القـدس رایتـنـــا
فی الحروب القدیمة، کان لکل جیش من المتحاربین رایة، یحملها مقاتل شجاع، یتمّ انتقاؤه بعنایة، مهمّته الوحیدة هی الإبقاء علیها مرفوعة مرفرفة على الدوام. وکان یکلَّف بالصمود حتى اللحظة الأخیرة مهما کانت الصعاب أو اشتدّ الکرّ والفرّ أو حمى وطیس المعرکة.
وفى مواجهة احتمالات الهزیمة، کان یوصی بأن یکون هو آخر المتراجعین أو المنسحبین، وأن یحاول إن جُرح أو ضُرب فی مقتل، أن یرفع رایته ولو لبضعة دقائق إضافیة، إلى أن یتسلّمها منه مقاتل جدید.
لماذا ؟
لأنه فى ذروة القتال حین یکون کل امرئ مشدودا بکل جوارحه إلى ظرفه الخاص من کرٍّ وفرّ، وهجومٍ ودفاع، وحین تکون حیاته على المحک، کانت أطرف الأعین تسترق اللمحات الخاطفة إلى رایاتها. فإن وجدتها متقدمة ومقتحمة لصفوف العدو، دلّ ذلک على أنَّ النصر قریب، فزادهم ذلک همّةً وحماسة وقدرة على التحمّل ومواصلة القتال.
وإن تراجعت الرایات، أدرکوا أن أحوال المعرکة لا تسیر لصالحهم، فتهتزّ ثقتهم قلیلا أو کثیرا، فیتدبّرون أمرهم، ویبحث قادتهم عن خطط وتکتیکات جدیدة.
کانت حرکة الرایة ومکانتها وموضعها أثناء المعارک تقوم بالدور نفسه الذی تقوم به الیوم البیانات العسکریة وأجهزة الإعلام وإدارات الشؤون المعنویة.
وکان ظهور رایة الجیش المهاجم فى قلعة العدو، بمثابة إعلان أن الحصار قد نجح وأن الحصن على وشک السقوط.
وإن سقطت الرایة، واختفت، ولم یعد هناک من یرفعها، کان هذا مؤشرا على هزیمة أصحابها واندحارهم.
* * *
إنَّ القدس بهذا المعنى البسیط، هى رایتنا کعرب ومسلمین، وسقوطها یختلف عن سقوط غیرها من المدن العربیة، کحیفا وغزة ورام الله وبغداد. فسقوطها یعنى سقوط حامل الرایة، الذى مات أو استشهد أو انکسر أو جبن عن أن یحمل رایته ورمز أمّته.
فالحروب الصلیبیة التى دارت معارکها من 1096 حتى 1291، شاهدت سقوط عدید من المدن والإمارات العربیة والإسلامیة فی ید الغزاة، ولکن کان لسقوط القدس عام 1099 دَویٌّ ألیم، وکأنّها عاصمة الأمَّة.
وکذلک شاهدت هذه الفترة نفسها انتصارات ومعارک تحریر عربیة إسلامیة کثیرة فى عهود عماد الدین زنکی، ونور الدین محمود، والناصر داود الأیوبى، والظاهر بیبرس، والمنصور قلاوون.
ولکن کان لتحریر القدس على ید جیش صلاح الدین عام 1187 وقع مختلف ودلالة تاریخیة فارقة.
وعندما مات صلاح الدین، کان لا یزال هناک عدد من الإمارات الصلیبیة فى أراضینا، ولکن معرکة حطّین کانت هى الضربة القاصمة التى توالى بعدها انهیار المشروع الصلیبی بأکمله.
* * *
ولکن لِمَ للقدس؟:
أولاً : لما لها عندنا من قدسیة خاصة منذ أسرى الله سبحانه وتعالى بالرسول علیه الصلاة والسلام إلى المسجد الاقصى. وهو الرسول الذى مثّلت رسالته، نقطة انقلاب کبیرة فى تاریخ هذه المنطقة، فبها أسلمنا وتعرّبنا، وخرجت إلى الحیاة أمّتنا العربیة الإسلامیة الواحدة، أمّة ولیدة جدیدة، کانت على امتداد 12 قرنا متصلة، واحدة من القوى الکبرى فى العالم.
وثانیاً : لأنّ القدس هى البوابة التی کان المعتدون على مرّ التاریخ سواء من الصلیبیین أو الصهاینة، یحاولون الولوج منها إلى أوطاننا، بذرائع دینیة کاذبة.
فهی أرض المسیح التى یجب تحریرها من العرب الکفرة، وفقا لخطبة البابا أربان الثانی فى فرنسا عام 1095 م.
وهی الأرض المقدسة للیهود، التى ذکرت فى التوراة أکثر من 660 مرّة، وفیها هیکلهم المزعوم، والتی احتلها الغزاة العرب المسلمون على امتداد 14 قرنا، حسب فتاوى الحاخامات والقادة الصهاینة المعاصرین.
فجمیع الغزاة، استخدموا القدس لاختلاق مشروعیة دینیة مقدسة لغزواتهم، علَّهم ینجحون بذلک فى انتزاع مشروعیة قومیة، مشروعیة لاغتصاب أوطاننا والبقاء فیها.
وکان رد أسلافنا على مر التاریخ، هو القتال لطرد الغزاة وتحریر الأرض المغتصبة، انطلاقا من الحقیقة التاریخیة الموضوعیة، وهی أنَّ هذه أرضنا نحن، التى تعرّبت وتعرّبنا معها منذ الفتح الاسلامی، وعشنا فیها واستقرّینا علیها قرونا طویلة، ولم نغادرها أبدا منذ ذلک الحین، فاختصصنا بها دوننا عن غیرنا من الشعوب والأمم.
أمّا المقدّسات الدینیة فإنها لا تعطی وحدها، أهل هذا الدین أو ذاک، أیّ حقٍّ فی امتلاک الأرض التى تحتضن مقدّساتهم. فالأمم لیست مقدّسات فقط، وإنما هی أیضا شعب وأرض وتاریخ طویل ولغة واحدة وحضارة متمیّزة ولا نقول ممتازة.
* * *
وهکذا کانت القدس على الدوام رمزا للجمیع : رمز لهویتنا العربیة الإسلامیة، وهی هویة صادقة وحقیقة موضوعیة ثابتة تاریخیا.
وکانت أیضا رمزا کاذبا ومختلقا ومسروقا للصهاینة ومن قبلهم الصلیبیین.
* * *
* وبالتالی فإنّ حمایة القدس من السقوط، هی فی الأولویة دائما، لأن حمایتها تمثل حائط صدٍّ ضدَّ تحصین الاغتصاب الصهیونی بمشروعیة دینیة زائفة.
* ولأنَّ الدفاع عنها هو دفاع عن اختصاصنا التاریخی بکلِّ فلسطین، بل وکلّ الأرض العربیة.
* ولأنَّها قضیة لا یملک أحدٌ فى السلطة الفلسطینیة أو غیرها أن یدّعی اختصاصه وانفراده بها، فهی قضیة کل العرب والمسلمین، ولیست قضیة فلسطینیة فقط، وهو ما یستدعی من ناحیة أخرى إخراجها من أجندة المفاوضات العبثیة بین السلطة والصهاینة.
* ولأنَّها قادرة برمزیتها المقدّسة، على تعبئة جماهیرنا فی کلّ مکان للاشتباک مع العدوّ الصهیونی، فهی البوابة الأنسب لهذه المهمّة.
* وأخیرا ولیس آخرا، لأنها قضیة ملحّة وعاجلة، حیث یقوم العدو الآن بتصعید وتکثیف العدوان علیها، لهضمها وابتلاعها فی أقرب وقت.
* * *
التهوید قدیم:
ومسلسل اغتصاب القدس وتهویدها قدیم، بدأ منذ بدایات الانتداب البریطانی على فلسطین عام 1922، عندما ترکّزت الهجرات الیهودیة الوافدة، غرب المدینة القدیمة، لتکون نواة ما یسمّونه الآن بالقدس الغربیة. ثم توالى المسلسل باغتصاب القدس الغربیة عام 1948 ضمن ما تمَّ اغتصابه من فلسطین. وقام الصهاینة بطرد ما یقرب من 60 ألف عربی من القدس الغربیة. ثم جاء احتلال ما تبقّى من فلسطین عام 1967، وما تلاه عام 1980 من ضمّ القدس الشرقیة إلى الغربیة تحت اسم القدس الموحدة عاصمة لدولة الکیان. لتتابع الاعتداءات ببناء أحزمة من المستوطنات لحصار المدینة القدیمة من الشرق لعزلها عن محیطها العربی، والحیلولة دون امتدادها وتوسّعها شرقا، لوأد أی مشروع لاسترداد القدس الشرقیة فی أی مفاوضات مستقبلیة. وذلک مع زرع أکبر عدد من المستوطنین الصهاینة فی القدس الشرقیة لیبلغ عددهم فیها الآن 200 ألف مستوطن، ویبلغ عددهم فى القدس الموحدة، شرقیة وغربیة 500 ألف یهودی.
ولنتذکر معا أنّ جملة عدد الیهود فى کل فلسطین عام 1917 لم یتعدَّ 60 ألفاً، وهو ما جعلهم یکتفون بطلب حق إقامة وطن قومى لهم هناک، ولکن عام 1947 عندما بلغ عددهم 650 الفاً، کان عندهم الشجاعة والجرأة أن یطالبوا بدولة ولیس مجرّد وطن، وهو ما أخذوه بالفعل من الأمم المتحدة فیما سمّی بقرار التقسیم.
ولکن الآن بلغ عددهم کما أسلفنا نصف ملیون یهودی فى القدس وحدها. فلنا أن نتصوّر حجم المشکلة وعمق التهوید الذی تمَّ هناک. والذی یستکملونه على قدمٍ وساق بالتربّص بالمسجد الأقصى وإزالة منازل أهالینا المقدسیین وغیرها من الإجراءات الیومیة التى کادت أن تنجح فى التهوید الکامل لمدینتنا المقدسة.
* * *
والرایة على وشک السقوط:
وطوال هذه العقود، لم تتوقّف مقاومتنا للمشروع الصهیونی عامة، ولتهوید القدس على وجه الخصوص، فمنذ ثورة البراق فى أغسطس 1929 وإعدام قادتها الثلاثة، الشهداء عطا الوزیر ومحمد جمجوم وفؤاد حجازی فى سجن عکا فی 17 یونیو 1930. إلى آخر انتفاضة سبتمبر 2000، وما تلاها من صمود ومقاومة بطولیة، یمارسها شعبنا الأعزل هناک یومیا، فی مواجهة زبانیة الصهاینة وآلاتهم العسکریة.
إنّ أبطالنا المقدسیین، یلتزمون بوصایا الأجداد، فهم لا یزالون یحملون الرایة، ویحفظونها من السقوط بما تبقّى لهم من طاقة. ولکن جروحهم أًثخنت، وهم فی انتظار مقاتلین جدد، یشدّون من أزرهم، ویتسلّمون منهم الرایة التی کادت أن تسقط، فهل من مجیب ؟
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS