qodsna.ir qodsna.ir

إسرائیل إذ تحاصر نفسها وحلفاءها!

إسرائیل إذ تحاصر نفسها وحلفاءها!

صالح النعامی

 

لیس من المستهجن أن یستحیل التبجح الإسرائیلی الذی أعقب المجزرة التی ارتکبها جیش الاحتلال فی عرض المیاه الدولیة ضد نشطاء السلام الذین کانوا على متن أسطول "الحریة" إلى حالة من الحرج الشدید عبر عنها طغیان مظاهر الشعور بالعجز والارتباک الذی أصاب دوائر صنع القرار فی تل أبیب، وجعل کبار المسؤولین الإسرائیلیین یشرعون فی حرب تصفیة حسابات داخلیة مبکرة ویتبادلون الاتهامات حول المسؤولیة عن الواقع البائس الذی علقت فیه إسرائیل بعد أن أغراها استلابها لخیار القوة بارتکاب هذه الحماقة.

إن الوقائع المتبلورة فی أعقاب العدوان الإسرائیلی على"أسطول الحریة" تشی بحدوث تغییر واضح وحاد فی البیئة الإستراتیجیة الإسرائیلیة بشکل غیر مسبوق، لدرجة أن التوصیف الذی أطلقه بعض المعلقین الإسرائیلیین على الورطة الإسرائیلیة التی أعقبت العدوان بأنها أخطر أزمة مرت بها إسرائیل منذ الإعلان عنها عام 1948 یبدو منطقیاً.

انهیار المکانة الدولیة

مثلت ردود الفعل الدولیة الغاضبة على الجریمة الإسرائیلیة مؤشراً آخر على تدهور مکانة إسرائیل الدولیة، فالمظاهرات التی عمت عواصم العالم ومحاولة اقتحام السفارات والممثلیات الإسرائیلیة، تدلل على أن إسرائیل تتجه لتبوّؤ مکانة الدولة المارقة، وهو التوصیف الذی طالما خلعته تل أبیب على الدول الأخرى. وإثر الشهادات التی أدلى بها المئات من نشطاء السلام الذین کانوا على متن السفن بعد الإفراج عنهم من السجون الإسرائیلیة انهارت مرتکزات الروایة الإسرائیلیة لما جرى، مما سیزید أمور تل أبیب تعقیداً، بشکل لا یمکن تصوره.

وقد حملت ردات الفعل الدولیة جدیداً ذا دلالة، فقرار الیونان إلغاء المناورات العسکریة مع إسرائیل، وقرار السوید إلغاء مباراة کرة القدم بین منتخبها والمنتخب الإسرائیلی، والدعوات التی تجتاح أوروبا لمقاطعة البضائع الإسرائیلیة، ومطالبة نقابات أساتذة الجامعات ومجالس الطلاب فی عدد من الدول الأوروبیة بعدم التعامل مع الأکادیمیین الإسرائیلیین، کل هذه المظاهر تشکل رافعة للضغط على صناع القرار فی أوروبا لاتخاذ مواقف أکثر حدة ضد إسرائیل، وإن بات القادة الإسرائیلیون یشعرون بتحولات فی المواقف الأوروبیة حتى قبل حدوث الجریمة الإسرائیلیة. فالبرود الذی قوبل به وزیر الصناعة والتجارة الإسرائیلی بنیامین بن إلیعازر عند زیارته الأخیرة لمقر الإتحاد الأوروبی فی بروکسل دفعه للتحذیر من "کارثة" على مستوى العلاقات مع أوروبا.

وفی نفس الوقت فإن الدوائر الاقتصادیة الإسرائیلیة تتوقع بأن تلجأ المزید من الشرکات العالمیة إلى سحب استثماراتها فی إسرائیل، لدرجة أن النائبة الإسرائیلیة شیلی یحیموفیتش لم تستبعد أن یتم فرض حظر على التعامل التجاری مع إسرائیل کما کانت علیه الحال مع نظام الفصل العنصری فی جنوب أفریقیا.

عبء على الأصدقاء

لقد سبب السلوک الإسرائیلی حرجا بالغا لحلفاء وأصدقاء إسرائیل فی کل من أوروبا والولایات المتحدة، لدرجة أن التقاریر التی ترسلها سفارات وممثلیات إسرائیل فی الدول الأوروبیة الأکثر صداقة لإسرائیل، مثل ألمانیا وهولندا وإیطالیا، باتت تصیب موظفی وزارة الخارجیة الإسرائیلیة بالفزع، کما نسب التلفزیون الإسرائیلی ذلک إلى أحد کبار موظفی الوزارة. وهناک إحساس یتعاظم لدى دوائر صنع القرار فی أوروبا بأن العلاقات مع إسرائیل باتت تمثل عبئا کبیراً على مصالحها فی العالم.

وعلى الرغم من التغییر الحاد فی تعاطی إدارة أوباما مع حکومة نتنیاهو، والذی تمثل فی تبنی واشنطن المطلق للمواقف الإسرائیلیة من شروط التسویة مع السلطة الفلسطینیة، وعلى الرغم من الموقف الأمریکی المتواطئ مع إسرائیل الذی أعلن عنه فی أعقاب الهجوم على "الأسطول"، إلا أن إدارة أوباما تدرک أن ما أقدمت علیه إسرائیل مس بمصالح واشنطن الاستراتیجیة.

لقد مارس الرئیس أوباما ضغوطاً هائلة على النظام العربی الرسمی من أجل السماح للسلطة الفلسطینیة بالموافقة على الشروع فی المفاوضات مع إسرائیل رغم رفضها الالتزام بوقف الاستیطان، على اعتبار أن هذه المفاوضات تسمح بتبلور بیئة إقلیمیة ودولیة تسمح باتخاذ إجراءات أکثر شدة ضد إیران بسبب برنامجها النووی؛ لکن بات فی حکم أن هذه المفاوضات قد فقدت مصداقیتها فی نظر الرأی العام الفلسطینی والعربی حتى لو خضعت سلطة رام الله مجدداً لضغوط أوباما. وإذا أضفنا إلى ذلک توصیة الحکومة الکویتیة بالانسحاب من مبادرة السلام العربیة، مع العلم أن التطورات یمکن أن تدفع المزید من الدول العربیة للانسحاب من المبادرة؛ فإن هذه الخطوات تشکل صفعة أخرى للسیاسة الأمریکیة فی المنطقة، وتقلص هامش المناورة بشکل کبیر أمام أوباما وإدارته.

من هنا لم یکن من المستغرب أن یبلغ مئیر دجان رئیس جهاز الموساد أعضاء لجنة الخارجیة والأمن التابعة للکنیست بعد یوم من العدوان أن هناک إحساس متعاظم لدى صناع القرار فی واشنطن بأن إسرائیل باتت تمثل عبئا على کاهل الولایات المتحدة وأن الانطباع بأن إسرائیل تسهم فی تحقیق المصالح الإستراتیجیة الأمریکیة لم یعد مسلما به فی أوساط کثیرة فی الإدارة والجیش الأمریکی.

من الخصومة إلى العداء!

یتمثل أحد مظاهر تغییر البیئة الإستراتیجیة الإسرائیلیة فی أعقاب العدوان على أسطول الحریة بإمکانیة فقدان إسرائیل علاقاتها الإستراتیجیة مع ترکیا. وعلینا أن نذکر هنا أنه على الرغم من التوتر الذی أصاب العلاقات بین الجانبین إلا أن طابع العلاقات الإستراتیجیة لم یمس، حیث إن الجانبین ملتزمان بالاتفاقیة الأمنیة، علاوة على أن هناک جوانب سریة کثیرة فی العلاقات بین الجانبین لا توجد لحکومة أردوغان قدرة کبیرة على التأثیر فیها، سیما فی مجال التعاون الاستخباری والأمنی، حیث تؤکد الکثیر من التسریبات الإسرائیلیة أن الأجهزة الاستخباریة الإسرائیلیة استفادت کثیراً من طابع العلاقات مع أنقرة فی تسهیل اختراقها للعالم العربی.

من هنا فلیس من المستغرب أن یقول إیتان هابر، الذی شغل فی الماضی منصب مدیر مکتب رئیس الوزراء الإسرائیلی الأسبق إسحاق رابین، إن العلاقات مع ترکیا تمثل نقطة ارتکاز هامة لضمان مصالح إسرائیل الإستراتیجیة. لکن الواقع الذی طرأ فی أعقاب الأحداث الأخیرة دفع بالعلاقات بین الجانبین إلى مربع جدید من التدهور، لم یتوقع أحد أن یتم الوصول إلیه.

وعلى الرغم من أن إسرائیل تنظر بخطورة إلى قرار ترکیا سحب سفیرها من تل أبیب وإلغاء مناورات عسکریة مشترکة معها، إلا أن صناع القرار فی تل أبیب یدرکون أن الأسوأ فی ملف العلاقات مع أنقرة ما زال أمامهم. صحیح أن الخطاب شدید اللهجة الذی ألقاه رئیس الوزراء الترکی رجب طیب أردوغان أمام البرلمان الترکی لم یتضمن الإعلان عن قرارات جدیدة ضد إسرائیل، إلا أن ما یقلق الإسرائیلیین بشکل أکبر هو أن الأحداث الأخیرة أوجدت بیئة ترکیة داخلیة تمکن حکومة حزب العدالة والتنمیة من إتخاذ إجراءات غیر مسبوقة ضد إسرائیل بعکس إرادة العسکر وبعض القوى العلمانیة.

ولا یساور الإسرائیلیین شک فی أن ما حدث سیدفع ترکیا لتوثیق علاقاتها مع کل من إیران وسوریا، وسیقنع أردوغان بمواصلة القیام بدور "المدعی العام" ضد إسرائیل فی المحافل الدولیة، سیما فی کل ما یتعلق بملف حقوق الإنسان، وتحدیداً انتقاد الحصار على قطاع غزة، ومطالبته المجتمع الدولی بمعاملة إسرائیل بنفس الدرجة التی تتم بها معاملة إیران فی کل ما یتعلق بالبرنامج النووی.

وتتوقع إسرائیل خسارة اقتصادیة هائلة جراء تدهور العلاقات مع ترکیا تتمثل فی إمکانیة اتخاذ الأتراک قراراً بإلغاء عقود شراء منتجات عسکریة إسرائیلیة تحرم الخزانة الإسرائیلیة من ملیاری ونصف الملیار دولار سنویاً، وهذا ما یشکل ضربة قویة للصناعات العسکریة الإسرائیلیة التی یمثل إنتاجها مصدراً هاماً من مصادر الدخل القومی الإسرائیلی.

نبوءة نتنیاهو!!

ولا یساور العدید من صناع القرار فی تل أبیب شک فی أن العملیة الإسرائیلیة فتحت الباب أمام إمکانیة قطع العلاقات بین الجانبین بشکل تام، مع کل ما تنطوی علیه هذه الخطوة من تداعیات سلبیة خطیرة على البیئة الإستراتیجیة الإسرائیلیة. وأکثر ما یزعج إسرائیل على وجه الخصوص هو حقیقة أن ما حدث یعزز مکانة حزب العدالة والتنمیة بعدما أن تنبأت استطلاعات الرأی العام فی ترکیا مؤخراً بتراجعه؛ حیث یدرک الإسرائیلیون أن ترکیا مقبلة على استفتاء حاسم حول التعدیلات الدستوریة، قد تفضی إلى انتخابات مبکرة.

وتکفی هنا الإشارة إلى اتفاق لوائی الأبحاث فی کل من الاستخبارات العسکریة والموساد على أن استمرار حکم حزب العدالة بات یمثل أحد مصادر الخطر الإستراتیجی على إسرائیل. ولعله من المناسب هنا أن نشیر إلى ما رواه بن کاسبیت، کبیر المعلقین فی صحیفة "معاریف" الإسرائیلیة، الذی قال إن رئیس الوزراء الإسرائیلی بنیامین نتنیاهو قال فی حدیث لبعض مقربیه بعید فشله فی انتخابات العام 1999 إنه فی حال تحولت ترکیا إلى دولة عدو فإنه لا أمل لإسرائیل فی البقاء فی هذه المنطقة، ویبدو أن العملیة العسکریة الإسرائیلیة ضد أسطول الحریة تقرب الطرفین إلى هذه النقطة.

فقدان شرعیة استخدام القوة ضد المقاومة

إن أکثر ما یزعج صناع القرار فی إسرائیل بشکل خاص هو حقیقة أن ردة الفعل الدولیة الغاضبة والاحتجاجات التی عمت العالم ضد استخدام إسرائیل القوة ضد نشطاء السلام الدولیین؛ سیؤدی بالتدریج إلى نزع الشرعیة عن حق إسرائیل فی استخدام القوة ضد المقاومة الفلسطینیة؛ وهذا ینطوی على خطورة کبیرة فی نظر إسرائیل. ویدرکون فی تل أبیب أن العالم سیکون أکثر حساسیة إزاء استخدام إسرائیل القوة فی الرد على عملیات المقاومة الفلسطینیة، وستکون أی عملیة عسکریة إسرائیلیة ضد المقاومة الفلسطینیة فی المستقبل مقترنة بدفع ثمن سیاسی کبیر جداً.

فی نفس الوقت فإن هذا التطور ینذر بتولید مصادر خطر جدیدة على الأمن الإسرائیلی؛ فقد لا تظل وسائل التعبیر عن الغضب من السلوک العدوانی الإسرائیلی محصورة فی المظاهرات وتنظیم الحرکات الاحتجاجیة، ولیس من المستبعد أن یتحرک العرب والمسلمون، سواء على شکل مجموعات منظمة أو بشکل فردی، لضرب المصالح الإسرائیلیة رداً على الجنون الإسرائیلی.

بدایة نهایة الحصار

لقد هدفت إسرائیل من خلال استخدام القوة المفرطة وفی قلب المیاه الدولیة ضد نشطاء السلام والمتضامنین مع غزة إلى وضع حد لحملات التضامن مع غزة ولردع المنظمات الإنسانیة عن تنظیم المزید من هذه الحملات، بهدف إبقاء الحصار على قطاع غزة؛ لکن العکس تماماً تحقق؛ فمزید من المنظمات الإنسانیة أعلنت أنها بصدد تنظیم المزید من رحلات التضامن مع غزة؛ وحتى بعض النشطاء الذین ألقت إسرائیل القبض علیهم أعلنوا أنهم سیعودون ثانیة للتضامن مع غزة حتى یتم رفع الحصار عن القطاع مرة وللأبد.

فی نفس الوقت تعاظمت الدعوات والتحرکات فی الکثیر من الدول العربیة التی لم تبدی فی الماضی حماساً کبیراً فی التفاعل مع مأساة غزة بالشروع فی تنظیم حملات تضامن جدیدة، وهذا بحد ذاته شکل مظهرا آخر من مظاهر عودة الحاضنة العربیة للقضیة الفلسطینیة حتى بمعزل عن إرادة الأنظمة الحاکمة. ولقد جاء القرار المصری بإعادة فتح معبر رفح بتأثیر الحرج الهائل الذی أصاب النظام المصری الذی شعر بأنه فی ورطة لا تقل خطورة عن الورطة التی علقت فیها إسرائیل، حیث إنه أکثر قسوة فی فرض الحصار على الفلسطینیین. وعلى الرغم من أن کل الدلائل تشیر إلى أن الخطوة المصریة لا تعدو کونها خطوة تکتیکیة تهدف إلى امتصاص غضب الشارع المصری واحتواء التساؤلات والانتقادات التی توجه للنظام، إلا أنها تدلل على تضاؤل ما تبقى للنظام من مساحة فی تسویغه لمشارکة إسرائیل فی محاصرة غزة.

مما شک فیه أن الحماقة التی ارتکبتها إسرائیل قد أوجدت واقعا تکون فیه إسرائیل وحلفاؤها والمتواطئون معها فی فی حصار، وغزة فی طریقها للتحرر منه.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 141385