عُذْرٌ عربی أقبح من ذنب!

جواد البشیتی
"ضَعْفُنا" هو السبب.. إنَّه العُذْر العربی "والفلسطینی" الأقبح من الذَّنْب؛ فلو سألْتَ کل َّ عربی "أو فلسطینی" مُسْتَمْسِک بـ"خیار الحل للنزاع مع إسرائیل من طریق التفاوض السیاسی"، مع عَلْمِه عِلْم الیقین أنَّ أُفْق هذا التفاوض مسدود، عن سبب استمساکه، لأجابکَ على البدیهة قائلاً "ضَعْفُنا هو السبب"، وکفى الله المجیب شرَّ التعلیل والتفسیر، أی شرَّ فَهْم، أو محاولة فَهْم، هذا "السبب"، الذی یشبه "العِلَّة الأولى"، على أنَّه "نتیجة"، ینبغی له اکتشاف ومعرفة "سببها".
"الضعف"، ولجهة العلاقة المتبادلة بینه وبین صاحبه، أی الضعیف، لیس بواحدٍ أحد، جنساً أو نوعاً، فثمَّة ضعف "الضعیف السلبی"؛ وهذا الضعیف یَفْهَم ضعفه على أنَّه قضاء مقدَّر. وثمَّة ضعف "الضعیف الإیجابی"؛ وهذا الضعیف یجتهد دائماً فی تحویل ضعفه إلى قوَّة، فلیست "القوَّة" إلاَّ الضعف الذی عَرَف الضعیف کیف یتغلَّب علیه مُحْتَفِظاً به فی الوقت نفسه. وثمَّة جنس أو نوع ثالث هو ضعف ذاک الذی یتوفَّر على إضعاف نفسه بنفسه، وکأنَّ له مصلحة فی أن یبقى ضعیفاً، ویزداد ضعفاً.
وأحسب أنَّ العرب "المُحِبِّین" للسلام "مع إسرائیل" حُبَّاً عُذْریاً، أی لا "یُنْجِب" سلاماً، هم مزیج من الضعف الأوَّل والضعف الثالث. إنَّهم إذا لم یُصوِّروا ضعفهم على أنَّه قضاء وقدر، فلن یَعْدَموا وسیلة، ولن یدَّخروا جهداً، لإضعاف أنفسهم بأنفسهم، ولاتِّخاذ ضعفهم هذا، من ثمَّ، ذریعة لعدم فعل أی شیء یمکن أن یَحْمِل إسرائیل، أو یُکْرِهها، على التفاوض الجاد، توصُّلاً إلى سلام حقیقی.
عندما دَعَتْهُم إدارة الرئیس أوباما إلى أن یؤیِّدوا "عبر "لجنة مبادرة السلام العربیة"" اقتراحها إجراء مفاوضات غیر مباشرة بین الفلسطینیین وإسرائیل، استجابوا، وفوَّضوا إلى الرئیس الفلسطینی محمود عباس أمْر خوض هذه التجربة، مؤکِّدین، فی الوقت نفسه، عدم ثقتهم بجدوى التفاوض مع حکومة نتنیاهو.
وعندما دَعَتْهُم إلى تأیید الانتقال من تلک المفاوضات "التی لم تأتِ إلاَّ بما یقیم الدلیل على عدم جدوى التفاوض مع هذه الحکومة" إلى المفاوضات المباشِرة، استجابوا، وفوَّضوا إلى الرئیس عباس أمْر تقریر متى تبدأ هذه المفاوضات، معیدین تأکید عدم ثقتهم بجدوى التفاوض مع حکومة نتنیاهو، وکأنَّهم أرادوا أن یقولوا لإدارة الرئیس أوباما إنَّهم یَثِقون فحسب بها، وبنیَّاتها، ویتوقَّعون أنْ تُغیِّر سیاستها ومواقفها بعد أن تَقْتَنِع بما اقتنعت به "لجنة مبادرة السلام العربیة"، وهو تعذُّر، إنْ لم یکن استحالة، أن تجنح حکومة نتنیاهو لمفاوضات سلام جادة ومثمرة.
ولکن، هل "اقتنع" الرئیس أوباما "اقتناعاً"، بجدوى وضرورة وأهمیة أن یتراجع عن مطلبه وَقْف کل نشاط استیطانی "قبل، ومن أجل، بدء، أو استئناف، مفاوضات السلام" حتى تَنْتَظِر "اللجنة"، وتتوقَّع، أن "یقتنع "اقتناعاً"" بعدم جدوى التفاوض مع حکومة نتنیاهو؟
إذا کان علیهم أنْ یجیبوا عن هذا السؤال فسوف یجیبون عنه قائلین: "کلاَّ، لم یقتنع اقتناعاً، وإنَّما أُرْغِم إرغاماً، فالضغوط التی تعرَّضت لها إدارته هی التی حملته على التراجع". والسؤال الذی تَلِده تلک الإجابة هو "هل سیمارِس العرب من الضغوط على إدارة الرئیس أوباما ما یَحْمِلها على تغییر سیاستها ومواقفها بما یَحْمِل حکومة نتنیاهو على التفاوض الجاد والمثمر؟".
إذا کان لـ"الواقع" أن یجیب عن هذا السؤال فلن یجیب إلاَّ بما یؤکِّد أنْ لا "ضغط" یمکن أن یمارسه العرب على إدارة الرئیس أوباما إلاَّ الذهاب إلى الأمم المتحدة "مجلس الأمن الدولی" أو التهدید بالذهاب، فإذا ذهبوا، وسعوا فی استصدار قرار دولی جدید، ولقی سعیهم حتفه بـ"فیتو" الولایات المتحدة، فلن یفعلوا بعد ذلک إلاَّ ما یقیم الدلیل على أنْ لا مصلحة حقیقیة، واقعیة، للعرب من ملتزمی السلام خیاراً إستراتیجیاً إلاَّ أنْ یتصالحوا، مرَّة أخرى، مع خیار "التفاوض الأبدی"، فإنَّ هذا الشر، إذا ما کان شرَّاً فی معتقدهم، یظلُّ أهون ألف مرَّة من شرِّ تطلیقهم ثلاثاً الخیارین معاً "خیار "السلام المُطْلًق" وخیار "التفاوض الأبدی"".
العالم کله اقتنع؛ ولکن لیس بعدم جدِّیة حکومة نتنیاهو فی طلب السلام، والسعی إلیه، وإنَّما بعدم جدِّیة العرب فی الأمر نفسه، فلو کانوا جادِّین، لأعدُّوا للسلام ما استطاعوا من عدة، ولَعَمِلوا بما یؤکِّد إیمانهم بأنَّ الاستعداد للحرب هو الطریق إلى السلام، فالعرب لم یدخلوا معترک السلام إلاَّ بما یغری إسرائیل "وحکومة نتنیاهو" بإنفاق مزیدٍ من الوقت والجهد من أجل جعله للعرب "رایةً بیضاء"، وبما یزید الولایات المتحدة إقتناعاً بجدوى وضرورة وأهمیة أنْ تظل على انحیازها الأعمى إلى الدولة العبریة.
إنَّ "العجز عن الحرب" هو و"العجز عن السلام" صنوان؛ وإنَّ اقتران العجزین، وقد اقترنا عربیاً، هو ما جاء بما یُلْزِم العرب "والفلسطینیین" اتِّخاذ "التفاوض الأبدی" نهجاً لا ینتهجون سواه.
أمَّا الولایات المتحدة فلا تتوسَّط إلاَّ بما یجعل "المطالب العربیة "والفلسطینیة"" تزداد شَبَهَاً بـ"الشروط الإسرائیلیة"، ولا تساعِد السلطة الفلسطینیة إلاَّ بما یجعل لها، أو لبعض قواها، مصلحة فی البقاء فی أسْرٍ لمفاوضات لا تنتهی إلاَّ عندما یصبح "الحل النهائی" الذی تریده إسرائیل "مَطْلباً" فلسطینیاً!
ویکفی أن تنجح الولایات المتحدة فی تغییر واقع الفلسطینیین بما یفی بهذا الغرض حتى یزداد العرب استمساکاً بسیاسة قوامها "لن نکون فلسطینیین أکثر من الفلسطینیین"، و"أهل مکَّة أدرى بشعابها"، وکأنَّ "مزیداً من التفاوض" مع "مزیدٍ من التفویض"، هو العاقبة التی انتهى إلیها التزام العرب والفلسطینیین السلام خیاراً إستراتیجیاً؛ مع أنَّ تجربة هذا الخیار لم تأتِ إلاَّ بما ینبغی له أن یُقْنِع ملتزمیه، لو کانوا مِمَّن لهم مصلحة فی جعل ضعفهم قوَّة، بضرورة أن یتِّخذوا من "المقاومة"، ودعمها، طریقاً إلى السلام.
ن/25