qodsna.ir qodsna.ir

62 عاما والنکبة مستمرّة...

 کنّا نرفع الشعار: الثورة مستمرّة، وثلاث نقاط بعد کلمتی الشعار المبشّر بالدیمومة حتى النصر.
ها نحن، وقد ضیّعت الثورة فی دهالیز المفاوضات نرى فقط أن: النکبة مستمرّة...
ونحن فی میادین القتال، والکفاح، کنّا نتجاوز النکبة، نحوّلها إلى حدث، على فجائعیته، وکارثیته، عارض فی حیاة الأمّة، حدث أعطانا مصلاً أنعش قدرة جسدنا العربی الخامل على المقاومة، والاستعداد للمواجهة والانتصار على الأمراض الداخلیّة، والعدو القادم من الغرب.
لقاح المقاومة، والثورة، والفعالیة الثوریّة فی النکبة ـ کما رأى المفکّر العربی الدکتور ندیم البیطار ـ فسد إلاّ قلیلاً، وإن لم نعّد (طُعما) جدیدا، فالهلاک آت لا محالة، وهو تأبید للنکبة التی تعنی توطّد الکیان الصهیونی إلى أمد بعید، وتمدده، وتصالح وتساکن نظم سایکس ـ بیکو..معه، والاطمئنان إلیه، والرکون إلى صداقته، ما دامت هذه الصداقة تضمن البقاء، والتوریث، وتمنع امتداد نیران فلسطین إلى کیاناته الهشّة الیابسة السریعة الاشتعال بسبب الفساد، والظلم، والغدر بفلسطین، وإباحة أرض الأمّة للغزاة. حتى أنعش معرفتی بأسرار النکبة، وسبل علاجها، عدت إلى الکتب القدیمة، کتب ما قبل الشعارات التی توصف (بالخشبیّة) ـ وهی عندی فولاذیّة لدى القابضین على جمر فلسطین ـ والتی دوّن کلماتها مفکرون من أبناء أمتنا، رأوا بعیدا، واستشرفوا ما نحن فیه راهنا، وما یمکن أن یدوم إلى سنوات، وعقود طویلة، إن بقینا فی غفلتنا، نعیش نیاما، قطعانا بلا أهداف، وبلا وعی، وبلا کرامة.
کل بضعة أعوام أعود لقراءة کتاب (الفعالیّة الثوریّة فی النکبة) للمفکر الدکتور ندیم البیطار، ولعلّها مناسبة أن أنصح من یحبون فلسطین، ویحترمون انتسابهم لأمتهم، ویؤرقهم هذا الهوان الذی نحن فیه، أن یقرأوا هذا الکتاب العمیق التحلیل، والذی منذ طبعته الأولى عام 65 تلقفناه نحن الفتیة الذین آمنوا بفلسطین، وبأمتهم، وبأن النهوض لا یکون بغیر الوعی بأسباب الهزیمة، وتحدید سبل الخروج منها، وتحویلها إلى فعل ثوری هو استجابة للتحدّی، بالاعتماد على القدرات العربیّة المختزنة التی تنتظر التفعیل والکشف عنها، وإطلاقها فعلاً متواصلا، یجتّث أسباب التخلّف والفُرقة والجهل والضعف.
مؤسسة الدراسات الفلسطینیّة أصدرت عام 2009 کتابا ضمّ أربعة کتب صغیرة الحجم کبیرة الفائدة، صدرت على مقربة من نکبة 48.
هذه الکتب الرائدة فی دراسة النکبة وأسبابها هی: معنى النکبة للمفکر الدکتور قسطنطین زریق (سوری)، طریق الخلاص للدکتور جورج حنّا (لبنانی)، بعد النکبة للعالم المفکّر قدری طوقان (فلسطینی)، وعبرة فلسطین للسیاسی الفلسطینی موسى العلمی.
لیسمح لی القرّاء أن أتوقّف عند کتاب المفکر الدکتور قسطنطین زریق، لأنه ریادی فی موضوعه الذی ما زال یلّح بسؤال النکبة، والذی یقّض مضاجع الحرصاء على أمتهم، بخّاصة وهم یرون الهاویة التی تُدفع إلیها القضیّة، بأید فلسطینیّة وعربیّة، تنفّذ بلامبالاة جریمتها، وتبرر لنفسها ما هی منخرطة فی فعله وفقا لمکوناتها ومصالحها الشخصیّة، وفقرها النفسی والفکری، ولضعفها أمام الإدارات الأمریکیّة أیّا کانت، والتی هی فی کل أحوالها ثابتة الانحیاز للکیان الصهیونی، ومعادیة لفلسطین وکل قضایا العرب التحرریّة.
الأمّة بملایینها الثلاثمائة مسترخیّة غافلة، تغلق عیونها وآذانها عن الخطر، وتمضی إلى خسارة حضورها، ویستغل الأعداء تفککها، وجهلها، وتخلفها، وعبث حکامها بها، وبهذا یفرضون علیها بیسر تام ما لم یکن یخطر ببال من سهّلوا نقل الیهود من أوربة إلى فلسطین، وبالرعایة البریطانیّة منحوهم (دولة) وظیفتها تمزیق الوطن العربی. الآن، وأنا أرى هول ما یجری، والمارقون یزدادون صفاقة ووقاحة، إن باستقبال نتنیاهو على انفراد، أو بمعانقته بعد حرد، فإننی أتأمل حال المثقفین العرب، وحرص بعضهم، فقط بعضهم، على دورهم فی تنبیه الأمّة، والإلحاح على عناصر قوّتها، وتبیان أساب وعوامل ضعفها، وتحریضها على الاشتباک مع أسباب الضعف ومسببیه، فإننی أعود وأتأمل ما کتبه المفکّر الدکتور قسطنطین زریق فی کتیبه (معنى النکبة)، والذی صدر عن دار العلم للملایین عام 1948 فی شهر آب، وبمقدمة صغیرة من بضعة أسطر بتاریخ 5 آب/اغسطس، أی قبل أن تعلن العصابات الصهیونیّة نفسها دولة على یدی (القابلة) بریطانیا ..فتأملوا کیف أن هذا المفکّر الریادی تیقن أن النکبة واقعة لا محالة قبل أن تحّل الهزیمة، وتعلن العصابات الصهیونیّة نفسها(دولة)!
کیف رأى قسطنطین زریق وکتب مبکرا؟! وأجیب: هذا ما یمیّز المفکّر والمثقف الذی ینتمی، ویهجس، ویؤمن بأمته، ویضع أمامه حال مجتمعه، مستشرفا الآتی من رحم الحاضر، وملتفتا إلى الماضی لا عبادة به وتبجیلاً بأهله، ولکن کما یفعل الطبیب الذی یتفحّص الجسد، و..یعمل مبضعه فی موضع العلّة، فالعلاج یقتضی وجود المشرط بلا شفقة کاذبة ضّارة، فالحب والوفاء والإیمان بالدور والرسالة یقتضی مصارحة المریض بعلّته، کمقدمة لعلاج المرض والبرء منه.
شعور المفکّر الدکتور زریق بالمسؤولیّة هو دافعه لکتابة دراسته کما: لست أدعی أنی، فی هذه الدراسة المقتضبة لمحنة العرب فی فلسطین، قد اخترعت البارود ـ أو بلغة العصر: القنبلة الذریّة ـ أو أنی اکتشفت الدواء الشافی لعلاّتنا جمیعا، وإنما هی محاولة لتصفیة تفکیری، فی هذه الأزمة الخانقة التی یترتب فیها على کل فرد من أفراد الأمّة قسطه من الواجب، ونصیبه من التبعة. ولا شک فی أن أول شرط لحسن القیام بهذا الواجب: صحّة التفکیر، واستواء الخطّة.
یشدد المفکّر المؤمن بأمته: المهم فی هذا التنبیه الداخلی أن یستقّر فی الذهن العربی، وفی النفس العربیّة، أن الخطر الصهیونی هو الخطر الأعظم على الکیان العربی... للتعبئة وفقا لهذا المنطلق الأساس، لخوض معرکة طویلة، یرى: ..فإذا قوی هذا الإحساس قویت معه إرادة الکفاح، هذه الإرادة التی لا تزال، مع الأسف ضعیفة فینا، فکفاحنا فی هذه المعرکة کان على العموم کفاحا متصنّعا متمهّلا، لا کفاحا مستمیتا، کأن الجهاد کان فرض کفایة لا فرض عین!(ص15 من الکتاب)
أنبه القارئ إلى أن المفکّر زریق عربی(مسیحی)، ومع ذلک فهو یشدد على (الجهاد)..فتأملوا!
ثمّ ینتقل إلى الرکن الثانی فی خوض المعرکة: ..وهو التعبئة المادیة فی میادین العمل کلها، وهو تجنید قوى الأمة الحربیّة بکاملها، وتوجیهها على میدان الصراع...
لم یتغیّر شیء منذ نکبة 48، وهنا النکبة الحقیقیّة، وهی تکمن فی العامل الذاتی العربی، فی التفکک، فی الکیانات الإقلیمیّة المتذابحة، فی الجیوش التی لا تحشد لفلسطین ـ کنّا بسبعة جیوش فی الـ48، وها (لدولنا) 22 جیشا تشترى لها أسلحة بالملیارات!ـ ..فی الجهل والفساد وغیاب احترام الشعوب، وتغییب الشعور بخطر العدو الصهیونی عن وعی الأمّة، وإحلال الأحقاد الطائفیّة والإقلیمیّة لإشغال الأمّة وإنهاکها واستنفاد طاقاتها.
یرى زریق أن الخطر الصهیونی لا یُرّده إلاّ: کیان عربی قومی متحد تقدمی، فإنشاء هذا الکیان هو الرکن الأوّل للجهاد العربی البعید، ولا یتّم ـ کما قلت ـ إلاّ بانقلاب أساسی فی الحیاة العربیّة، ومن هنا کان الجهاد الخارجی لدفع الأخطار الاعتدائیّة مربوطا بالجهاد الداخلی لإقامة الکیان العربی...(ص25)
یرى زریق أن فریقا کبیرا من المثقفین بعید عن الإحساس بالخطر الأعظم الذی تمثله الصهیونیّة..فما بالک لوعاش لیشهد تسابقهم على التطبیع معه؟!
ما یحدث حالیّا هو تکریس للنکبة، فدول(العرب) الکثیرة هی التی تجعل نکبة الـ48 مستمرّة، بعد 62 عاما...
رشاد أبوشاور
ن/25


| رمز الموضوع: 141368