جیش لبنان یحرج الانظمة العربیة
عبد الباری عطوان
من لبنان تأتی دائما المفاجآت السارة للامة العربیة، فهذا البلد الصغیر فی حجمه الکبیر فی انجازاته وانتصاراته لا یتورع مطلقا عن تقدیم سوابق فی الصمود والمقاومة والذود عن کرامته وارضه، وما حدث بالامس على الحدود اللبنانیة مع فلسطین المحتلة، من مواجهة عسکریة مسلحة هو الدلیل الدامغ فی هذا الصدد.
دوریة عسکریة اسرائیلیة اقدمت على عمل استفزازی باختراقها الحدود اللبنانیة لقلع اشجار بهدف ترکیب کامیرات مراقبة، فتصدى لها الجیش اللبنانی، الذی یوصف بانه اضعف الجیوش العربیة على الاطلاق، واوقع فی صفوفها قتلى وجرحى بینهم ضابط کبیر برتبة مقدم.
منذ ثلاثین عاما او اکثر لم نسمع ان جیشا عربیا تصدى لأی انتهاک اسرائیلی لارض عربیة، فقد تعودت الطائرات والدبابات الاسرائیلیة ان تقصف مواقع فی العمق العربی، او تجتاز الحدود، وتقتل وتدمر کیفما تشاء دون ان تطلق علیها طلقة واحدة.
***
الجیش اللبنانی غیر هذه المعادلة، واثبت انه، رغم فقر تسلیحه وتواضعه، لا یقبل ای انتهاک لسیادة بلده، او ای تعد على حرمة ترابه الوطنی وتصدى بشجاعة وبطولة لهذا العدوان المتغطرس.
والاهم من ذلک ان قیادة هذا الجیش لم تتردد مطلقا فی اصدار بیان یؤکد ان قواتها هی التی بادرت باطلاق النار، دفاعا عن النفس والکرامة الوطنیة، ای انها لم تحاول ان تتهرب من المسؤولیة، من خلال صیاغة غامضة لبیانها. وهذه لغة غیر مسبوقة، او بالاحرى منقرضة لم نسمع مثلها منذ حرب العاشر من اکتوبر رمضان عام 1973، ای مرحلة ما قبل 'سلام الشجعان'.
وکان من الطبیعی ان یعبر المتحدث الرسمی الاسرائیلی عن دهشته من مواجهة الجیش اللبنانی للدوریة الاسرائیلیة المذکورة، فقد تعود الاسرائیلیون على انتهاک الحدود والاجواء العربیة لیل نهار وهم مطمئنون على ان انتهاکاتهم هذه ستمر دون ای رد، حیث ینظر قادة الجیوش العربیة المزدحمة صدورهم بالاوسمة والنیاشین الى الناحیة الاخرى، وتحت شعارات التحلی بضبط النفس، وتفویت الفرصة على العدو لجرهم الى معرکة او حرب هم غیر مستعدین لها.
الجیش اللبنانی لم یهاجم اسرائیل، ولم یطلق الصواریخ على مستعمراتها، ولکنه مارس حقه المشروع فی کل القوانین الدولیة، فی الدفاع عن النفس، والتصدی لعدوان استهدف ارضه، وهذا من صمیم واجباته، واسباب وجوده. فما فائدة الجیوش اذن، وما فائدة اقتطاع الملایین او الملیارات من قوت الشعب لتأسیسها وتسلیحها اذا لا تقوم بمهامها فی الدفاع عن کرامة شعبها وامتها.
ومن المفارقة ان اسرائیل هرعت الى مجلس الامن الدولی طالبة عقد جلسة طارئة لبحث هذا الاعتداء اللبنانی، فی خطوة تعکس بجلاء حجم الوقاحة الاسرائیلیة فی ابشع صورها واشکالها، مثلما تعکس ایضا عملیة التغییر الکبرى فی المعادلات التی تحکم موازین القوى والفعل فی المنطقة، منذ تراجع مکانة الانظمة، وتقدم مکانة المقاومات الشعبیة، فی فلسطین ولبنان والعراق وافغانستان.
لقد انقلبت الآیة، فقد تعودنا ان تهرع الانظمة العربیة الى مجلس الامن الدولی شاکیة من الاعتداءات والانتهاکات الاسرائیلیة، لتجد 'الفیتو' الامریکی یقف لها بالمرصاد، ومشهرا فی وجهها دفاعا عن هذا العدوان، الآن وبفعل انتفاضة الکرامة اللبنانیة هذه اصبحت اسرائیل هی التی تشتکی، تشتکی من الجیش اللبنانی، مثلما اشتکت من قبلها من صواریخ القسام التی انطلقت من قطاع غزة لتضرب مستوطنة سیدروت مرة اخرى.
هل نحن فی حلم.. لا یمکن ان نصدق اعیننا، انها احدى علامات الساعة، او احدى ارهاصات التغییر الزاحف الى المنطقة، وعنوانه تراجع هیمنة الانظمة الفاسدة المستسلمة الدیکتاتوریة التی لا تستأسد الا على شعوبها.
جمیل ان یأتی هذا التصدی اللبنانی البطولی من قبل الجیش اللبنانی فی یوم احتفال المقاومة اللبنانیة (ایضا) بانتصارها على العدوان الاسرائیلی قبل اربع سنوات، وهو الانتصار الذی ألحق هزیمة غیر مسبوقة بالجیش الاسرائیلی، وفضح زیف اسطورته، وهز نظریة الامن الاسرائیلیة من جذورها، عندما هطلت الصواریخ مثل المطر على المدن والمستوطنات الاسرائیلیة (4000 صاروخ) للمرة الاولى منذ بدء الصراع العربی ـ الاسرائیلی.
***
التوقیت مهم ایضا، لان هذه المنازلة غیر المحسوبة، وغیر المتوقعة اسرائیلیا، بل وعربیا، جاءت فی وقت یتعرض فیه لبنان وشعبه الى ارهاب المحکمة الدولیة وقرارها الذی سیصدر بعد اسابیع معدودة بشأن توجیه اصبع الاتهام الى حزب الله اللبنانی بتهمة التورط فی اغتیال رئیس الوزراء اللبنانی الراحل رفیق الحریری.
الرسالة جاءت واضحة، ومن الجیش اللبنانی، الذی یمثل الوحدة الوطنیة اللبنانیة فی انصع صورها، تقول کلماتها بان هذه المحکمة 'المسیسة' لن ترهبه، ولن تؤدی الى تقسیمه على اسس طائفیة او مذهبیة، بل ربما توحده خلف هدف واحد وهو مواجهة العدو الحقیقی للبنان والامة العربیة ای اسرائیل.
الجیش اللبنانی یؤسس حالیا لمعادلة جدیدة فی لبنان وهی وقوف الجیش والشعب والمقاومة على ارضیة وطنیة واحدة مشترکة فی مواجهة العدوان، وهی معادلة تعمدت بالدم فعلا لا قولا، وترتکز على ارقى مشاعر الایمان بالکرامة والسیادة الوطنیتین فی بلد یحاول الکثیرون داخله وخارجه ان یشککوا بوطنیته وسیادته.
الانتصارات العربیة تأتی دائما من لبنان، والمقاومات العربیة تنبثق دائما من ارضه، وتجد الحاضن الحنون لها فی اوساط شعبه، الذی لم یبخل مطلقا فی تقدیم التضحیات والشهداء من اجل قضایا امته.
اسرائیل ستعد للملیون قبل ان تفکر بغزو لبنان مرة اخرى، لانها لن تجد المقاومة فقط تتصدى لها، وانما الجیش اللبنانی الذی یضم کل الطوائف والمذاهب والاعراق فی صفوفه، وهذا تطور جدید.
القادة العسکریون اللبنانیون یفاجئون الجمیع بهبتهم الوطنیة المشرفة هذه لانهم ینتمون الى مجتمع حی، ودولة دیمقراطیة، وحکومة منتخبة مؤتلفة، على عکس معظم زملائهم الآخرین فی الجیوش العربیة التی باتت مهمتها الاساسیة الدفاع عن انظمة دکتاتوریة قمعیة فاسدة، ولیس الدفاع عن الاوطان.
الجیش اللبنانی یحرج جمیع جیوشنا العربیة الاخرى، خاصة تلک المتخمة بالاسلحة الحدیثة والامتیازات، التی فشلت دائما فی القیام بواجباتها، وتکرشت بطون قیاداتها، وباتت للاستعراضات العسکریة فقط، فهناک دائما الجیوش الامریکیة جاهزة للقیام بالمهمة نیابة عنها وتلبیة لاستغاثات حکامها.
للجیش اللبنانی نقول شکرا، ولشهدائه الابرار الذین ضحوا بأرواحهم دفاعا عن تراب وطنهم المقدس نقول رفعتم رؤوسنا عالیا، فی زمن توالت فیه الهزائم والانکسارات وسیاسات الاذعان العربیة الرسمیة. وللمقاومة اللبنانیة التی تحتفل الیوم بذکرى انتصارها الرابعة نقول مبروک علیکم انتصارکم الذی هو انتصار للامة جمیعا.
زمن ابقارنا العجاف یوشک على الانتهاء، وزمن ابقارنا السمان یطل برأسه بقوة، او هکذا نأمل ونعتقد ایضا، فأمة فیها هؤلاء الرجال لن تهزم ابدا.
ن/25