إنقاذاً لإسرائیل المحاصَرة بحصارها!
إنقاذاً لإسرائیل المحاصَرة بحصارها!
بقلم جواد البشیتی
لماذا تَفْرِض إسرائیل "منذ أربع سنوات" وتشدِّد "منذ ثلاث سنوات" الحصار على قطاع غزة؟ فی الإجابة الإسرائیلیة عن هذا السؤال، وبادئ ذی بدء، لیس من وجود فعلی لهذا الحصار، فـ"الوضع الإنسانی العام" لسکَّان القطاع "جیِّد"، ولا یعانون نقصاً فی المواد الغذائیة والأدویة وسائر السلع الضروریة؛ وکل ما تقوم به إسرائیل، وتتَّخِذه من إجراءات وتدابیر، إنَّما یستهدف درء المخاطر عن أمنها من خلال منعها دخول أسلحة ومعدات قتالیة وذخیرة و"أشیاء أخرى" یمکن أن تتحوَّل إلى وسائل وأدوات لـ"أعمال إرهابیة" ضدَّها، وضد مواطنیها الآمنین.
وهذا الوضع من "اللا حصار"، بحسب التصویر الإسرائیلی له للرأی العام العالمی، شرحته وأوضحته المنظمة الإسرائیلیة لحقوق الإنسان "جیشا" إذ قالت فی تقریر أصدرته إنَّ إسرائیل تسمح الآن بدخول 97 سلعة فقط إلى قطاع غزة مقابل أکثر من 4000 سلعة قبل إحکام الحصار سنة 2007، وبعبور رُبْع ما کان یَعْبُر من قبل من الشاحنات المحمَّلة بالبضائع؛ ومع ذلک، فهذا لیس بـ"الحصار"!
نأتی الآن للأسباب والحیثیات، أی لإجابة إسرائیل عن سؤال "لماذا الحصار؟". إنَّه من أجل سواد عیون "أبو مازن"؛ أوَلَمْ یَقُلْ یسرائیل کاتس، الذی یشغل الآن منصب وزیر المواصلات الإسرائیلی، ویتوفَّر بتکلیف من رئیس الوزراء الإسرائیلی بنیامین نتنیاهو على إعداد خطة شاملة لتنظیم عملیة "تخفیف وطأة" الحصار، إنَّ إسرائیل لم تفرض حصارها على قطاع غزة إلاَّ من أجل "مساعدة" رئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس "فی صراعه "على السلطة"" ضدَّ حرکة "حماس" بعد سیطرتها على القطاع؟!
أوَلَم تنشر صحیفة "هآرتس" الإسرائیلیة معلومات وأخبار مفادها أنَّ الرئیس الفلسطینی، وفی مباحثاته الأخیرة فی البیت الأبیض مع الرئیس أوباما، شدَّد على أهمیة وضرورة استمرار الحصار "الإسرائیلی" على قطاع غزة، وکأنَّه لم یأتِ إلى واشنطن إلاَّ لإنقاذ الحصار، أو لإنقاذ ما یمکن إنقاذه منه، أو لمحاصرة وإحباط الجهود والمساعی الدولیة المبذولة الآن لإنهاء "أو لتخفیف" هذا الحصار؟!
إنَّ "منطق" التصریحات والبیانات الرسمیة الإسرائیلیة فی شأن الحصار یناقِض نفسه بنفسه؛ وهذا "التناقض فی المنطق"، أو "التناقض المنطقی"، لا یمکن فهمه وتفسیره إلاَّ على أنَّه انعکاس للتناقض الذی تنطوی علیه "المصالح "الواقعیة"" الإسرائیلیة التی أسَّست للحصار وعزَّزته؛ فإسرائیل، وعندما تجد نفسها مضطَّرة "لسبب ترکی الآن وفی المقام الأوَّل" إلى تخفیف الحصار، إنقاذاً للمبدئی والجوهری منه، تُظْهِر الحصار وتصوِّره على أنَّه "مطلب" للرئیس عباس، وخدمةً تسدیها إلیه، وکأنَّها لا تستطیع أنْ تَرُدَّ له طلباً؛ وهی التی لم تُلبِّ له طلباً إنْ فی ما یخصُّ "عملیة السلام"، وإنْ فی ما یمکن أن یعود بالنفع والفائدة على الوضع العام للفلسطینیین، والسلطة الفلسطینیة، فی الضفة الغربیة!
أمَّا إذا اقتربت "الساعة"، وأحسَّت بوطأة وجدِّیة وخطورة الجهود والمساعی الدولیة لإنهاء الحصار، فإنَّها تنسى الرئیس عباس، وطلبه، وتشرع تتحدَّث عن "حاجاتها الأمنیة" التی یلبِّیها استمرار الحصار، مُظْهِرة کل محاولة لإنهائه على أنَّها عمل یعرِّضها، ومواطنیها، إلى مخاطر أمنیة حقیقیة وکبیرة.
لقد حاصرت إسرائیل قطاع غزة، وأمعنت فی حصاره "التلمودی"، أی الأسوأ من النازی والفاشی، حتى ولَّد هذا الحصار، وبقوَّة الضرورة، أسباب وعوامل وقوى إلغائه؛ ولیس "أسطول الحرِّیة "الترکی- الأممی""، والجریمة التی ارتکبها الجیش الإسرائیلی فی حق "المتضامنین"، إلاَّ بعضاً من أهم وأحدث عواقب استمرار الحصار، وبعضاً، فی الوقت نفسه، من أهم وأحدث الأسباب المؤدِّیة، أی التی یمکن ویجب أن تؤدِّی، إلى رفع وإنهاء هذا الحصار.
فالعجب، کل العجب، لا أنْ نرى؛ بل ألاَّ نرى، "المحاصَرین" یتحوَّلون إلى "محاصِرین"، و"المحاصِرین" یتحوَّلون إلى "محاصَرین"؛ وإنَّ إسرائیل هی الیوم "المحاصَرة" أکثر من الفلسطینیین بالحصار الذی ضربته على قطاع غزة؛ ولا خیار لدیها إلاَّ أنْ تخفِّف من وطأة حصارها للقطاع بما یخفِّف من وطأة حصار هذا الحصار لها! إنَّها، وعن اضطرار، ولیس فی الاضطِّرار فضیلة، على ما تحاول أن تصوَّر الأمر الآن، تتَّجِه إلى تخفیف وطأة هذا الحصار؛ لعلَّ "قلیله" یبقی على "کثیره"، والذی هو بـ"لغة الکیف"، الجوهری والأساسی والمبدئی منه.
وها هو کاتس "یکتشف" الآن أنَّ الحصار المعمول به حتى الآن کان "خطأً" ارتکبته إسرائیل، التی ینبغی لها، بدءاً من الآن، أن "تنفصل" عن قطاع غزة، وأن "تُقْنِع" مصر بأهمیة وضرورة أن تفتح معبر رفح فتحاً دائماً، وأنْ تشرع تَرْبُط القطاع بشبکة بناها التحتیة؛ فهذا الوزیر الإسرائیلی، الذی صوَّر الحصار الإسرائیلی على أنَّه خدمة تسدیها إسرائیل إلى "أبو مازن"، یرید الآن إغلاق جمیع المعابر البریة الإسرائیلیة مع القطاع، فإسرائیل بإبقائها هذه المعابر مفتوحة عاملة إنَّما "تغذِی العدو"؛ کما یرید السعی لدى مصر من أجل فتح بوَّابتها فی معبر رفح على نحو دائم، ومن أجل أن تُنْقَل جمیع البضائع إلى میناء بور سعید المصری من طریق البحر، ومن ثمَّ تُنْقَل إلى قطاع غزة عبر معبر رفح.
وبلیر، أیضاً، یحاوِل "بالتنسیق مع نتنیاهو وکاتس، وغیرهما" إنقاذ إسرائیل من عواقب حصارها "المعمول بها حتى الآن" لقطاع غزة، فلقد نفث فی روع نتنیاهو فکرة أنَّ "الأصل فی شریعة الحصار هو أنَّ الحلال یشمل کل ما لم یُحرَّم بنصٍّ صریح"؛ وعلى إسرائیل، بالتالی، أنْ تُعِدَّ قائمة بـ"السلع والمواد والأشیاء التی تُحرِّم دخولها إلى القطاع"، فإذا فَرَغَت من إعدادها تولَّى "بلیر" إدارة وتنظیم الحصار بما یوافِق "المبدأ" الکامن فی أساس هذه "القائمة"، وهو "تحلیل" دخول کل سلعة أو مادة غیر مشمولة نصَّاً بهذه القائمة من "المحرَّمات"!
نتنیاهو غیر مختص بأمرٍ من هذا القبیل؛ لکنَّه حدَّد "المبدأ" الذی وفقه تُوْضَع "القائمة"؛ وهذا المبدأ هو "منع دخول أسلحة ومعدات حربیة إلى قطاع غزة، والسماح بدخول المساعدة الإنسانیة والبضائع التی لا یمکن استخدامها لأغراض عسکریة".
وإنَّ أهم عبارة فی هذا "المبدأ" هی "البضائع التی لا یمکن استخدامها لأغراض عسکریة"، فـ "السکِّین" التی تحتاج إلیها المرأة فی المطبخ هی بضاعة یمکن استخدامها لأغراض قتالیة، کأن تستخدمها هی أو زوجها أو ابنها لطعن إسرائیلی أو قطع رأسه؛ و"الإسمنت"، و"المسلَّح" منه على وجه الخصوص، یمکن أن یستخدم لأغراض عسکریة؛ ولا بدَّ، بالتالی، للمفتِّش والمدقِّق والمراقب "بلیر" من أن یملک من الوسائل ما یسمح له بمعرفة "السکِّین المدنیة" من "السکِّین العسکریة"، و"الإسمنت المدنی" من "الإسمنت العسکری"، و"الحجر المستخدم فی البناء" من "الحجر الذی یمکن أن یستخدم لشجِّ رأس إسرائیلی"!
إنقاذ إسرائیل من عواقب حصارها التلمودی لقطاع غزة، من خلال إدارة وتنظیم حصار أقل حدَّة من الناحیة الإنسانیة، هو الآن مدار کثیر من الجهود والمساعی الدولیة؛ ولا بدَّ لنا، بالتالی، من أن نکون الآن فلسطینیین کالأتراک على الأقل، فحکومة أردوغان أکَّدت، غیر مرَّة، أنَّ "تطبیع" ترکیا لعلاقتها بإسرائیل یتوقَّف، أیضاً، على الرفع والإنهاء الفوری للحصار الذی تضربه على قطاع غزة.
وإنَّ على السلطة الفلسطینیة، وجامعة الدول العربیة، أن تحذوا حذو أنقرة، فتُعْلِنا أنْ لا انتقال من المفاوضات غیر المباشِرة إلى المفاوضات المباشِرة "إذا لم تنتقل الأولى إلى رحمته تعالى" قبل الرفع والإنهاء الفوری لهذا الحصار، فالذی ضاق ذرعاً بـ"عملیة سلام لا نهایة لها" علیه أن یضیق ذرعاً أیضاً بـ "عملیة حصار لا نهایة لها"!.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS