qodsna.ir qodsna.ir

استئناف المفاوضات.. مبروک

 

عبد الباری عطوان

 

قبل اسبوع، وبعد نشر صحیفة 'الواشنطن تایمز' الامریکیة تقریرا عن تدهور خطیر فی صحة الرئیس المصری حسنی مبارک، خرجت علینا بعض الصحف المصریة بمقالات تقول ان هذه التقاریر 'الکاذبة' هی جزء من حملة ضد الحکومة المصریة بسبب رفضها مطالب امریکیة ـ اسرائیلیة بدعم المفاوضات المباشرة.

وفی الفترة نفسها عقدت کل من اللجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر الفلسطینیة واللجنة المرکزیة لحرکة 'فتح' اجتماعین منفصلین برئاسة الرئیس الفلسطینی محمود عباس اکدتا فیه رفضهما الانتقال الى المفاوضات المباشرة لفشل المفاوضات غیر المباشرة اولا، وعدم موافقة حکومة نتنیاهو على تحدید مرجعیة وحدود الدولة الفلسطینیة وجدول زمنی للمفاوضات ثانیا.

مساء امس الاول قررت لجنة متابعة مبادرة السلام العربیة اثناء اجتماع لها بمقر الجامعة فی القاهرة استئناف المفاوضات المباشرة، وترکت تحدید موعد الانطلاق للرئیس عباس وسلطته فی مدینة رام الله، ولم یرتبط هذا القرار بأی کلمة عن المرجعیة او الحدود او تجمید الاستیطان، او احراز تقدم فی المفاوضات غیر المباشرة، جمیع هذه الشروط 'جرى لحسها' بشکل مهین، حتى ان السید عمرو موسى امین عام الجامعة لم یکن 'مفوها' کعادته فی 'نحت' مخارج جدیدة لانقاذ ماء وجه النظام الرسمی العربی بعد هذا التراجع الذی تنبأنا به فی مقالة سابقة.

السؤال الذی یطرح نفسه بجدیة، هو عما حدث من تطورات عربیة او امریکیة ادت الى حدوث هذا 'الانقلاب' فی الموقف العربی الرسمی تجاه هذه المسألة؟

الطرف الفلسطینی یقول ان ضغوطا امریکیة هائلة مورست علیه للعودة الى المفاوضات، من بینها التلویح بعزل السلطة ورئیسها، ووقف المساعدات المالیة، والتخلی عن رعایة العملیة السلمیة. اما الطرف العربی فیتحدث عن 'مصالح' اقلیمیة استراتیجیة ملمحا الى رغبة بمساعدة الولایات المتحدة فی حربها المعلنة لحصار ایران ای ان الانظمة الرسمیة العربیة المعتدلة باتت توظف الورقة الفلسطینیة لیس للضغط على امریکا واسرائیل، وانما للضغط على ایران، وتحقیق 'مصالح' من بینها بقاؤها ای الانظمة، والحفاظ على امنها من خلال هذه الورقة.

الادارة الامریکیة تواجه الهزائم فی افغانستان، والنکسات لمشروعها فی العراق، بینما بدأت القارة الاوروبیة تعید النظر فی علاقاتها الخاصة معها، وتبحث عن علاقات جدیدة مع القوى العظمى الناشئة مثل الهند والبرازیل والصین، الا فی المنطقة العربیة، حیث تستطیع ان تملی ارادتها على حلفائها العرب بکل سهولة ویسر.

****

المعادلة القدیمة ما زالت على حالها، اسرائیل تطلب، امریکا تتبنى، والانظمة العربیة تنفذ باذعان مخجل ودون ای مناقشة لهذه الطلبات الامریکیة ـ الاسرائیلیة.

منذ ان اجتمع بنیامین نتنیاهو رئیس الوزراء الاسرائیلی مع الرئیس باراک اوباما فی البیت الابیض مطلع هذا الشهر، وتبنى الاخیر مطلب الاول فی ضرورة العودة الى المفاوضات المباشرة، کان واضحا ان بدءها اصبح مسألة وقت، وان کل 'الجعجعة' الفلسطینیة والعربیة حول عدم 'نضوج الظروف' للاقدام على هذه النقلة غیر متوفرة بعد 'مجرد طحن' للماء، وتضلیل متعمد، واعادة تکرار لمسرحیة سابقة مملة نعرف بدایاتها ونهایاتها عن ظهر قلب.

تعالوا نسأل: ماذا لو قال الفلسطینیون 'لا' للطلب الامریکی باستئناف المفاوضات المباشرة، والضغوط الامریکیة المرافقة له؟ وماذا لو قال العرب الشیء نفسه ای 'لا' کبیرة؟

ربما یجادل بعض المعتدلین فی السلطة بان الطرف الفلسطینی ضعیف، وکذلک هی حال الموقف العربی، وای معارضة للولایات المتحدة وادارتها قد تعنی توجیه اللوم الى الفلسطینیین وتحمیلهم مسؤولیة انهیار العملیة السلمیة، وخسارة دعم الادارة الامریکیة لحل الدولتین، وفوق کل هذا وذاک عزل السلطة ووقف المساعدات المالیة لها.

هذا الطرح هو طرح العاجز فاقد الارادة والکرامة، الذی یختار اسهل الحلول، ولا یرید ان یقاوم الاحتلال ویخسر امتیازاته المالیة والشخصیة، والمناصب الکاذبة. فانهیار السلطة الفلسطینیة او حلها قد یکون اکبر انجاز یحققه الفلسطینیون فی مسیرة مقاومتهم. فعلینا ان نتخیل وضع الضفة الغربیة فی حال عودة المقاومة والعملیات الاستشهادیة الیها، او القنابل الموقوتة على جوانب الطرقات المؤدیة الى المستوطنات او تلک التی یستخدمها الجیش الاسرائیلی مثلما هو حادث حالیاً فی العراق وافغانستان؟

السلطة الفلسطینیة حققت اکبر خدمة امنیة لاسرائیل منذ قیامها، فعلى مدى السنوات الخمس الماضیة لم تنطلق رصاصة واحدة من الضفة ضدها، وتحولت قوات الأمن الفلسطینیة الى حارس أمین للمستوطنات ومستوطنیها حتى فی ذروة توسیعها، وشاهدنا السجاد الأحمر یفرش لقائد جهاز 'الشین بیت' الاسرائیلی اثناء زیارته لمقرها فی جنین، یمازح قادتها ویتناول طعام الغداء معهم وکأنه بین أهله وعشیرته.

هذه الخدمات تقدم مجاناً ودون مقابل، بما فی ذلک التکرم بقبول مرجعیة للسلام أو حتى الاتفاق على حدود الدولة الفلسطینیة العتیدة. فقط العودة الى المفاوضات المباشرة دون شروط، والعودة الى لعبة تضییع الوقت التی استمرت منذ توقیع اتفاقات اوسلو قبل سبعة عشر عاماً.

****

نتنیاهو سیخرج الکاسب الأکبر کالعادة من هذه المفاوضات، فائتلافه سیصبح أکثر قوة وصلابة، وعزلة بلاده الدولیة ستنکسر، وسیظهر بمظهر الحمل الودیع المحب للسلام، بعد ان کان ومازال فی نظر العالم یرأس دولة ترتکب جرائم الحرب، وتستخدم الفوسفور الأبیض، وتحول قطاع غزة الى معسکر اعتقال نازی هو الأکبر فی التاریخ.

أصبحنا کعرب 'أضحوکة' فی نظر جمیع شعوب الأرض، فجمیع الامم الاخرى 'تقاوم' من اجل کرامتها وقضایاها الوطنیة الا نحن، نستمرئ الهوان والاذلال بل ونستمتع به، خاصة اذا جاء من امریکا واسرائیل.

فی الماضی القریب، کانت الأنظمة العربیة تضحی بمصالح شعوبها ورفاهیتها من أجل قضیة فلسطین التی تجسد اسمى معانی الکرامة العربیة، الآن باتت هذه الأنظمة تضحی بقضیة فلسطین لیس من أجل مصالح شعوبها، وانما من أجل مصالحها هی واستمرارها فی الحکم.

نفهم لو ان التضحیة بقضیة فلسطین تعود بالخیر على الشعوب العربیة، ولکن ما یحدث انه منذ ان تخلت الأنظمة العربیة عن قضیة فلسطین والفساد والقمع والدیکتاتوریة وانهیار الخدمات فیها فی ارتفاع متزاید، واحوال مصر هی المثال الأبرز فی هذا الخصوص.

وزیر خارجیة عربی سابق، أعتذر عن ذکر اسمه، أسر لی ان الرئیس حسنی مبارک قال له ذات یوم انه اذا أراد شیئاً من امریکا ذهب الى شارون، فتأتی الاستجابة الامریکیة سریعة جداً لمثل هذا الطلب. ای ان دولة بحجم مصر وتاریخها وحضارتها، اصبحت تتعامل مع امریکا من خلال البوابة الاسرائیلیة، هل هذا معقول، نعم کل شیء جائز فی هذا الزمن، ألم تخض الأنظمة العربیة کل حروب اسرائیل، عبر امریکا، فی کل من العراق وافغانستان وضد 'حزب الله' فی لبنان، و'حماس' فی فلسطین، وها هی تستعد الآن لخوض الحرب الجدیدة ضد ایران؟

لا شک ان نتنیاهو یضحک حالیاً بملء شدقیه على هذا الاذعان العربی الجدید لشروطه، بعد قرار ما یسمى بلجنة المتابعة العربیة للسلام. فقد خرج منتصراً من معرکة عض الاصابع مع العرب والادارة الامریکیة الحالیة، حیث نجح فی املاء شروطه جمیعاً دون ای نقصان، فهنیئاً له على هذا الانتصار، وهنیئاً للسلطة ورجالاتها على استمرار المساعدات المالیة وتجدید بطاقات الـ (V.I.P) لکبار رجالاتها. وهنیئاً للأنظمة الرسمیة العربیة على الرضاء الامریکی الذی حل علیها، والذی ربما یترجم قریباً على شکل جرها الى حرب أخرى فی المنطقة، تماماً مثل مساندتها لکل حروب امریکا السابقة فی العراق وافغانستان والحرب ضد الارهاب مجاناً ودون ای مقابل.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141406