المفاوض الفلسطینی ورحلة التیه

المفاوض الفلسطینی ورحلة التیه
سمیر حمدی
بغض النظر عن حالة التمنع اللین الذی یبدیه الآن الفریق الفلسطینی المفاوض، فإن العودة إلى جولة جدیدة من المفاوضات المباشرة قد أصبحت من تحصیل الحاصل. ومن نافلة القول ان هذه الجولة التفاوضیة الجدیدة لن تضیف شیئا وهذا لیس رجما بالغیب وإنما نتاج قراءة موضوعیة لواقع التفاوض سوى مراکمة مزید من التنازلات العربیة واثبات فشل خیار التسویة، ولکنها أیضا فرصة لإعادة طرح متجددة لجملة من الإشکالیات الأساسیة المتعلقة بطبیعة المفاوضات وشروطها وما الذی یمکن أن تفضی إلیه وهل أن خوضها على علاتها هو من قبیل الواقعیة السیاسیة کما یدعی أهلها أم هی وقوع فی أحضان العدو بصورة فریدة یتواطأ فیها الضحیة مع جلاده ویمنحه صک براءة من کل الجرائم التی اقترفها فی حقه؟
بدایة یمکن القول ان المفاوضات هی امتداد لآلیات العمل السیاسی شانها فی ذلک شان الحرب والغایة واحدة هی حل النزاعات، وهو ما یعنی أن العملیة التفاوضیة لیست غایة فی ذاتها بقدر ما هی أداة لتحصیل الحقوق أو لتکریس الوقائع على الأرض ضمن شروط محددة لا نعتقد أنها متوفرة فی حدها الأدنى بالنسبة للجانب الفلسطینی، بحیث یمکن توصیف المفاوضات المقبلة بالصورة التالیة:
أولا: المفاوض الفلسطینی
یفتقد هذا المفاوض إلى أوراق القوة الضروریة لخوض صراع یتقرر على إثره مصیر شعب بأکمله فهو لا ینطلق من حاضنة شعبیة حقیقیة وإنما یکتفی بالاستناد إلى دعم رسمی عربی من أنظمة لیست إلا وکیلا للأجنبی وهی لا تدفع إلا باتجاه مزید من التنازلات فی أفق التخلص من قضیة ظلت تؤرقها طیلة عقود.
فالمفاوض الفلسطینی خالی الوفاض من کل الشروط الموضوعیة التی تسمح له بفرض مطالبه فی ظل مفاوضات غیر متکافئة أصلا وإذا کان أبو مازن وجماعته یعتقدون أنهم عن طریق رفع رایات السلام والاعتدال ومحاربة المقاومة فی الضفة والمساهمة فی حصار غزة والانحیاز إلى ما یسمى بدول 'الاعتدال' والاستجابة لشروط الرباعیة سیخلقون دینامیة تفرض على الحکومة الصهیونیة أن تصل إلى اتفاق عادل، فهم واهمون لأن الذی یحدث دوما عکس ذلک تماما فکلما ازداد الاعتدال الفلسطینی زاد التطرف الصهیونی وزاد التمسک بالمستوطنات وبکل شبر من الأرض المحتلة (لاحظ مثلا تصاعد وتیرة الاستیطان فی ظل عملیة التسویة وانخفاضها أثناء الانتفاضة مثلا).
ولأن التجربة التاریخیة تکشف أن أی تفاوض بین طرفین غیر متفقین فی المنطلقات والآراء والأطر المرجعیة وفی غیاب الندیة فإن ما یحسم الحوار هو السلاح أی منطق القوة ومن هنا تصبح المقاومة المسلحة شرطا لا غنى عنه بالنسبة للطرف الواقع علیه الظلم وهو هنا الفلسطینیون کما یتطلب رصدا ذکیا من الطرف المقاوم لاقتناص اللحظة المناسبة للدخول فی التفاوض مع الطرف الآخر دون التوقف عن المقاومة فی ذات الوقت (النموذج الفیتنامی فی التفاوض مع الأمریکان حیث لم یتوقفوا عن القتال إلا بعد انتهاء المفاوضات) أما ما یحصل راهنا فان محـــترفی التفاوض فی الســــلطة الفلسطـــینیة یسارعون إلیها دون ادنى ضمانات غیر وعود الرباعیة الزائفة وهو أمر لن یؤدی إلا إلى مزید من تکریس الأطماع الصهیونیة فی مقابل إهدار کامل للحقوق الفلسطینیة کافة.
ثانیا: الطرف الصهیونی
إن ما یمیز المفاوض الصهیونی وبغض النظر عن انتمائه الحزبی (من أقصى الیمین إلى أقصى الیسار) هو انه ینطلق من مفهوم محدد للأمن یشیر إلى مضمون واحد وهو ضرورة التخلص من الوجود الفلسطینی قدر الإمکان ورفض أی حدیث عن حق العودة واعتماد سیاسة الأمر الواقع من خلال مواصلة سیاسة الاستیطان والتهوید أثناء المفاوضات ذاتها ولهذا فهو یرفض أی جدول أعمال واضح المعالم ویرفض منح أی ضمانات للطرف المقابل بل غایة ما یسعى إلیه هو جر الفلسطینی إلى مزید من التنازلات وصولا إلى اختزال القضیة الفلسطینیة من قضیة شعب فقد أرضه وتعرض لغزو استعماری إلى مجرد تفاوض على دویلة منقوصة السیادة، منزوعة السلاح، مفککة الأوصال تحکمها ملیشیات موالیة مستفیدة فی هذا من تواطؤ رسمی عربی ودولی ووجود طرف فلسطینی ضعیف مستعد للتعاون معها.
ثالثا: الوسیط الأمریکی
تفترض عملیات التفاوض أحیانا وجود طرف ثالث یلعب دور الوسیط یتم اللجوء إلیه باعتباره محایدا ومتحررا من قیــــود عدیدة لا بدَ وأن تخدم عملیة التوفیق بین الطرفین المتفاوضین، هذا من الناحیة النظریة، غیر أن الوسیط الأمریکی فی هذه المفاوضات لیس طرفا محایدا ولا متحررا من ضغوط اللوبی الصهیونی النافذ فی أروقة الإدارة الأمریکیة بحیث یمکن التأکید أنه یخدم الطرف الصـــــهیونی على حساب الطرف الآخر مستخدما فی ذلک نفـــوذه المالی (الدعم الذی یقدمه لسلطة رام الله) والأمنی (من خلال ممثله الدائم کیث دایتون) لدفع الجانب الفلسطینی إلى التفاوض فی مرحلة أولى ثم إلى التنازل لاحقا بصورة تصبح معها العملیة التفاوضیة أشــبه بمسرحیة هزلیة یُسمح فیها بالخروج عن النص أحیانا ولکن نهایتها تظل معلومة.
وأخیرا یمکن القول ان مفاوضات عدمیة تجری بین طرف فلسطینی وَاهِم یعتمد على الوعود وحُسن النوایا وطرف صهیونی یقدس العنف ولا یؤمن بغیر مبدأ الأمر الواقع وبوجود وسیط أمریکی منحاز لن تفضی إلى سلام حقیقی عادل وشامل وإن توقیع الاتفاقیات والبروتوکولات لن تلغی حالة الصراع التاریخی ولن تســــاوی أکثر من ثمن الحبر الذی کُتبت به لأنها فی النهایة لیست إلا إملاءات یفرضها الطرف المعتدی على المعتدى علیه محاولا شرعنة احتلاله وعدوانه ولا یمکنها بأی حال أن تمحو ذاکرة الشعب الفلسطینی أو تدفعه إلى الاستسلام والتخلی عن حقوقه المشروعة وهو الذی تعود دوما أن یصنع من دمه سبیلا إلى الحریة.
ن/25