الاثنين 24 جمادي الثانية 1447 
qodsna.ir qodsna.ir

صهینة القدس وجعلها عاصمة وثنیّة مغلقة

صهینة القدس وجعلها عاصمة وثنیّة مغلقة

نصر شمالی

 

المدن العربیة جمیعها مهمّة مهما کانت عادیة أو ثانویة، لکنّ القدس لیست عادیة ولا ثانویة، لأنّ وجودها مقترن بوجود الأمة العربیة من أساسه، ولأنّنا إذا نظرنا إلى الوطن والأمة کجسد، وإلى کلّ مدینة عربیة کساق أو ذراع أو عین أو أذن أو لسان، فإنّ القدس هی القلب أو الدماغ. إنّ الحیاة تستمرّ وإن ناقصة بفقد عضو ثانوی، لکنّها تتوقف، ویکون الموت، فی حال فقدان القلب أو الدماغ. وذلک هو موقع القدس وحالها مع سکّان المنطقة العربیة على مدى آلاف السنین، منذ فجر التاریخ.

إنّ القدس أکبر من الحقائق الإسلامیة المحدّدة الثابتة التی تطرح الیوم، ناهیکم عن أنّها أسمى وأجلّ من أن تخضع للادعاءات والخرافات الصهیونیة التی لا أساس لها. فهی، قبل أن تصبح القلب أو الدماغ، کانت الفقرة الرئیسیة فی العمود الفقری الذی نهض به جسم المنطقة الفتیّ فی مراحله الأولى، والذی استندت إلیه الوظائف الأزلیة الإیجابیة لسکانها، نعنی وظائفهم کحلقة للوصل وتنظیم الصلات بین الأمم، لصالح جمیع الأمم. وهکذا فإنّ صهینتها، باغتصابها أو بتدویلها، تعنی إلغاء وظائف سکان المنطقة العرب، أی إلغاء خصوصیتهم وحضورهم، وبالتالی اضمحلالهم وفناءهم فی الواقع.

لقد تشکّلت الأمة العربیة، فی الطور الإسلامی، من جمیع سکان المنطقة المتواجدین فیها منذ أقدم العصور المجتمعیة. ولنلاحظ أنّ الخطاب الأول للدعوة الإسلامیة (الذی لم یهادن الوثنیّة أبداً، والصهیونیة وثنیّة) صنّف المسلمین بأنهم من انتمى إلى ملّة إبراهیم وملل الأنبیاء والرسل الذین تلوه على مدى أکثر من ألفین وخمسمائة عام (منذ العام 1900 قبل المیلاد حیث بدایة العهد الإبراهیمی). لقد میّز الخطاب بحزم بین الإسلام الإبراهیمی عموماً وبین الإیمان المحمّدی خصوصاً، لکنّه لم یجعلهما متعارضین، بل متکاملین. ولقد لخّصت مدینة القدس هذا الخطاب بصورة رائعة تلیق بمکانتها العظمى. فلا استئثار ولا احتکار، ولا إقصاء ولا إنکار، ولا تعصّب ولا استکبار، أی لا وثنیّة، بل تعزیز عربی لوظائفها الأزلیة الأممیة.

الیوم، یعمل الصهاینة الوثنیون، الیهود وغیر الیهود، على جعل القدس دائرة وثنیة مغلقة، یستأثرون بها وحدهم ویحتکرونها، ویقصون وینکرون أمّتها والأمم الأخرى، ویمارسون فیها التعصّب والاستکبار، والاستثمار فی الربا والقمار، بعد تحویلها إلى ما یشبه لاس فیجاس، وهذا الذی نقوله عن نشاطهم وأهدافهم لیس مجرّد تکهّنات، بل حقائق واقعیة یمکن لمن یشاء الاطلاع علیها فی سجلات الدوائر الإسرائیلیة والأمریکیة المعنیّة بالقطاع السیاحی. بل لقد قرأت ذات مرّة أنّ الإسرائیلیین لوّحوا لبعض الفلسطینیین بأهمیة الاستثمار السیاحی المشترک للأماکن المقدّسة، بما فیها المسجد الأقصى.

والحال أنّ مشروع الکیان الإسرائیلی هو فی الأساس مشروع استثماری ببعدین: الأول دولی تمثّله الیوم الولایات المتحدة کوریثة لبریطانیا وأوروبا، فهی بمساعدة المستوطنین الإسرائیلیین تستولی على النفط العربی وعلى الأسواق الداخلیة العربیة. والثانی إسرائیلی یحوّل فلسطین إلى مرکز استثمار دولی فی الأعمال المشینة من جهة، وإلى مرکز إدارة صهیونی للمنطقة العربیة بمجملها من جهة أخرى. وبالطبع فإنّ هذا المشروع لن ینجح إلاّ بعد استکمال تهوید القدس أو صهینتها، ومن ثمّ انتزاع الاعتراف بها، کأمر واقع، عاصمة لمشروعهم. وعلى هذا الأساس رأیناهم، بعد استکمال احتلال فلسطین بکاملها عام 1967، یبدأون عملیات التسلّل سرّاً ومن دون ضجّة إلى جمیع أنحاء القدس المحتلة، ویقیمون على مدى العقود التالیة عدداً کبیراً من الأحیاء الاستیطانیة، التی بلغ عدد سکانها الصهاینة حوالی ربع ملیون.

فی العام 1995 کان حال المقاومة الفلسطینیة والعربیة قد تغیّر سلبیاً. فقد بدأ الحدیث 'العقلانی المعتدل' عن إلقاء السلاح واستبداله بالمفاوضات والمقایضات. وإذا بالعمل السرّی الصامت لتهوید القدس یتحوّل إلى عمل علنی ناطق. وإذا بالمتهوّد الخزری المرتزق إیهود أولمرت (رئیس بلدیة القدس آنذاک) یعلن صراحة أنّه نجح فی إقناع العشرات من أعضاء الکونغرس الأمریکی بالتوقیع على عریضة تنصّ على إصدار قرار بنقل السفارة الأمیرکیة من تل أبیب إلى القدس المحتلة، التی یفترض أنّ وضعها القانونی لا یسمح بذلک. بل إنّ بلدیّته خصّصت أرضاً للسفارة مساحتها ثلاثون دنماً. وعندما زار کلینتون القدس لاحقاً، أسرع إلى شرفة فندقه العالیة، ودعا فرحاً من معه لمشاهدة تلک الأرض، وقد غمرته الحماسة الصهیونیة.

إنّ الأمیرکیین یتطلعون بحزم إلى الیوم الذی ینقلون فیه سفارتهم إلى القدس. لکنّهم یعرفون أنّ الأوان لم یؤن بعد، سواء فیما یتعلّق بوضع الفلسطینیین أم بوضع العرب والمسلمین عموماً، بعکس أولمرت وأمثاله من المرتزقة الصغار المستعجلین. لکنّ الأمیرکیین لم یمانعوا بل شجّعوا الانتقال من مراحل التسلّل الیهودی سرّاً إلى مرحلة المداهمات والجرّافات وهدم الأحیاء المقدسیة وتهجیر سکانها. فمثل هذه النقلة المتقدّمة تتفق وسویّة النقلة المتراجعة للنظام الرسمی العربی، الذی أدار ظهره لما یحدث فی القدس، ولما یحدث فی جمیع المدن والقرى الفلسطینیة. إنّه النظام الذی ینطبق على حکّامه تماماً قول شاعرنا ابن الرومی: 'یضحک إبلیس سروراً بهم/ لأنّهم عارّ على آدم'.

یجب أن لا یخامر أحد أدنى شکّ فی أنّ الأمریکیین الإنکلیز اللوثریین یعملون بدأب ویتطلعون بلهفة إلى ذلک الیوم الذی یکتمل فیه تهوید القدس، وبالتالی تصبح عاصمة إسرائیلیة کأمر واقع. لکنّهم على یقین من أنّ الوصول إلى ذلک الیوم یقتضی استکمال صهینة النظام الرسمی العربی، ورضوخ الأمة. وإذا حدث ووصلنا إلى یوم مشؤوم کهذا الیوم فسوف نرى احتفالات لا مثیل لها ربّما فی التاریخ، تحضرها الإدارات الأمریکیة وتوابعــها الدولیة، ویحضرها أیضاً، کشرط لازم، حکام المناطق العربیة المدارة وتوابعهم.

غیر أنّ عرضنا لمثل هذه الوقائع والأهداف الصهیونیة الحقیقیة لا یعنی تسلیمنا بحتمیة تحقّقها، بل هو من باب أخذ العلم بما یفعلونه وما یبیّتونه لنا وللبشریة جمعاء. فالخطر یمکن أن یصبح جدّیاً إذا لم نتعرّف على أعمال الأعداء وأهدافهم ونتحرّک على أساسها. وبالطبع، فإنّ حظوظ أمتنا کبیرة فی إفشالهم ودحرهم، بخاصة وأنّ سلطان عصرهم الربوی الوثنی بلغ ذروته وبدأ انحداره فی الوقت نفسه.. وهذا موضوع آخر.

ن/25

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141421







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)