qodsna.ir qodsna.ir

بعد 65 عاما... الردع النووی یفقد فاعلیته

سعید الشهابی

 

خمسة وستون عاما تفصل العالم عما جرى فی الاسبوع الذی بدأ یوم الاثنین السادس من آب/ اغسطس 1945، والذی حصد ارواح ما لا یقل عن 200 الف من الیابانیین بسبب السلاح النووی الامریکی. بعد مرور هذه الفترة الطویلة لا یبدو ان العالم أصبح أکثر أمنا عما کان علیه آنذاک، برغم الجهود الدولیة المتواصلة للحد من انتشار الاسلحة النوویة وکبح جماح الرغبة فی القتل الجماعی لدى الدول الکبرى.

فقد کان القاء القنبلة النوویة الاولى التی اسماها الامریکیون 'الولد الصغیر' على مدینة هیروشیما الیابانیة فی السادس من آب/ اغسطس والثانیة على مدینة ناغازاکی فی التاسع منه، تدشینا لحقبة السباق النووی التی ادت لامتلاک 13 دولة من تلک الاسلحة ما یکفی لتدمیر الکرة الارضیة مئات المرات. وطوال العقود الماضیة، کانت الدول الکبرى قادرة على توفیر الذرائع لامتلاک المزید من هذا السلاح، لیس بعنوان تدمیر العالم، بل بهدف معلن معاکس لذلک: الحفاظ على الامن والسلام الدولیین. وتحت شعار 'الردع النووی' تواصل سباق الدول الکبرى لتنصیع وتطویر وتخزین آلاف الرؤوس النوویة. وکانت حقبة 'الحرب الباردة' فرصة للسباق النووی بین حلفی وارسو وشمال الاطلسی. وکاد ذلک السباق یصل الى حد المواجهة خلال ازمة الصواریخ الکوبیة فی 1962، ولو حدث ذلک فلربما تغیر شکل العالم الذی نعیشه الیوم بشکل جوهری. وثمة اسئلة کثیرة حول سباق التسلح النووی على وجه الخصوص من بینها: ألم یستنفد هذا السلاح أغراضه خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وتحول العالم الى ظاهرة القطب الواحد؟ ألم یتعظ العالم بما حدث لکل من هیروشیما وناجاساکی ویتحرک لیس للتوصل لحالة من 'توازن الرعب' بل لوضع تتسابق فیه الدول لرفع رایة السلام وازالة دواعی التسابق العسکری؟ لماذا فشلت الامم المتحدة فی منع الحروب المتتالیة التی اعقبت الحرب العالمیة الثانیة والتی کان للولایات المتحدة فی اغلبها دور مباشر، ابتداء بالحرب الکوریة ثم حرب فیتنام، مرورا بحربی الخلیج، وصولا الى الحرب ضد العراق؟ وما هی الرسالة التی یراد ایصالها الى العالم عندما تقدم جوائز نوبل للسلام لزعماء معروفین بشغفهم لامتلاک السلاح النووی وعقلیتهم المبرمجة وفق قوانین الحرب ومعادلاتها ومن بینهم جیمی کارتر وبیل کلینتون ومناحیم بیغن وشمعون بیریس؟

فی الأیام الماضیة احتفلت الیابان بالذکرى الخامسة والستین للعدوان النووی على هیروشیما وناغازاکی، وشارکت الولایات المتحدة فی احتفالاتها هذا العام، للمرة الاولى، ممثلة بسفیرها لدى الیابان، جون روس، الذی قال: 'من اجل مستقبل الاجیال، علینا الاستمرار فی العمل معا لتحقیق عالم بدون اسلحة نوویة'. اما عمدة هیروشیما، تاداتوشی أکیبا فأکد هو الآخر على 'ان الاسراع بالقضاء على الاسلحة النوویة امر یضغط على الضمیر العالمی'. وفی موازاة ذلک، أکد رئیس الوزراء الیابانی، ناوتو کان، حاجة الیابان للبقاء تحت المظلة النوویة الامریکیة: 'اعتقد ان الردع النووی ما یزال ضروریا لامتنا فی هذا الوقت الذی تبرز فیه عوامل وأبعاد غیر واضحة وغیر محددة'. اما وزیر الخارجیة الالمانی، فیستارفیللی، فقد اعتبر الویلات التی نجمت عن قصف مدینتی هیروشیما وناغازاکی الیابانیتین قبل 65 عاما بالقنابل الذریة انذارا للبشریة وتحذیرا من انتاج وامتلاک ونشر الاسلحة النوویة فی العالم. واعتبر المسؤول الالمانی' نزع الاسلحة النوویة والتقلیل من دورها فی الاستراتیجیات النوویة من واجبات ومهمات البشریة فی وقتنا هذا' مضیفا ان کلا من المانیا والیابان تؤمنان بذلک کمبدأ ملزم منذ حقبة زمنیة طویلة. وثمة تناقض واضح بین الرغبة فی التخلص من الاسلحة النوویة کما جاء على لسان عمدة هیروشیما ووزیر الخارجیة الالمانی وتکرار القول بالحاجة للردع النووی. هذا التناقض یفسر جانبا من اصرار الدول النوویة على الاحتفاط بما لدیها من ترسانة. فاذا کان ذلک الردع ضروریا فی حقبة الحرب الباردة بسبب التسابق بین المعسکرین الاشتراکی والرأسمالی على النفوذ فی العالم، فمن هی الجهات التی یتم التسابق معها الآن؟ یرى الغربیون، خصوصا الامریکیین منهم، ان هناک طیفا من مصادر التهدید یبدأ بما یسمى 'الارهاب' تارة و'التطرف الاسلامی' تارة اخرى، و'الدول المارقة' مثل کوریا الشمالیة وایران ثالثة. هذه الذرائع کثیرا ما تطرح کمبرر للاحتفاظ بالترسانة النوویة التی تمتلک کل من روسیا وامریکا اکثر من 5000 منها الى ما قبل اتفاقهما على تقلیصها بنسبة 30 بالمئة. وقد وقع الرئیسان، الامریکی والروسی فی شهر نیسان/ ابریل الماضی اتفاقیة 'ستارت' الجدیدة التی تنص على خفض الرؤس النوویة لکل منهما الى 1550. وبموازاة ذلک یتم خفض الصواریخ البالستیة العابرة للقارات والصواریخ التی تطلقها الغواصات، والقاذفات الاستراتیجیة الى 800 لکل منهما، مقارنة بـ 5576 رأسا نوویا لدى امریکا، و3909 لدى روسیا، ووسائل اطلاق (صواریخ بالستیة وغواصات وطائرات استراتیجیة) یبلغ عددها 1198 لدى امریکا، و814 لدى روسیا.

وثمة تساؤلات عدیدة فی هذا المجال: اولها هل تکفی نسبة الخفض هذه للتقلیل من القلق العالمی ازاء السلاح النووی، خصوصا اذا علم ان الرأس النووی الواحد فی الوقت الحاضر یعادل فی قوته عشرات المرات عما کانت علیه قوة القنبلة التی القیت على هیروشیما؟ ثانیا: ما الذی یضمن التزام الموقعین على اتفاقیة 'ستارت' الجدیدة بتنفیذ الاتفاقیة؟ ثالثا: هل یکفی هذا الخفض لاقناع القوى النوویة الاخرى بمبادرات مماثلة؟ رابعا: ألیس بعبع الحرب النوویة ما یزال ماثلا برغم تقلیص الترسانتین النوویتین، الامریکیة والروسیة؟ خامسا: لماذا التلکؤ فی تطبیق بنود الاتفاقیة الدولیة للحد من انتشار الاسلحة النوویة، التی تنص على ضرورة اتخاذ الدول النوویة اجراءات لخفض ما لدیها من هذه الاسلحة؟ لقد مضى قرابة الاربعین عاما على هذه الاتفاقیة ولم تتخذ هذه الدول الاجراءات المطلوبة. وبعد اتفاقیة ستارت الجدیدة، هل ستقتنع الدول النوویة الاخرى بالاقدام على خطوات مماثلة؟ فماذا عن بریطانیا وفرنسا والصین؟ وماذا عن الهند وباکستان اللتین ما فتئتا فی خلاف متواصل منذ انفصال باکستان عن الهند قبل 62 عاما؟ أولیس شبح الحرب الذی یخیم على اجواء البلدین، والتوتر السائد فی کشمیر والاعمال الارهابیة التی تنطلق من باکستان، ألیس کل ذلک کافیا لاشعال حرب نوویة بینهما؟ وربما السؤال الأنسب هنا: ما الذی یجبر الدول النوویة على الاستمرار فی الاحتفاظ بترسانتها من هذه الاسلحة الشریرة؟ ولماذا لا یتم التصدی للدول التی تصر على امتلاک هذه الاسلحة خارج الرقابة الدولیة، خصوصا 'اسرائیل'؟ وهنا تبرز قضیة ایران التی تصر على امتلاک مشروع نووی تقول انه سلمی، بینما یتهمها الغربیون فی نوایاها ویصرون على انه موجه لاغراض عسکریة. ویمکن القول بان الموقف الغربی ازاء المشروع النووی الایرانی یمثل أبشع أشکال الانتقائیة والازدواجیة لأسباب عدیدة منها ان ایران تحاکم على 'النوایا' ولیس على الوقائع. فلا أحد یقول بان ایران تمتلک اسلحة نوویة، بل أقصى ما یقال انها 'تنوی' توجیه مشروعها لتنصیع اسلحة نوویة، الامر الذی یخضع للتقدیرات المختلفة.

دعوة المسؤولین فی العدید من دول العالم للاتعاظ بما حدث فی الحرب العالمیة امر ایجابی، ومن المؤکد ان مشاهدة صور المأساة تعمق المشاعر الرافضة للاسلحة النوویة، خصوصا ان هذه الاسلحة لم تمنع حدوث الحروب الا بین الدول الکبرى التی تنتهج استراتیجیات تقوم على أساس الردع النووی. اما الدول الاخرى فهی مکشوفة امام العدوان. وهذا یفسر بعض اسباب الحروب التی حدثت طوال العقود الستة الماضیة، ای منذ انتهاء الحرب العالمیة الثانیة. وبلحاظ خریطة التوازن العسکری الدولی، یمکن القول ان الجدل الزوبعة المثارة ضد ایران والسعی الحثیث لحصارها، کل ذلک مرتبط بواقع منطقة الشرق الاوسط الذی اختل فیه التوازن لغیر صالح اهله، لهدف شریر لا تقره الشرائع الدولیة ولا الذوق الانسانی. فالاحتلال مرفوض فی کل مکان، الا فی الشرق الاوسط. وقد رفضت واشنطن مبدأ السیطرة على اراضی الغیر بالقوة عندما اجتاحت القوات العراقیة اراضی الکویت فی مثل هذه الایام قبل عشرین عاما، وشنت حربا فریدة من نوعها لاخراج القوات العراقیة من الکویت. ولکن هذه الدول التی اجتمعت فی التحالف العسکری آنذاک لا تنظر لقضیة الاحتلال الاسرائیلی لفلسطین من المنظور نفسه. هذه الازدواجیة فی المعاییر، والتلکؤ الامریکی فی لجم العدوان الاسرائیلی المتواصل ضد الفلسطینیین، اصبح سببا للغضب المتواصل فی ارجاء العالمین العربی والاسلامی ضد السیاسات الامریکیة فی المنطقة. وقد تنفس العالم الصعداء بفوز باراک اوباما برئاسة الولایات المتحدة على امل حصول تغییرات حقیقیة فی السیاسات الامریکیة فی العالم، خصوصا ازاء منطقة الشرق الاوسط. ولکن اتضح الآن ان اوباما عاجز عن احداث تغییر حقیقی فی السیاسة الامریکیة الخارجیة التی تعتمد القوة فی التعامل مع الآخرین، وتؤطرها المصالح الاسرائیلیة فی اغلب جوانبها. وبرغم التفاؤل الذی ساد المنطقة بفوزه العام الماضی، فان هذا التفاؤل تراجع کثیرا بعد ان اتضح عجزه عن تغییر المسار الامریکی فی المنطقة. ویقول أحدث استطلاعات الرأی العام الشعبی ان اغلبیة الناس فی العالم العربی لدیهم آراء سلبیة تجاه الرئیس اوباما والولایات المتحدة. وقالت نتائج استطلاع الرأی الشعبی لعام 2010 الذی اعلنته مؤسسة ذا بروکینغز ومقرها واشنطن الى ان 62 بالمئة یحملون آراء سلبیة فی مقابل 20 بالمئة فقط ینظرون الیه بشکل ایجابی. ولکن عندما أجری استطلاع مماثل فی مطلع رئاسته عبر 23 فی المئة من الذین جرى استطلاع رأیهم فی ست دول عن آراء سلبیة تجاه أوباما والولایات المتحدة بینما أعرب 45 بالمئة منهم عن آراء ایجابیة فی الادارة الجدیدة التی تولت الحکم فی کانون الثانی/ینایر 2009.. هذا التراجع یعکس خیبة امل عمیقة فی نفوس الکثیرین من جانب، ومن جانب آخر عدم وجود رغبة امریکیة حقیقیة فی اعادة صیاغة سیاسات واشنطن خصوصا ازاء 'اسرائیل' التی اصبحت عبئا على الولایات المتحدة وواحدا من اهم اسباب انتشار ظاهرة الارهاب والتطرف والعداء للغرب.

وهکذا یبدو العالم بعد 65 عاما على انتهاء الحرب العالمیة الثانیة بعیدا عن الوصول الى ساحل الامن والاستقرار. ومع ان انتشار ظاهرة الارهاب والتطرف من بین اسباب ذلک، فثمة عوامل اخرى قد تکون اهم منها، تحول دون تنامی الوئام او تعمق الثقة فی النظام السیاسی المهیمن على العالم فی الوقت الحاضر. وثمة حقائق یتعامى عنها السیاسیون فی واشنطن ولندن، تؤکد ان سیاساتهما من بین اسباب تراجع اقتصاداتهما، وان هناک حاجة لاحداث هزة حقیقیة فی تلک السیاسات لاعادة التوازن الیها.

فحالة الاحتراب والانفاق المتواصل على أدوات الموت العسکریة، ورفض فک الارتباط مع کیان الاحتلال الاسرائیلی، والاصرار على منع انتشار الممارسات الدیمقراطیة فی العالم العربی، کل ذلک یساهم فی حرف مسارات التنمیة والتصنیع لدیهما. وبعیدا عن تسطیح الامور واسالیب الدعایة الرخیصة، فان القول بضرورة قیام الغرب باعادة تقییم سیاساته تجاه الآخرین، خصوصا فی الشرق الاوسط اصبح ضرورة تضغط على حکوماته، لان دعم الظلم الاسرائیلی والاستبداد السلطوی فی الدول الصدیقة، وتهویل ظاهرة 'الارهاب' بدون دراسة اسبابها أو ربط ذلک بالاستراتیجیات الغربیة واتجاهاتها، یجعل التصدی الحقیقی لتلک الظواهر مهمة صعبة وغیر مجدیة. فلیست ایران وحدها التی تشعر بالغبن والظلامة بسبب السیاسات الغربیة، بل ان ترکیا اصبحت تعید حساباتها وتقییم موقفها ازاء الغرب، خصوصا بعد العدوان الاسرائیلی على 'اسطول الحریة'، وتتجه شرقا فی سیاساتها واولویاتها. وباکستان التی زار رئیسها الاسبوع الماضی بریطانیا والتقى بعض مسؤولیها تشعر کذلک بعدم موضوعیة الغرب فی الاتهامات التی یوجهها لها بخصوص الارهاب والامن والحرب فی افغانستان. وکانت مالیزیا سباقة فی مجال اعادة النظر والموقف ازاء الغرب وسیاساته.

هناک اذن ظواهر سیاسیة واقتصادیة وعسکریة یرفض الغربیون النظر الیها بموضوعیة، ولذلک یستمرون فی سیاساتهم وفق مقولات مسبقة ونمطیات قدیمة، وبالتالی فانهم یدفعون اثمانا باهظة لذلک، تتمثل بحصد ارواح البشر، من مواطنیهم ومواطنی البلدان الاخرى، والتراجع الاقتصادی کما یحصل فی الوقت الحاضر، وتداعی الاخلاقیة السیاسیة، الذی تعبر عنه ظواهر الازدواجیة والانتقائیة. المشکلة ان فاتورة هذه السیاسات مکلفة ویفرض على الجمیع دفعها، الامر الذی یعمق الظلامة ویمنع تصحیح المسار، ویبقی الاوضاع فی المربع الاول بدون تقدم او تطور. وما لم تتبلور سیاسة شفافة للقضاء على السلاح النووی فی العالم، تبدأ فصولها بالقضاء على ما هو موجود من اسلحة نوویة لدى الدول الکبرى، وتتخلى عن سیاسة الحفاظ على التفوق العسکری الاسرائیلی فی مقابل المحیط العربی، فسوف تنتشر اسلحة الدمار الشامل مجددا، خصوصا السلاح النووی الاسرائیلی المدعوم غربیا، ویصبح امرا مستحیلا القضاء علیها.

ن/25

 

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141414