الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الصراع على "هُویّة الصراع" فی المنطقة العربیة

کتب السید صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن :

الخطر الأکبر الذی یواجه العرب حالیاً هو انشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلیة. فمن رحم هذه الأزمات، فی بلدان مثل العراق والصومال والسودان والیمن وفلسطین ولبنان، تتوالد مخاطر سیاسیة وأمنیة عدیدة أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفیة والمذهبیة والإثنیة، إضافةً إلى الصراعات السیاسیة والتنافس على السلطة.

ومع هذه الأزمات، المفتعَل بعضها من قوى دولیة وإقلیمیة، تتصاعد الحملة الإسرائیلیة لجعل الملف الإیرانی هو "الصراع البدیل" عن "الصراع العربی/ الإسرائیلی" المتواصل منذ عقود، وفی ظلِّ المشروع الإسرائیلی الهادف إلى تقسیم البلاد العربیة، بحیث تکون الدولة الیهودیة فی المنطقة هی الأقوى وهی المهیمنة على الدویلات المتصارعة.

وعلى جوار حدود الأرض العربیة، تنمو مشاریع إقلیمیة تستفید من خطایا السیاسة الأمریکیة ومن غیاب المرجعیة العربیة ذات المشروع الضامن لمصالح الأمّة العربیة.

فالصراع على "هُویّة الصراع" فی المنطقة العربیة هو جوهر المشکلة السائدة الآن، وهو صراع دولی/ إقلیمی فی إطاره العام الجاری حالیاً، لکن یرید البعض تحویله أیضاً فی أکثر من مکان إلى صراعات طائفیة ومذهبیة.

إنّ ضعف المناعة فی الجسد العربی هو ما جعل هذا الجسم قابلاً لاستقبال حالات الأوبئة التی تعشّش الآن فی خلایاه، وأخطرها وباء الانقسام الطائفی والمذهبی.. ولو لم یکن حال الأمّة العربیة بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما کان ممکناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع کلّها.

هناک ثلاثیة متلازمة تقوم علیها الحیاة العربیة لأکثر من قرنٍ من الزمن، والثلاثیة هذه هی "الوطنیة والعروبة والدین". فمنذ مطلع القرن الماضی، وعقب سقوط الدولة العثمانیة، رسم البریطانیون والفرنسیون خریطة جدیدة للمنطقة العربیة قامت فی محصّلتها دول وحکومات، ثم تبلور هذا الواقع مع النصف الثانی من القرن العشرین بصورة أوطان لها خصوصیاتها الکاملة، یعیش العرب فیها وینتمون إلیها کهویّة قانونیة.

لم یکن القصد البریطانی والفرنسی من رسم الحدود بین أجزاء الأرض العربیة مجرّد توزیع غنائم بین الإمبراطوریتین الأوروبیتین آنذاک، بدلالة أنّ البلدان العربیة التی خضعت لهیمنة أیٍّ منهما تعرّضت هی نفسها للتجزئة، لکن الهدف الأول من ذلک کان إحلال هویّات محلّیة بدیلاً عن الهویّة العربیة المشترکة، وإضعافاً لکلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربی الآخر.

ورافقت هذه الحقبة الزمنیة من النصف الأول من القرن العشرین، محاولات فرض التغریب الثقافی بأشکال مختلفة على عموم البلدان العربیة والسعی لزرع التناقضات بین الهویات الوطنیة المستحدثة وبین الهویات الأصیلة فیها کالعروبة الثقافیة والإسلام الحضاری، ثم أیضاً بین العروبة والإسلام فی أطر الصراعات الفکریة والسیاسیة.

وقد تمیّزت الحقبة الزمنیة اللاحقة، أی النصف الثانی من القرن العشرین، بطروحات فکریة وبحرکات سیاسیة یغذّی بعضها أحیاناً المفاهیم الخاطئة عن الوطنیة والعروبة والإسلام، أو لا تجد فی فکرها الآحادی الجانب أیَّ متّسع للهویّات الأخرى التی تقوم علیها الأمَّة العربیة. ففی هذه الأمّة الآن مزیج مرکّب من هویاّت قانونیة وطنیة وثقافیة عربیة وحضاریة دینیة. وهذا واقع حال ملزِم لکل أبناء البلدان العربیة حتى لو رفضوا فکریاً الانتماء لکلّ هذه الهویّات أو بعضها.

ربّما العرب الیوم هم أحوج ما یکونون لاستیعاب هذا المزیج من ثلاثیة الهویة. فالبلدان العربیة تعیش جمیعها الآن مخاطر التهدید لوحدتها الوطنیة کمحصّلة للمفاهیم والممارسات الخاطئة لکلٍّ من الوطنیة والعروبة والدین. وقد عانى العدید من البلدان العربیة وما یزال من أزمات تمییز بین المواطنین، أو نتیجة ضعف بناء الدولة الوطنیة ممّا أضعف الولاء الوطنی لدى الناس وجعلهم یبحثون عن أطر فئویة بدیلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشترکة.

أیضاً، اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن هم فی مواقع الحکم، أنّ إضعاف الهویة الثقافیة العربیة أو الانتماء للعروبة بشکل عام، سیؤدّی إلى تعزیز الولاء الوطنی، لکنْ کان ذلک کمن أراد إضعاف التیّارات السیاسیة الدینیة من خلال الابتعاد عن الدین نفسه، عوضاً عن الطرح السلیم للعروبة والدین، وبإفساح المجال أیضاً لحرّیة التعبیر السیاسی والفکری لکلّ التیّارات.

إنّ الفهم الصحیح والممارسة السلیمة لکلٍّ من "ثلاثیات الهویة" فی المنطقة العربیة "الوطنیة والعروبة والدین" یتطلّب نبذاً لأسلوب العنف بین أبناء المجتمع الواحد مهما کانت الظروف والأسباب، وما یستدعیه ذلک من توفّر أجواء سلیمة للحوار الوطنی الداخلی، وللتنسیق والتضامن المنشود بین الدول العربیة.

إن الدین یدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. إنّ العروبة تعنی التکامل ورفض الانقسام. إن الوطنیة هی تجسید لمعنى المواطنة والوحدة الوطنیة. فأین نحن من ذلک کلّه؟

إنّ ضّعف الولاء الوطنی یُصحَّح من خلال المساواة بین المواطنین فی الحقوق السّیاسیة والاجتماعیّة، وبالمساواة أمام القانون فی المجتمع الواحد؛ کذلک هو الأمر بالنسبة للهویّة العربیة حیث من الضروری التمییز بینها وبین ممارسات سیاسیة سیّئة جرت من قبل حکومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً وإن کانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هی هویّة ثقافیة جامعة تستوجب تنسیقاً وتضامناً وتکاملاً بین العرب یوحّد طاقتهم ویصون أوطانهم ومجتمعاتهم.

یضاً، إنّ غیاب الفهم الصّحیح للدّین وللفقه المذهبی وللعلاقة مع الآخر أیّاً کان، هو المناخ المناسب لأی صراع طائفی أو مذهبی یُحوّل ما هو إیجابی قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف دموی یُناقض جوهر الرّسالات السّماویّة، لکن یحقق غایات الطامحین للسیطرة على الأرض العربیة!.

فالعرب یدفعون الآن ثمن خطایا کبیرة حدثت خلال العقود الثلاث الماضیة فی المنطقة، فضلاً عن أنّهم الآن بلا بوصلة مرشدة لحرکتهم السیاسیة.

والتعامل مع تزاید نفوذ قوى الجوار الإقلیمی لا یجب أن یحجب أولویة المخاطر الأخرى المتمثّلة بالاحتلال الأجنبی والإسرائیلی، بل تستدعی هذه التحدیات کلّها تصحیح التوازنات فی المنطقة من خلال قیام تضامن عربی شامل وسلیم یضع الأسس المتینة للعلاقات بین الدول العربیة، وبینها وبین سائر دول الجوار.

إنّ کثیرین من أبناء الأمّة یتشکّکون الآن من هُویّتهم العربیة وممّا هو مشترک بین بلدان هذه الأمّة، دون إدراکٍ منهم أنّ ما هو قائم من وضع سلبی لا یعبّر أصلاً عن العروبة نفسها. فالحدیث هو عن "أمَّة عربیة" بینما هی أوطان وحکومات متعدّدة، وأحیاناً متصارعة، بینما المتعاملون مع هذه الأمّة العربیة من قوًى إقلیمیة ودولیة هم أمم موحّدة بکل معانی التوحّد أو التکامل السیاسی والاجتماعی والاقتصادی والعسکری. فلو أنّ حال هذه القوى کان شبیهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشکّل تحدّیاً أو خطراً على غیرها.

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 141364







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)