فلسطین وتسعون عاما على مؤتمر سان ریمو
لعلّ من أعجب ما یمکن الاطلاع علیه فی الفکر الصهیونی، هو ما یتم تداوله فی الفترة الأخیرة، من أن قرار تقسیم فلسطین الصادر عن منظمة الأمم المتحدة فی 29 تشرین الثانی( نوفمبر) 1947 کان قرارا غیر قانونی ناهیک عن کونه قرارا ظالما! ویتم إثبات عدم قانونیة القرار بدعوى أنه بحسب میثاق الأمم المتحدة، فإن قرارات الجمعیة العمومیة لا تعدو کونها قرارات بمثابة توصیات، وأن القرارات الملزمة قانونیا هی فقط تلک الصادرة عن مجلس الأمن. أما وصف قرار التقسیم بالظالم فیعود کما یرى الصهاینة إلى أنه منح الشعب الیهودی جزءا من فلسطین، فی حین منحت بنود الاتفاقیة الصادرة عن مؤتمر سان ریمو کامل فلسطین إلى الشعب الیهودی، إضافة إلى الجولان.
وعلیه (یضیف الإعلام الصهیونی) فإن الضفة الغربیة التی احتلها الأردن عام 1948 قد عادت عام 1967 إلى الشعب الیهودی، وینطبق الأمر على الجولان الذی منحته بریطانیا لفرنسا عام 1923 دونما وجه حق، ودونما موافقة من المنظمة الصهیونیة.
وخلاصة القول، کما یرون، فإن قرار مجلس الأمن 242 الصادر عام 1967، والذی یدعو إسرائیل إلى الانسحاب من أراض محتلة قد تم تطبیقه فعلا بانسحابها من صحراء سیناء، والتی کانت بالفعل أرضا محتلة. لهذا یبدو من المناسب أن نستعید بعض اللقطات الخاصة بالمشارکین فی مؤتمر سان ریمو، وما صدر عنه من قرارات خاصة بفلسطین، فکما یقال دائما فإن فی التاریخ عظة وعبرة لمن أراد أن یتعظ ویعتبر. فقد عقد مؤتمر سان ریمو قبل تسعین عاما خلال الفترة 19 26 نیسان/ابریل عام 1920 على شاطئ الریفییرا الإیطالیة، وکان الهدف المعلن عنه اتخاذ قرارات نهائیة حول مستقبل أراضی الامبراطوریة العثمانیة، بعد هزیمتها مع دول المحور فی الحرب العالمیة الأولى. رأس المؤتمر رئیس وزراء بریطانیا دیفید لوید جورج بمشارکة وزیر خارجیة بریطانیا آنذاک لورد کرزون ووزیر الخارجیة السابق آرثر بلفور بصفته مستشاراً للوفد البریطانی، إلى جانب حضور وزراء خارجیة فرنسا وإیطالیا وممثلین عن الیابان والیونان وبلجیکا، ومندوبین عن المنظمة الصهیونیة برئاسة کل من حاییم وایزمن وناحوم سوخولوف وهیربرت صموئیل، والأخیر هو أول یهودی یرتقی إلى منصب وزیر فی بریطانیا، وقد قدّم إلى الوفد البریطانی المشارک فی المؤتمر مذکرة حول التسویة النهائیة لمنطقة شرق البحر الأبیض المتوسط.
وجاءت قرارات المؤتمر متفقة مع طبیعة المشارکین وطبیعة الإعداد له، فقد کان لفلسطین نصیب الأسد فی القرارات الصادرة عنه فی 25 نیسان/ابریل 1920، بحیث أکّدت على ما جاء فی اتفاقیة سایکس بیکو الموقعة عام 1916، وعلى تبنّی تطبیق تصریح بلفور الصادر فی 1917. ومنحت دول التحالف تخویلا رسمیا إلى بریطانیا بفرض سلطة الانتداب على فلسطین، لصالح تأسیس وطن قومی للشعب الیهودی لإعادة روابطه التاریخیة بفلسطین، مع ضمان أن لا یضر ذلک بالوضع السیاسی او بالحقوق التی یتمتع بها الیهود فی أی دولة أخرى.
ولتحقیق هذه الأهداف، فقد تضمن المؤتمر أربعا وعشرین مادة صادقت علیها عصبة الأمم فیما بعد فی لندن، لضمان وضع فلسطین تحت ظروف سیاسیة وإداریة واقتصادیة تسمح بتأسیس الوطن القومی الیهودی (المادة 2) بحیث تقوم المنظمة الصهیونیة بتکوین وکالة یهودیة تعمل على تجمیع الیهود الراغبین فی المساعدة على إنشاء الوطن القومی للیهود، بالتعاون والتشاور مع إدارة الانتداب البریطانی فی الشؤون الاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها من الأمور کان ضمن غیرها کما اتضح فیما بعد الشؤون العسکریة (المادة 4). وأن تعمل إدارة الانتداب على تسهیل الهجرة الیهودیة، وتشجیع استیطان الیهود على أراضی الدولة والأراضی المهملة بالتعاون مع الوکالة الیهودیة (المادة 6)، وعلى سن قوانین تسمح بحصول الیهود على الجنسیة الفلسطینیة والإقامة الدائمة فی فلسطین (المادة 7)، واعتبار اللغة العبریة لغة رسمیة فی فلسطین مع اللغتین الإنکلیزیة والعربیة (المادة 22) مع وجوب تقدیم تقریر سنوی من إدارة الانتداب البریطانی إلى عصبة الأمم عن الإجراءات التی یتم اتخاذها لتحقیق مجموع هذه الأهداف (المادة 24).
بقی أن نضیف بهذا الخصوص، أن مسوّدة مواد هذه الاتفاقیة قد تم کتابتها من قبل المنظمة الصهیونیة برئاسة حاییم وایزمان، والذی قدمها إلى الوفد البریطانی فی مؤتمر باریس عام 1919، لیصوغها وزیر الخارجیة البریطانی بشکلها النهائی فی آذار(مارس) 1920.
اللافت للنظر أنه وبعد شهرین فقط من انعقاد مؤتمر سان ریمو، بدأ هیربرت صموئیل الیهودی الصهیونی عمله کأول مفوض سامی للانتداب البریطانی على فلسطین. وقد کشف الفیلم الوثائقی (النکبة) والذی أنتجته قناة 'الجزیرة'، ولأول مرة، عن المذکرة التی کان صموئیل قد قدمها عام 1915 بعنوان (مستقبل فلسطین)، واقترح فیها وضع فلسطین تحت الانتداب البریطانی تمهیدا لإنشاء دولة الیهود، وکیف تمکن على مدى خمس سنوات من تعیینه فی فلسطین من وضع القاعدة التأسیسیة لإنشاء هذه الدولة، على صعید الهجرة الیهودیة والاستیطان والعمل والبنى التحتیة والتعلیم واللغة وصولا إلى إنشاء الجامعة العبریة عام 1925.
ولهذا لم یکن غریبا أن یطلق الصهاینة على اتفاقیة سان ریمو أنها (ماغنا کارتا) الیهود، أی المیثاق العظیم لتحریر الیهود. وهو میثاق شارکت فی دعمه عصبة الأمم حین کان أعضاؤها الدائمون بریطانیا وفرنسا وإیطالیا والیابان. واستمر هذا الدعم لاستکمال إنشاء دولة الیهود مع إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1946، حین أصبح الأعضاء الدائمون فی مجلس الأمن کل من بریطانیا وفرنسا والولایات المتحدة الأمریکیة والاتحاد السوفیتی والصین.
ویدلل استمرار هذا الدعم رغم تغیر الوجوه على أن القوى العظمى قد ساندت المنظمة الصهیونیة دائما على حساب العرب، وأنها رفعت إسرائیل مادیا ومعنویا إلى مرتبة هذه القوى، لتکون الدولة الوحیدة الصغیرة القادرة على تجاوز أی قانون دولی، فتعتدی على من تشاء من العرب فی أی وقت تشاء، وتوجه فی نفس الوقت أصابع الاتهام إلى من تعتدی علیه، تماما مثل حال القوى العظمى التی تساندها.
ورغم ذلک فقد بقینا کفلسطینیین وباقی العرب، وعلى مدى هذه العقود الطوال نلجأ إلى هذه القوى لإنصافنا وإعادة الحقوق المشروعة لنا، وهی نفس القوى التی کانت الظهیر لإنشاء إسرائیل والسکوت على اعتداءاتها. وآخر طرفنا المضحکة المبکیة فی سلسلة عشرات المحاولات هذه، مهلة الأربعة شهور التی منحناها لإعادة (تحریک) مفاوضات السلام، أعنی سلام الشجعان.
إلا أن أطرف ما صدر مؤخرا خلال هذه المهلة، هو ما صرّح به بنیامین نتنیاهو مذکرا بتوصیة هرتزل للشعب الیهودی بأن لا یطلب المساعدة من الغرباء وأن یعتمد فقط على نفسه فی بناء الأمة. وکأنه کان یمکن لإسرائیل أن تکون أو أن تبقى دون دعم الغرباء من غیر الیهود.
بالنسبة لنا، فقد ترک الشهداء الثلاثة جمجوم وحجازی والزیر، الذین أعدمهم البریطانیون فی فلسطین عام 1930 لمقاومتهم الصهاینة، وصیة للحکام العرب والمسلمین بأن لا یثقوا بالأجانب، إلا أنه وکما هو واضح فإن شعار حکامنا من العرب والمسلمین طوال تسعین عاماً کان وما زال أن لا یثقوا بأمّتهم، وأن یضعوا کامل ثقتهم، إن لم نقل کامل وجودهم، تحت تصرف الأجانب.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS