فی ذکرى (تجدد) النکبة: إسرائیل تکافئ مصر بسرقة نیلها!

الفراغ السیاسی العربی متعدد الأبعاد والمساحات. فهو جغرافیاً وفی مساحة أقطاره الواسعة الشاسعة یشابه صحراء أراضیه القاحلة. وهو فی مجال قضایاه الحیویة داخل أقطاره، وفیما بینها، لیس ثمة حراک مشترک فی أی موضوع إنسانی أو اجتماعی أو مادی یقوم عادةً بین الجار وجاره، ولیس بین الشقیق وشقیقه. أما على المستوى الدولی فالأمة العربیة ممحیة من قائمة الحضارات الفاعلة فی هذه المعمورة.
ولا یکاد یعرف العالم عنها إلا الکوفیة والعقال ونقاب النساء وبرامیل النفط، وأشباههم من البشر، و(الإرهابی) المفخخ. دویلة واحدة، صغیرة ومصطنعة ودخیلة على الجغرافیا والکینونة العربیة، وهی إسرائیل طبعاً، تکاد تختصر العالم العربی فی مصطلح (الشرق الأوسط) الذی ترشح نفسها لزعامته وحدها إن عاجلاً أو آجلاً.
الفراغ السیاسی العربی فی إقلیمه ومحیطه وفی أوسع دائرة دولیة، ینبغی أن یُفهم بصورة متعارضة: فهو من جهة فراغ إرادة الوجود العصری والمبادرة الخلاقة، على مستوى فعالیات العشرین کیاناً دولانیاً وأکثر؛ وهو من جهة أخرى فراغٌ جاذب لانشغالات عالمیة کبرى، لاحتوائه واستغلاله والسیطرة على مصائره - وعلى هذا یجوز ترداد الحکم القائل أن الأمة الفاقدة لحضورها بالنسبة إلى ذاتها، لن تکون حاضرة بالنسبة لغیرها، سواء کان هذا الغیر صدیقاً أم عدواً. فما یعنیه الحضور فی هذا السیاق، وحسب منطق العلاقات الدولیة، هو قدرة الأمة على حمایة سیادتها، بما توفره إمکانیاتها الحضاریة من تحقیق شروط مشروعیتها الأنطولوجیة، قبل الحقوقیة، وذلک فی عین ذاتها وقبل عین الآخر الغریب.
المسرح السیاسی الیومی هو الذی یُمَشهد هذه المعاییر. یذّکر الوعیَ المراقب والمسؤول بالمزید من الفوارق النوعیة المتراکمة بین خطاب تلک المعاییر، ووقائع الأحداث العامة. وقد تشعر بعض النخب الثقافیة المتناثرة بین عواصم الجغرافیة المتباعدة، بما تدعوه مأزق النهضة العربیة، المتجلی خاصة فیما یتعدى مفهوم أمنها القومی إلى مفهوم الأمن المدنی. وتفسیر هذه الترسیمة الرهیبة هو أن صیغة الدولة العربیة الفاشلة لا ترجع فقط إلى عجز المرحلة الاستقلالیة منذ أواسط خمسینیات القرن الماضی، عن تخطی القیادة القطریة لنموذجها الانغلاقی التجزیئی نحو أیة مشاریع وحدویة أو تکاملیة فی الحد الأدنى على الأقل، بل کان الحدث السیاسی المتواتر معیقاً للتحقق النهضوی، وإن ظلَّ حاملاً لشعاراته النظریة دائماً، محتاجاً إلى زخمها الثقافی والمعیاری لتسویغ مبادراته التحشیدیة إزاء جماهیره الموافقة منها أو المعترضة.
کان الخطاب السیاسی المتداول یأنف من صفته تلک. فالقیادات، والتشکیلات الحزبیة، ومنابر الإعلام، کانت تردد قاموس الثوریات ومشتقاتها. لیس ثمة رأی أو موقف وحتى قرار لدولة أو تنظیم (عقائدی)، إلا وهو مُقَوْلَب فی المبنى والمعنى بالتلفیظ الثوری، کمعیار أعلى، یکسبه المقبولیة المطلوبة أو ینتزعها منه. فإذا کان ثمة سیاسة هنا أو هناک، فهی مستظلة بأعلام الأمن القومی، أو متحایلة، بل خارجة علیه، أی على مسلماته الأیدیولوجیة، ومقاییسه الإطلاقیة. لم یکتشف الفکر (التقدمی) دلالة واقعیة للأمن المدنی إلا بعد أن خسر الأمن القومی معظم رهاناته التاریخانیة. فحین کان هذا الأخیر طامحاً إلى مأسسة الحقبة الاستقلالیة تحت طائلة النقلة النوعیة نحو دولة الأمة العصریة الواحدة، کانت الدولة القیادیة فی هذا المسعى تتعرض لأعنف محاولات الاستعمار الجدید، فی تقویض الحدود الدنیا من استقلالها الوطنی، وفی تعجیزها اجتماعیاً عن أیة إنجازات نهضویة، تغیر قلیلاً من شروط الحیاة الردیئة والمتخلفة لمعظم فئاتها.
هنالک الرأی الذی یُرجِعُ الفراغَ السیاسی الراهن إلى افتقاد العالم العربی للدولة القائدة، الأمر الذی یجعل بقیة الدول متساویة تقریباً فی محدودیة القدرة على تحمل أعباء التزامات شمولیة کبرى، من نوع الضرورات القومیة. فانسحاب مصر، القطر الأکبر دیموغرافیاً وجغرافیاً وحضاریاً، من مهمة القیادة، بعد رحیل عبد الناصر، کان من الأهمیة السلبیة الخطیرة، بحیث لم تستطع أیة دولة أخرى أن تملأ الدور القیادی والزعامی، بالرغم من محاولات العدید من الأقطار فی إنتاج نُسَخٍ عنه، کانت لها صولاتٌ وجولات فی ساحات الصراع الإقلیمی، ولکن من دون نتائج فاعلة فی ترسیخ أسس الأمن القومی، إن لم تکن قد عجٌلت فی انهیار ما تبقى من هذه الأسس، وصولاً إلى تعرض أکبر قطر مشرقی، وهو العراق، إلى أول تطبیق لنموذج الحرب الإبادیة المتواترة، الذی یدشن عصر انتشار الإمبراطوریة الأمریکیة أحادیة القطب، لما بعد انقضاء الحرب الباردة.
ما یعنیه انهیار مبدأ الالتزام بضرورات الأمن القومی، مع اختفاء وظیفة الدولة القائدة، دون استخلافها بأشباه لها، هو افتقاد أقطار العرب، تدریجیاً وسریعاً، لمختلف أشکال ودرجات الحمایة الجیوستراتیجیة، التی کانت وفَّرتها نهضة الاستقلالات الوطنیة لدولها الناشئة، حین منحتها ثمة کیاناً تضامنیاً، بَرْهن، ولو ضمن حدود أولیة، على إمکانیات صمود وتصدٍّ واعدة فی ظروفها النسبیة آنذاک، ضد الهجمة المزدوجة العارمة، الصهیونیة والأمریکیة، على إثر اغتصاب فلسطین، وعودة مشاریع الأحلاف الغربیة المفروضة على دول المشرق خاصة.
تلک المرحلة التی اتخذت لذاتها عنوان القومیة العربیة، کانت لها ترجمة مباشرة على أرض الواقع السیاسی ومتغیراته العنفیة فکریاً وعسکریاً واجتماعیاً. وقد افترضت لها تحدیاً مرکزیاً هو عدم تکرار نکبة فلسطین فی نکبة نهضویة عربیة شاملة. بمعنى أن النهضة قد تخسر حروباً ومعارک فی قطاعات کثیرة من فعالیاتها، لکنها لن تخسر ذاتها. لذلک شکّل وقْفُ الزحف الإسرائیلی فیما حول رقعة الدویلة العبریة المغروزة فی خاصرة المشرق، شکّل الهدفَ المحوری للأمن القومی العربی. کان هدفاً دفاعیاً بمعنى الکلمة، بدءاً من شرطه العسکری. فقد کشف اندحار ما سُمی آنذاک بالجیوش العربیة المانعة للنکبة الفلسطینیة المتحققة، عن هشاشةِ حتى قدرتِها الدفاعیة عن أقطار أخرى فیما لو تمادت إسرائیل فی توسعها.
ما یمکن قوله إن انبعاث حرکة القومیة العربیة، مع المتغیرات الانقلابیة والسیاسیة فی سوریة، وانطلاق ثورة عبد الناصر، کان فی جوهره حراکاً دفاعیاً عن مجرد الوجود العربی. وما تلبیة أوسع الجماهیر لشعاراته، فی أرجاء الوطن کله، بتلک الحماسة العفویة غیر المسبوقة، والمشارکة الجماعیة ما فوق الحدود والسدود فی تمظهرات هذه التلبیة الشعبیة المطلقة، لم یکن ذلک سوى تعبیر عن رفض تلقائی للحالة العبریة الطارئة، واعتبار إنسانی بسیط أن الغزو الیهودی لفلسطین لیس سوى المدخل المرحلی إلى غزو العالم العربی، إن لم یکن عسکریاً عاجلاً، فسیکون استیعاباً سیاسیاً واقتصادیاً - وحتى ثقافیاً.
الاسم القومی العربی آنذاک لم یولد شعاریاً فحسب، لکنه کان وسیبقى آمراً بالقول والفعل فی کل شأن کیانی، یُصطلح علیه تحت مفهوم الأمن القومی. فالنکبة عربیة فی مبتدئها ومسیرتها، وحصائلها الراهنة والمتوقعة. وهی تمثل مرکزیة التهدید الوجودی للأمن القومی. هذه الحقیقة المطلقة لا یعفو علیها مضی الزمن، بل یزیدها خطراً وتعقیداً. فالعالم العربی والإسلامی یعج بأشکال وألوان النکبات، لکنه فی الوقت عینه یفجّر حالات المقاومة والممانعة. وإذا کان الأمن القومی قد خسر حروباً على مستوى الأنظمة الحاکمة، فإن الشعوب تبتکر لذاتها وسائل دفاعها عن معتقداتها ومصائرها. وإسرائیل بالمقابل لم تبرح بَعْدُ صیغتَها الأجنبیة الغازیة. هذا الوضع اللااستراتیجی یجعلها کیاناً طارئاً، أی مؤقتاً، مهما فعلت. وهی الیوم تضلّل نفسها بإطلاق هستیریا الاستیطان، کتعویض مرضی عن لا شعورها الأنطولوجی کونها لا تمتلک وطناً حقیقیاً ومشروعیاً، ولن تمتلکه أبداً.
أما عرب الیوم، فإنهم یعانون فراغ السیاسة، بقدر ما تتحلى أنظمتهم الحاکمة عن آمریة الأمن القومی، فی الوقت الذی یتطور هذا التخلی المدان تاریخیاً وحقوقیاً وإنسانیاً، إلى الهاویة الاستراتیجیة الأشد ظلماً وظلاماً. وذلک عندما یصبح أیضاً تخلیاً عن الأمن المدنی. إذ راحت تنکشف المجتمعات، تتداعى أسوار حمایاتها الذاتیة والحضاریة، تحت وطأة أفاعیل التفکیک لمکوناتها الثقافیة والأقوامیة؛ حتى یتحول کیان الدولة القطریة نفسها إلى وعاء هش، لن یعود جامعاً لشعب متضامن ما بین فئاته المتنوعة، ومتطلع إلى الأمة العظمى التی ینتمی إلیها ویتکلم لغتها، ویتداول ثقافتها، متعایشاً مع آلامها وآمالها.
إن انهیار الالتزامات القطریة بالأمن القومی، واختفاء دور الدولة القائدة وانصیاع نظام مصر إلى کل ما یعاکس مفهوم هذه القیادة وأهدافها، ذلک هو ما یجدد (معنى النکبة) ویزوِّده بأسوأ نتائجه المدمرة.
النکبة العربیة بإسرائیل قائمة مستدیمة فی الحرب کما فی السلم. بل أن أخطارها وأفاعیلها فی ظل السلم الزائف هی الأخطر والأعمق تأثیراً حاضراً ومستقبلاً. إذ أن توازنات القوى تبطل أفضلیة الحرب بالنسبة لخیارات إسرائیل. لذلک سیکون عدوانها من صنف المصائب والعلل الداخلیة لمجتمعات المنطقة. فالأمن المدنی العربی والإسلامی هو المستهدف الراهن والمستقبلی. والأمثلة على اختراقه إسرائیلیاً لا تعد ولا تحصى، منذ توطین أشباح الحروب الأهلیة فی أکثر من دولة، بدءاً من تجاربها المستدیمة فی لبنان قبل ما یقرب من أربعة عقود. وقد یکون مثالها الأدهى هذا التطویف المتشعب لمجتمعات المشرق: وشواهده الکارثیة فاعلةٌ مدمرة فی النسیج العراقی بعد إسقاط أمنه العسکری والسیاسی، واستباحته کلیاً من داخل أنسجته البشریة والحضاریة.
مصر التی تنازلت عن دورها القیادی، وارتضت لنفسها وظیفة الحلیف الوفی لإسرائیل، الناشط فیما وراء حدودها مع من تبقى من أعدائها العرب، ها هی أمست فریسة للطعن الإسرائیلی من خلف ظهرها؛ مصر تواجه ربما أرهب إعدام لها آتٍ من خارطة أفریقیا. فحین تحبس الکمیة الأعظم من ینابیع ومیاه شریانها، نهر النیل العظیم، هل سوف تشرب البحر، لأن إسرائیل سوف تسرق النیل.. عبر مؤامرات مشاریعها الاقتصادیة، المسیّرة لحکومات جنوبی النیل.. وقد انطلقت البدایة المشؤومة حالیاً، مع معاهدة تقاسم میاه النهر ما بین هذه الدول، من دون مصر والسودان. وتحدیاً لهما معاً.
تخلت مصر عن قیادة الأمن القومی العربی. وها هی تواجه تجدد النکبة الفلسطینیة، فی عقر دارها.. وبما لن یقاس عبر أهوالها القادمة.
المفکر العربی المقیم فی باریس مطاع صفدی
ن/25