الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

"الواقعیة الجدیدة".. الأرض مقابل المقاومة

قدسنا: "الأرض.. مقابل المقاومة" لیس مجرّد شعار للاستهلاک العاطفی؛ هو واقع حال الصراع العربی/ الإسرائیلی منذ قیام الکیان الصهیونی قبل 62 عاماً، لکن هذه النتیجة العملیة لکیفیّة استرجاع الأراضی المحتلة، برزت ساطعةً دون أیّ تشویه، من خلال تجربة المقاومة اللبنانیة التی أجبرت إسرائیل قبل عشر سنوات تحدیداً "مایو 2000"، على الانسحاب من الأراضی اللبنانیة، ودون أیَّة شروط أو معاهدات أو تنازلات.
وها هی إسرائیل مرّةً جدیدة تکرّر خطأها التاریخی، فی محاولة تصفیة ظاهرة المقاومة الفلسطینیة ضدّ احتلالها الغاشم، عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه.. ومرّةً جدیدةً أیضاً وقفت بعض الحکومات الغربیة مع إسرائیل وخلفها، فی هذه السیاسة المخالفة لکلّ الشرائع والقوانین الدولیة التی تُقرّ حقّ الشعوب فی مقاومة المحتلّ.
لکن هذه السیاسة الإسرائیلیة لیست جهلاً بدروس التاریخ وحقائق الشرائع الدولیة، بل هی استمرار فی المراهنة على القائم عربیاً وفلسطینیاً من صراعات وانقسامات. إذ هل کان ممکناً أن تقوم إسرائیل بهذا الحجم الکبیر من القتل والتدمیر فی قطاع غزّة "کما فعلت سابقاً عام 2006 فی لبنان"، لو لم تکن هناک موافقات ضمنیة من بعض أطراف المنطقة على إنهاء ظاهرة المقاومة الفلسطینیة المسلّحة؟
فلو کان فی حسبان إسرائیل أن عدوانها على قطاع غزّة سیؤدّی إلى تعدیلٍ مثلاً فی موقف قیادة السلطة الفلسطینیة، وإلى إعلان هذه السلطة عودتها إلى نهج المقاومة ضدّ الاحتلال، هل کان لإسرائیل أن تقوم بمغامرتها العسکریة هذه؟! ولو کانت إسرائیل تحسب أنّ عدوانها على لبنان ثمّ على قطاع غزّة، سیدفع الدول العربیة والإسلامیة التی تقیم علاقات مع إسرائیل إلى قطع هذه العلاقات ووقف کلّ أشکال التطبیع معها، هل کانت "إسرائیل" لتتحمّل هذه الخسارة السیاسیة والاقتصادیة الکبرى مقابل عدوانها؟!
الأساس کانت وستبقى فی ما هو حاصلٌ فلسطینیاً وعربیاً من مواقف وانقسامات وصراعات، یبنی علیها العدوان الإسرائیلی؛ وهی فی تنازلات عربیة وفلسطینیة جرت وتجری فی المحافل الدولیة، وفی المفاوضات والاتفاقیات مع إسرائیل. فلِمَ، فی الحدّ الأدنى، لا تشترط الحکومات العربیة على مجلس الأمن وأطراف اللجنة الرباعیة، اعتبار إسرائیل دولة محتلّة؟! فهذا توصیف حقیقی ینزع الشرعیة الدولیة عن المحتلّ الإسرائیلی ویضمن، متى فشل أسلوب المفاوضات، حقّ المقاومة.
لقد انتقل الصراع العربی/ الإسرائیلی من تقزیمٍ له أساساً بالقول إنّه صراع فلسطینی/ إسرائیلی، إلى تقزیمٍ أکبر بوصفه الآن صراع إسرائیل مع "منظمات مسلّحة"! فالطرف العربی المفاوض قبِل بتجزئة الجبهات العربیة، وبإلغاء مقولة "الصراع العربی/ الإسرائیلی" أو شمولیة المسؤولیة عن القضیة الفلسطینیة، فتحوّلت المعاهدات مع إسرائیل إلى تسویات جزئیة منفردة، استفادت منها الحکومات الإسرائیلیة کی تمارس حروباً وضغوطاً أکثر على الفلسطینیین وعلى الجبهات الأخرى التی لم تشملها بعدُ مثل تلک التسویات.
لذلک، فإنّ المراهنة على دور أمریکی "نزیه ومحاید"، یتطلّب أیضاً تحسین الواقع التفاوضی الفلسطینی والعربی، بل تغییر نهج معتمد منذ أکثر من ثلاثة عقود. فواقع الحال الفلسطینی والعربی عموماً، لا یمکن أن یشکّل الآن قوّة ضاغطة، لا على الحکومة الإسرائیلیة ولا على الموقفین الأمریکی والأوروبی؛ فالقضیة لیست ما تریده إدارة أوباما وما قد تفعله، ففی الاحتمالات کلّها هناک مسؤولیة کبیرة تقع على الفلسطینیین خصوصاً، وعلى العرب عموماً، وبدایة الطریق تکون بوحدة الموقف الفلسطینی، على أسس تجمع بین السیر فی المفاوضات وبین الحرص على نهج المقاومة.
أمّا عربیاً، فإنّ الحدّ الأدنى المطلوب الآن للتعامل مع "عواصف نتانیاهو" و"ضبابیة أوباما"، یکون فی رفض أی شکل من أشکال الاعتراف بإسرائیل أو التطبیع معها، قبل قیام الدولة الفلسطینیة المستقلة وتحریر الأراضی المحتلّة، وفی دعم التوافق الفلسطینی على برنامج وطنی توحیدی.
إنّ شعار "الوطن أولاً" الذی رفعه بعض الأطراف العربیة، لم یکن من أجل تحریض المواطنین على الولاء الوطنی أولاً والتخلّی عن الانقسامات الداخلیة القائم معظمها على انتماءات طائفیة أو مذهبیة أو أصول إثنیة، بل کان الشعار وما زال یطرح ویستخدم لتبریر الابتعاد عن الصراع العربی/ الإسرائیلی، والتخلّص من الواجب الدینی والقومی فی المساهمة فی تحریر الأراضی المقدسة فی فلسطین؛ کما جرى استخدام هذا الشعار "الوطن أولاً" فی مواجهة دول عربیة أخرى، ولیس طبعاً فی مواجهة إسرائیل وأطماعها فی الأرض والثروات العربیة!
الحکومات العربیة أجمعت مؤخراً على مقولة: "السلام مقابل الأرض"، فلم یتحقق السلام ولم تتحرر الأرض! لکن انتصار المقاومة اللبنانیة فی إجلاء الاحتلال الإسرائیلی عن لبنان فی أیّار/ مایو العام 2000، أوجد خیاراً من نوع آخر فی الصراع مع إسرائیل وحرّک نبض الشارع العربی عموماً، والفلسطینیین فی الأراضی المحتلة خصوصاً.
فأصل مقولة "الأرض مقابل السلام" یعود إلى دیفید بن غوریون "أول رئیس وزراء إسرائیلی عام 1948"، وهی مقولة لم تحدّد حجم مساحة الأرض التی ترغب إسرائیل فی "التنازل" عنها، بینما لا حدود ولا آفاق لحجم مضامین "السلام" وأثمانه المطلوبة إسرائیلیاً.
أمّا المقاومة اللبنانیة فإنها کانت- ولا تزال- واضحةً فی حجم وحدود الأرض اللبنانیة المطلوب الانسحاب منها "بما فی ذلک مزارع شبعا"، وأنّ تحریر هذه الأرض لا یفرض ثمناً إلا کفاحاً شجاعاً من أجل التحریر.
فانتصار المقاومة اللبنانیة العام 2000 هو انتصار لمقولة "الأرض مقابل المقاومة"، وفی هذا الانتصار حیویة لنهج جدید فی المنطقة، هی حیویة الرفض للذلّ والاستهتار والاحتلال، حیویة المقاومة والانتفاضة لاستعادة الأرض والکرامة، حیویة تضع خطاً فاصلاً بین الیأس من واقع المفاوضات، وبین الیأس من إمکان تصحیح هذا الواقع، بحیث یستطیع الشارع العربی أن یمیّز بدقّةٍ الآن بین ما هو میؤوسٌ منه وما هو مطموحٌ إلیه، عن طریق رفض الاستسلام للأمر الواقع.
هذه هی "الواقعیة الجدیدة" التی أفرزتها تجربة المقاومة اللبنانیة، التی تحتفل الآن بمرور عقدٍ من الزمن على انتصارها، ثمّ فی حفاظها على هذا الانتصار رغم صعوبة الظروف المحلیة والإقلیمیة والدولیة، طیلة السنوات العشر الماضیة؛ "واقعیة" ترى مصدر العجز وسبب المشکلة فی الواقع المرفوض، فتعمل على سدّ العجز وتجاوز المشکلة، "واقعیة" ترفض التراوح المذِل فی المکان نفسه، فتتحرّک بإقدامٍ وصبر وعزیمةٍ وثقة بالله وبالأمّة وبالنفس، فتنتصر رغم حجم التحدیات.
صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن
ن/25


| رمز الموضوع: 141371







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)