غزة.. أیهما أولى رفع الحصار أم المصالحة؟
بقلم صالح النعامی
منذ الهجوم الإسرائیلی الغادِر على أسطول الحریة وما تبعه من حالة تضامن غیر مسبوقة مع غزة، دأب مسئولو سلطة رام الله وقادة حرکة "فتح" على التحذیر من مغبة الترکیز على رفع الحصار عن قطاع غزة وترک الاستثمار فی الجهود الهادفة لإنهاء حالة الانقسام الداخلی وتحقیق المصالحة الوطنیة، للأسف الشدید إن الذی دفع هؤلاء لإطلاق هذا التحذیر لیس الحرص على المصالحة وتحقیقها، بل خوفهم من أن تؤدی أنشطة التضامن الدولی مع غزة إلى فکّ الحصار دون أن تستجیب حرکة حماس للإملاءات التی تحاول سلطة رام الله والأطراف العربیة المتحالفة معها ومن خلفها إسرائیل والولایات المتحدة فرْضَها علیها.
فقد بات واضحًا وجلیًّا أن فلسفة الحصار تقوم على محاولة الدفع نحو انهیار حکم حرکة حماس، إما بواسطة إقرارها بالعجز عن تقدیم الخدمات الأساسیة للمواطنین، أو عبر دفع الغزیین للتمَرُّد على حکم حماس وإظهار الحرکة وکأنها تفتقد العمق الجماهیری؛ من هنا شعرت قیادة "فتح" وحکومة رام الله بکثیر من الضیق عندما بدَتْ مظاهر انهیار الحصار کما عبَّرت عنه التداعیات التی أعقبت أحداث أسطول الحریة، ولقد بدا من خلال الدعوات الجدیدة التی اتَّسَم بها خطاب "فتح" وحکومة فیاض، وکأن هناک تناقضًا بین رفع الحصار وتحقیق المصالحة الوطنیة، ومن الواضح أن هذا الخطاب یفتقد للمصداقیة والجدیَّة؛ فمن الطرف الذی أحبط الجهود الهادفة لتحقیق المصالح؟
فمن أسف فإن الشروط التی وضعتْها حرکة فتح مدعومةً بالقوى العربیة الإقلیمیة لا تهدف لتحقیق المصالحة، بل تهدف بشکل أساسی إلى جَرِّ حرکة حماس وحرکات المقاومة للمربع الذی ترسمه إسرائیل، فما العلاقة بین تحقیق المصالحة ومطالبة حرکة حماس بقبول شروط اللجنة الرباعیة التی تتضمن الاعتراف بإسرائیل ونبذ المقاومة بوصفها إرهابًا والالتزام بالاتفاقیات الموقَّعة بین إسرائیل والسلطة الفلسطینیة؟ وإن کانت "فتح" تُبدی کل هذا الحرص على المصالحة فلماذا تصِرُّ على أن تقبل حرکة حماس ورقة المصالحة المصریة بدون أی تعدیل، وبدون النظر فی ملاحظات الحرکة علیها، وهی تدرک أن الانطباع السائد لیس لدى قیادة حرکة حماس فقط، بل لدى الجمیع، أن الورقة المصریة صمِّمت لخدمة موقف "فتح"، وهی تحمل بذور تفجر الأوضاع من جدید بین حرکتی فتح وحماس، لأنها تنطق من افتراض أن رئیس سلطة رام الله محمود عباس هو طرف مُحایِد ولیس طرفًا أساسیًّا فی حالة الانقسام.
وتخشى سلطة رام الله ومعها الأطراف العربیة الإقلیمیة وخلفها إسرائیل والإدارة الأمریکیة أن یؤدی رفع الحصار إلى حرمان هذه الأطراف مجتمعةً من القدرة على مواصلة ابتزاز الشعب الفلسطینی وإجباره على دفع ثمن خیاراته الدیمقراطیة التی عبَّرت عنها نتائج الانتخابات التشریعیة الأخیرة، على الرغم من الشکوک الکبیرة حول نوایا عباس الحقیقیة إلا أنه بإمکانه أن یزیل الانطباع المتبلوِر حول حقیقة موقِفِه من المصالحة ویدلِّل على أنه جاد فی تحقیقها من خلال الإثبات بأنه یعمل ضد الحصار المفروض على شعبه الذی یفترض أنه یمثلُه.
فهل یعقل أن یتباکى عباس على المصالحة وهو الذی یمنع تحویل الأموال لشرکة توزیع الکهرباء فی غزة لسدّ فاتورة الوقود المستخدَم فی تشغیل محطة تولید الکهرباء الوحیدة فی القطاع، الأمر الذی أدى إلى أزمة کهرباء خانِقَة لم یسبقْ لها مثیل، مع العلم بأنه فی کل ما یتعلق بأزمة الکهرباء لم یعد بالإمکان اتهام إسرائیل بالتسبب فی الأزمة بعد أن اتضحت أبعاد القضیة، حیث أن الاتحاد الأوروبی یمنح السلطة مخصصات مالیة لتغطیة نفقات شراء الوقود المستخدم فی تولید الکهرباء، وهی ترفض تحویلَها لشراء الوقود المطلوب، وهل یُعقل أن یتحرک عباس لدى الإدارة الأمریکیة لحثِّها على عدم المساهمة فی رفع الحصار على القطاع بشکل کامل؟
بالطبع لم یعدْ للمرء أن یتعامل بجدیة کبیرة مع نفی عباس وسلطته لما تورِدُه وسائل الإعلام الأمریکیة والعربیة والإسرائیلیة، فقد سبق له أن قطع أغلظ الأیمان بأنه لم یأمرْ بتأجیل بحث تقریر "جولدستون" الذی أدان إسرائیل بارتکاب جرائم حرب ضد الإنسانیة فی مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتبیَّن فیما بعد أنه هو شخصیًّا المسئول عن سحب التقریر کما أکدت ذلک لجنة التحقیق التی شکَّلها عباس نفسه.
إن عباس بإمکانه أن یدلِّل على حرصه على المصالحة وعلى مصالح شعبه عبر العمل الجاد والحقیقی لرفع الحصار، فعباس یخطِئ مرة أخرى عندما یعتقد أن التضییق على الناس فی غزة سیؤدی حتمًا إلى المسّ بمکانة حماس، حیث تبین أن المتضرِّر الأساسی من ناحیة سیاسیة هو عباس وسلطته وحرکة "فتح" حیث یتآکل رصیدُه السیاسی والشعبی بشکل واضح وجلی.
لو تجاوزنا الناحیة المبدئیَّة والاعتبارات الوطنیة والأخلاقیة ورکَّزْنا على الجوانب السیاسیة، فإنه یمکن القول بأن عباس بإمکانه أن یسجل نقاطًا عدیدة فی ملعب حماس لو أقدم على خطوة عملیَّة حقیقیة من أجل رفع الحصار، کأن یعلن عن إطلاق سراح المعتقلین السیاسیین من سجون الضفة الغربیة، وأن یوقف التنسیق الأمنی مع إسرائیل، أو یعلن بشکل لا یقبل التأویل أنه ما دام الحصار مفروضًا فإنه لن یتم استئناف المفاوضات مع إسرائیل.
هذه خطواتٌ بإمکان عباس أن یقوم بها وببساطة، ومن شأنها أن تعزِّز مکانته وتدلِّل على صدقیة خطابِه ونوایاه تجاه شعبه ولیس تجاه حماس فقط.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS