة إلى وجود أکثر من ثلاثة ملایین هندی یعملون فی بلدان الخلیج الفارسی ویرفدون الاقتصاد الهندی سنویا بمبالغ کبیرة جدا. کما تعرف العلاقة بین الهند وبعض الدول العربیة دفئا ملحوظا تعبر عنه الزیارات المتبادلة بین بعض المسؤولین الکبار العرب "مصر وسوریة وفلسطین.." والهنود. غیر أن تلک العلاقات تبدو ثنائیة فی الغالب نظرا لعدم امتلاک العرب لاستراتیجیة واضحة وموحدة تجاه الدول الصاعدة فی آسیا ومنها الهند، ورغم تنظیم الجامعة العربیة للمؤتمر الاول للشراکة الاقتصادیة العربیة- الهندیة فی السنوات القلیلة الماضیة وإعلان نفس المؤسسة "الصحف 22- 1- 2010" عن انعقاد المؤتمر الثانی فی الثامن والتاسع من شباط/ المقبل فی العاصمة الهندیة نیودلهی سیترکز حول مشاریع الاستثمار، فان استفاقة الجامعة العربیة کانت متأخرة والمبادرات ظلت محدودة ارتباطا بعراقة العلاقة بین الطرفین من ناحیة، وتعدد المصالح الاقتصادیة وتنوعها وأهمیتها الاستراتیجیة لکلا الطرفین من ناحیة أخرى.
فالهند تستورد نحو 60 فی المائة من وارداتها النفطیة من البلاد العربیة، کما تعتبر من أهم الشرکاء التجاریین، إذ وصل حجم التبادل التجاری بینها وبین العالم العربی سنة 2008 إلى 46 بلیون دولار، مقارنة بـ12 بلیون دولار عام 2003، لکن وبالرجوع إلى ترکیبة الصادرات والواردات بین الطرفین، وبالمقارنة مع وضعیتها بإسرائیل، فان واردات العرب من الهند تترکّز خاصة على مواد استهلاکیة کالقهوة والشای والبهارات بالإضافة إلى بعض المواد الصیدلیة ووسائل النقل وقطع غیار العربات والأحجار الکریمة والمجوهرات.
أما الهند فتستورد، بالإضافة إلى النفط، القطن الخام وبعض المواد الکیمیائیة والجلود وبعض البذور الخام والصناعیة فی الوقت الذی لا تستورد أی دولة عربیة وخاصة من "دول المواجهة" أی نوع من أنواع السلاح والعتاد الذی تنتجه الهند کما لا توجد بین الطرفین أی علاقة فی المجال العلمی...؟! فمن یتحمل المسؤولیة، الهند أم العرب؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال غیر أننا نشیر فی الوقت نفسه إلى أن الهند طلبت عضویة مؤتمر منظمة العالم الإسلامی باعتبار أنها تضم أکثر من 150 ملیون مسلم، غیر أن الدول الإسلامیة لم تتحمّس للأمر وفضلت الباکستان على الهند!..
لم تکن الصین بمنأى عن الظاهرة التی برزت عقب انتهاء الحرب الباردة والتی تمثلت فی السعی إلى تطبیع العلاقات مع إسرائیل وذلک لتحقیق هدفین اثنین هما: الاستفادة من نتاج التکنولوجیا المتطورة التی تمتلکها إسرائیل من ناحیة وتحسین صورتها لدى الغرب، وخاصة الولایات المتحدة الأمریکیة، والاقتراب منه من ناحیة أخرى. وقد ساعدت "المسیرة السلمیة" بین العرب والفلسطینیین وإسرائیل، فی بدایتها، الکثیر من الدول على تجاوز تحفظاتها إزاء إسرائیل والاعتراف بها وبدورها الإقلیمی کحقیقة فی المنطقة؛ وهکذا أسرعت دول آسیویة مهمة وفاعلة، مثل روسیا والصین والهند وترکیا ودول أخرى أقل أهمیة مثل لاوس وکمبودیا وفیتنام، بإقامة علاقات دبلوماسیة مع إسرائیل بدایة من سنة 1992 أی قبل اتفاقات أوسلو... وأصبح لإسرائیل، نتیجة لذلک، علاقات دبلوماسیة مع الدول الأعضاء الخمس الدائمة فی مجلس الأمن، وبأکبر القوى الإقلیمیة فی آسیا..
تتجسد قوة الصین فی اتساع مساحتها وتنوع مظاهرها الطبیعیة وکثرة سکانها "أکثر من ملیار وثلاثمائة ملیون نسمة" وتتکون الصین من 56 قومیة منها 10 قومیات تمثل 20 ملیون نسمة تدین بالإسلام.
کانت الصین أکثر الاقتصادیات نموّا فی العالم خلال السنوات الثلاثین الماضیة، إذ عرف اقتصادها نموّا کبیرا جدا من 147 ملیار دولار عام 1987 إلى 1.6 تریلیون دولار عام 2004، لیصل الیوم إلى 4.9 تریلیونات دولار، أی ما یمثل ثلاثین ضعفاً، بالإضافة إلى احتیاطی أجنبی یفوق تریلیونَیْ دولار. وقد تخطّى الاقتصاد الصینی لأول مرة حجم الاقتصاد الیابانی البالغ 4.7 تریلیونات دولار. وبلغت قیمة صادراتها عام 2009 نحو 1.2 ترلیون دولار "حسب الأرقام الرسمیة" وهو ما یعنی أن قیمة صادرات الصین الیومیة نحو 3.3 ملیارات دولار. أما قیمة تجارتها الخارجیة "قیمة الصادرات والواردات معا" فبلغت نحو 2.21 ترلیون دولار رغم تراجعها عن عام 2008. والصین قوة عسکریة ضاربة بامتلاکها الأسلحة النوویة إلى جانب الأسلحة المتقدمة جدا، کما یضم الجیش الصینی نحو 7 ملایین جندی بینهم 2.3 ملیون متفرغ و800 ألف احتیاط و4 ملایین شبه عسکری کما تضاعفت میزانیتها العسکریة منذ سنة 2006..
تبدو علاقة الصین بإسرائیل أقل اندفاعا من الهند نظرا لتوسع مصالحها وتنوعها مع العالم العربی، وخاصة بدول الخلیج الفارسی .. کان حجم التبادل التجاری بین الصین وإسرائیل سنة 1992 نحو 50 ملیون دولار ثم تطور إلى حوالی 3 ملیارات دولار سنة 2006 وبلغ 4.5 ملیار دولار سنة 2009، وهو یزداد بنسبة 20 بالمائة سنویًا؛ وتشمل ترکیبة التبادل قطاعات مختلفة منها قطاع التکنولوجیا المتطورة والأسلحة والسیارات والزراعة والصناعات وربحت الصادرات الإسرائیلیة باتجاه بلدان آسیا وخاصة الصین والهند نحو 30 فی المائة خلال عشر سنوات وأصبحت آسیا شریکا هاما لإسرائیل مثل الولایات المتحدة الأمریکیة.
ترى إسرائیل فی الصین دولة عظمى مؤثرة فی منطقة الشرق الأوسط، لذلک تسعى إلى تطویر العلاقة معها فی مختلف المجالات. وتجد إسرائیل نفسها، أحیانا، مقیدة فی علاقتها مع الصین بل وفی تنافس مع حلیفتها واشنطن لذلک تخشى تجاوز المصالح الأمریکیة باعتبار أن بکین تمثل أشد المنافسین على المستوى الاستراتیجی للولایات المتحدة الأمریکیة. ویعتقد بعض الخبراء فی شأن تلک العلاقة أن إسرائیل تعمل لإخفاء الکثیر من علاقاتها بالصین"!" خوفا من ردود فعل حلیفتها، واشنطن، التی لا ترغب فی أن تتمکن الصین من نقل التکنولوجیا المتطورة عن طریق إسرائیل. وتعتقد هذه الأخیرة أن الصین بلد واعد، سیاسیا واقتصادیا وثقافیا، وسیلهث العالم وراءها من أجل بناء علاقات اقتصادیة معها لذلک أصدرت وزارتا التعلیم والمالیة فی إسرائیل، مؤخرا، قرارا باعتماد اللغة الصینیة فی البرامج التعلیمیة.
ترى الصین أن الشرق الأوسط لا یزال مصدرا رئیسیا لمصادر الطاقة وسوقا کبیرة لإنتاجها العسکری وللأیدی العاملة الصینیة، وهو مجال للاستثمارات والتکنولوجیا، لذا تعمل على تعزیز علاقاتها مع الجمیع، إیران والسعودیة، فلسطین وإسرائیل، مصر وسوریا، السودان والأردن...
تمکنت الصین من تحقیق العدید من الإنجازات الدبلوماسیة والاقتصادیة مع الدول العربیة إذ عرف التبادل التجاری بین "الطرفین" تطورا لافتا من 36.7 ملیار دولار سنة 2004 إلى 132.8 ملیار دولار سنة 2008، أی بنسبة نمو تقدر بنحو 3.6 فی المائة خلال 5 سنوات؛ کما تم التوقیع على عقود تقدر بحوالی 100 ملیار دولار سنة 2008. ویرى الکثیر من الخبراء أن مشروع منطقة التجارة الحرة بین دول مجلس التعاون الخلیجی والصین، الذی یتوقع أن یرتبط بشروط أیسر بکثیر بالمقارنة بمشروع التجارة الحرة لدول المجلس مع الاتحاد الأوروبی، من بین أکثر المشاریع الصینیة أهمیة فی المنطقة إلى جانب الاستثمارات الضخمة فی مجال النفط، إذ تملک شرکة النفط الوطنیة الصینیة 40 فی المائة من شرکة "النیل الأعظم" السودانیة، وهی المنتج الرئیسی للنفط فی السودان، مقابل 5 فی المائة فقط للحکومة السودانیة، بینما تتوزع النسبة الباقیة بواقع 30 فی المائة لشرکة بتروناس المالیزیة، و25 فی المائة لشرکة ONGC الهندیة، إلى جانب استثمارات نفطیة أخرى فی حقول نفطیة سوریة وغیرها..
کانت الصین الشعبیة تمثّل حسب بعض الباحثین "داعما تقلیدیاً للقضیة الفلسطینیة والحقوق العربیة عامة، "وذلک على امتداد أکثر من خمسة عقود من الزمن، بل إن الأمر کان یبدو أمام إسرائیل کما لو أن هناک تحالفا آسیویا- عربیاً ضدها بدأ من مؤتمر باندونغ بزعامة القاهرة وبکین ونیودلهی؛ لذلک یرى هؤلاء أن الفلسطینیین والعرب إجمالا فَقدوا حلیفین من الوزن الثقیل بعد اعتراف کل من الصین والهند بإسرائیل وتطور العلاقة الاقتصادیة والتجاریة معها، فی حین یرى باحثون آخرون أنه ورغم تعمق التعاون الاقتصادی- الأمنی بین الصین وإسرائیل واتساعه غیر أن قدرة هذه الأخیرة فی التأثیر على السیاسة الصینیة الرسمیة تبدو محدودة جدا، إن على المستوى الاقتصادی أو السیاسی، إذ برغم حرص الصین على تعمیق العلاقات التجاریة والتعاون التکنولوجی مع إسرائیل ورغبتها المؤکدة على تطویرها غیر أن ذلک لم یکن على حساب قرارها السیاسی المستقل أو على حساب أصدقائها؛ إذ استمرت الصین فی تأمین السلاح وتصدیر الصواریخ وتکنولوجیا صناعة الصواریخ إلى أصدقائها الذین تصنّفهم إسرائیل بالـ"جهات المعادیة"، بل وإسهام الصین فی المشروع النووی الإیرانی.
کما أن العلاقة بین الولایات المتحدة الأمریکیة والصین تؤثر وتنعکس إلى حدّ بعید على طبیعة العلاقات الدبلوماسیة بین کل من إسرائیل والصین وتطورها، إذ عارضت الولایات المتحدة مثلا، وبشدة سنة 1999، تنفیذ صفقة طائرات "فالکون" الإسرائیلیة إلى الصین رغم ادعاء إسرائیل بأن واشنطن کانت على علم بتفاصیل الصفقة غیر أنها أعلنت، من جانب واحد، عن إلغاء الصفقة سنة 2000، مما أدى إلى نشوء أزمة فی العلاقات الدبلوماسیة بین الدولتین. کما توترت العلاقات الإسرائیلیة- الصینیة على خلفیة الأزمة فی العلاقات الصینیة- الأمریکیة إبان أحداث ساحة "تیان آن مین" وقرار الولایات المتحدة بفرض حظر على بیع الأسلحة للصین مما أدى إلى انخفاض الصادرات الصینیة من إسرائیل وزادت معارضة الولایات المتحدة لصادرات إسرائیل الأمنیة إلى الصین.
کما لا نعرف کیف سیؤثر تشنج العلاقة بین الصین والولایات المتحدة بعد قرار واشنطن المضی بصفقة بیع أسلحة لتایوان وبعد تحذیر بکین من احتمال عقد أی لقاء بین الرئیس الأمریکی "باراک أوباما" و"الدالای لاما" الزعیم الروحی للبوذیین التیبتیین وإعلان الصین منذ أیام عن تجمید محادثاتها الأمنیة وعلاقتها العسکریة مع الولایات المتحدة، وهو ما أنهى "التقارب" الأمریکی- الصینی عملیا فی ضوء خلافات أخرى حول العقوبات على إیران والتبادل التجاری والتغییر المناخ..
ویخشى بعض الباحثین الإسرائیلیین من احتمال حصول تحولات دراماتیکیة فی السیاسة الصینیة بمنطقة الشرق الأوسط وذلک على خلفیة تغیّر موازین القوى العالمی من جهة وحدوث بعض المستجدات على الأوضاع العامة فی المنطقة من جهة أخرى، وهو الأمر الذی توصل إلیه أیضا المشارکون فی مؤتمر هرتسلیا السابع "2007" الذین أشاروا إلى احتمال استمرار حالة تراجع مکانة الولایات المتحدة کزعیمة للعالم وبالتالی انکفاؤها عن الاهتمام بقضایا العالم فی الوقت الذی تکسب فیه الصین المزید من القوة والحضور والانتشار فی المنطقة خاصة وأن جمیع المعطیات تشیر إلى أنها مرشحة، فی القریب العاجل، إلى ردم الفجوة التکنولوجیة والعسکریة القائمة بینها وبین الولایات المتحدة، وهو ما سینعکس حتما على رؤیة الصین وموقفها من قضایا الشرق الأوسط واستمرار تأیید الموقف العربی ودعمه، إذ تظل مقاربة الصین للمسألة نفعیة؛ فهی "مستعدة لأن تضحی بنفسها فقط من أجل دولة واحدة، هی الصین" وباعتبار أن مصالحها مع إسرائیل تبدو محدودة وظرفیة إذا ما قیست بالفوائد المتوفرة فی المنطقة ککل، وعند العرب خاصة، مع تزاید حاجة الصین للنفط العربی بعد أن تحولت إلى مستورد لهذه المادة منذ عام 1996...
ورغم تأکید القیادة الصینیة، وفی مناسبات متعددة، عن رغبتها فی تطویر العلاقة مع العالم العربی واستعدادها لمواصلة المسار السلمی فی الشرق الأوسط بل والتعبیر عن استعدادها للعب دور بناء فی إطلاق حل عادل وشامل ودائم فی المنطقة، غیر أن بعض المحللین العرب یعتبرون أن الاعتماد على السیاسیة الصینیة غیر مجد فی ظل المتغیرات السیاسیة الجاریة والظروف الدولیة الراهنة، وهو ما یؤکده عزوفها، لحد الیوم، عن القیام بدور فاعل وناجع یتناسب مع حجمها السکانی ومکانتها الاقتصادیة وعلاقاتها الدبلوماسیة الطیبة ومصالحها الاقتصادیة الواسعة مع جمیع الأطراف ذات العلاقة بالصراع، لذلک یعتبر هؤلاء أن إسرائیل قد أفلحت فی کسب الموقف الصینی التقلیدی تجاه القضایا العربیة ودفعها باتجاه اتخاذ مواقف حیادیة من الصراع..
ن/25