نتنیاهو.. ماذا جنى من استئناف المفاوضات المباشرة؟!

نتنیاهو.. ماذا جنى من استئناف المفاوضات المباشرة؟!
صالح النعامی
فی الوقت الذی کانتْ وزیرة الخارجیة الأمریکیة هیلاری کلینتون قبل أیام قلیلة تعلن من واشنطن عن استئناف المفاوضات المباشِرة بین إسرائیل وسلطة رام الله "بدون أی شروط مسبَقَة"، کان رئیس الوزراء الإسرائیلی بنیامین نتنیاهو یتباهى أمام مجموعة من وزرائِه بأن الفلسطینیین والعرب وأعضاء اللجنة الرباعیَّة قد خضعوا تمامًا للمواقف التی عبَّر عنها، وأن "الجمیع باتوا یُدرکون أنه لیس بالإمکان لیّ ذراع إسرائیل"، على حدِّ تعبیرِه، من دون أن یرهق نفسه فی تعداد إنجازات إسرائیل الکبیرة فی إعلان کلینتون، ویمکن الإشارة إلى عددٍ منها:
أولًا: نَجَح فی إملاء موقفِه على السلطة التی عادت للمفاوضات فی ظلِّ لیس فقط عدم استعداد إسرائیل لتجمید الاستیطان فی الضفة الغربیة، بل أیضًا فی ظلّ تشدید کبار المسؤولین الإسرائیلیین أن تلّ أبیب تستعدُّ للشُّروع فی طَفْرَة هائلة وغیر مسبوقة فی البناء فی المستوطنات، وهذا ما یسمعُه الفلسطینیون صباح مساء من وزیر الخارجیة الصهیونی أفیغدور لیبرمان ونائبی رئیس الوزراء موشیه یعلون وبنی بیغن وغیرهم، وهکذا فقد دلَّل إعلان کلینتون عن استئناف المفاوضاتِ مرةً أخرى على افتقاد ممثلی السلطة والنظام الرسمی العربی لأیّ قدرٍ من المصداقیَّة؛ فمن على شاشَة "الجزیرة" کرَّرَ مسؤول دائرة المفاوضات فی السلطة صائب عریقات تشدیدَه على أن السلطة لن تعودَ للمفاوضات بدون التزامٍ صریح بتجمید الاستیطان فی الضفة الغربیة والقدس، وصَدَر الموقف نفسه مراتٍ کثیرةً عن أمین عام الجامعة العربیة عمرو موسى.
اللافتُ أن استئناف المفاوضات فی ظلّ تواصل الاستیطان ینطوی على خطورة هائلة، فهو إقرارٌ عملیّ من قِبل ممثلی السلطة بحق إسرائیل فی تواصل الاستیطان، ومن ناحیةٍ ثانیة فإنه یفرغُ المفاوضات من مضامینها، فإن کانت المفاوضات تستهدفُ الحفاظ على الحقوق الفلسطینیة وعلى رأسها الأرض، کما یزعم مشایعوها، فإن المفاوضات تتحول إلى مظلَّة یتم تحتها قضْم هذه الأرض وحسْم مصیرِها.
ثانیًا: بعکس ما روَّج له الناطقون باسم السُّلطة، فقد وافق محمود عباس على استئناف المفاوضات بدون تحدید مرجعیة أو أجندة لها، علاوة على عدم اتفاق على مآلِها، فقد نجحت الضغوط التی مارسها نتنیاهو على إجبار اللجنة الرباعیَّة على شطْب فقرة من بیانِها یدعو إلى إنهاء المفاوضات بشأن الدولة الفلسطینیة فی غضون فترةٍ محدَّدة، کما أنه لم تتمّ الإشارة إلى قراراتِ مجلس الأمن ذات العلاقة بالقضیة الفلسطینیة، وهذا ما یسمحُ لإسرائیل بهامش حریَّة هائل فی التسویف والمماطلة والتفسیر کما یحلو لها وینسجم مع مصالِحِها، فی الوقت الذی تواصلُ الاستیطان على الأرض، وسیتمُّ استئنافُ المفاوضات دون الاتفاق على جدول القضایا فیها، فقد وافَق عباس على ألا تبحثَ المفاوضات مرکباتِ القضیة الفلسطینیة الرئیسة وتحدیدًا قضیة اللاجئین والأرض، واشترط بدلًا من ذلک أن تتناول المفاوضاتُ قضیتی الحدود والأمن، وإن کانت إثارة قضیة الأمن تأتی أساسًا لخدمة المصالح الإسرائیلیة، فإنه لا طائلَ من بحْث قضیة الحدود، فی الوقت الذی تستأنفُ المفاوضات فی ظلّ التسلیم بتواصل الاستیطان.
ثالثًا: لا یمکنُ فصل استئناف المفاوضات المباشرة مع السلطة عن مخططاتِ إسرائیل تجاه المنشآت النوویَّة الإیرانیة؛ فمن الواضح أن إسرائیل معنیَّة بسیادة مناخٍ إقلیمی یسمح لها بتنفیذ مثل هذه العملیَّات ذات التأثیر الاستراتیجی بعید الأمد، وهناک سوابقُ تدلِّل على کیفیة توظیف إسرائیل المفاوضات مع أطراف عربیَّة لتنفیذ أجنداتٍ سریَّة، فقد جاء قرارُ رئیس الوزراء الإسرائیلی الأسبق مناحیم بیغن بقصف المفاعل الذری العراقی عام 1981 بعد سلسلة لقاءاتٍ مکثَّفة بینَه وبیْنَ الرئیس المصری السابق أنور السادات، وأمر رئیس الوزراء الإسرائیلی السابق إیهود أولمرت بقصْف المنشأة البحثیَّة السوریَّة فی دیسمبر 2008 مباشرةً بعد انتهاء أعمال مؤتمر أنابولیس الذی جَمَعه وکلًّا من محمود عباس والرئیس الأمریکی جورج بوش.
رابعًا: ولا جدالَ فی أن استئناف المفاوضاتِ المباشِرة بین السلطة وإسرائیل یعنی بشکل مؤکَّد أنه لا أملَ فی استئناف جلساتِ الحوار بین حرکتی فتح وحماس بشکل جدی، صحیح أن کل المؤشرات تدلِّل على أن فرصَ نجاح الحوار تؤول إلى الصفر حتى قبل أن تُستأنفَ المفاوضاتُ المباشرة، لکن ومع ذلک فإن استئنافَها یوجِد بیئةً سیاسیة یجعل الجهود التی تبذل من بعض الأطراف العربیة والفلسطینیة حالیًا لاستئناف الحوار والتوصُّل لحلول بشأْن الخلافات حول الورقة المصریة تؤول إلى الصفر، فالفیتو الأمریکی الإسرائیلی على الحوار الوطنی واضح وجلیّ، ولا یحتاج المرء أن یعدِّد الاقتباسات الصادرة عن المسؤولین الإسرائیلیین فی هذا الشأن.
خامسًا: تدرک قیادة السلطة أن تراجعها الواضح عن شروط الحدّ الأدنى التی وضعتْها لاستئناف المفاوضات سیعملُ على إضعافِها أمام الجمهور الفلسطینی، لذا فقد لجأَ عباس وأرکان حکومة فیاض للأسطوانة المشروخة ذاتها التی عادةً ما یلجأون إلیها فی مثل هذه الحالات، وهی الشکوى من أنَّ السلطة تعانی من أزمة اقتصادیة خانِقة تهدِّد قدرتها على تسدید رواتب الموظفین والعاملین، وأن رفضَها الموافقة على استئناف المفاوضات سیعمل على مُفاقمة الأزمة، ویهدِّد فرص تسلُّم الموظفین رواتبَهم، حیث لن یلتزم المانحون الأوروبیون بدفع الرواتب، من الواضح أن الهدفَ من افتعال الحدیث عن أزمة مالیَّة هو توفیر مظلَّة للتراجع عن الشروط التی قدَّمتها سلطة رام الله.
سادسًا: یتیحُ الواقع القائم حالیًا لإسرائیل هامش المناوَرَة بین المسارات التفاوضیَّة العربیَّة، وتحدیدًا بین المسارَیْن السوری والفلسطینی، ومن الواضح أن الأفضلیَّة ستکونُ للمسار السوری، فلم تشهد الساحةُ الإسرائیلیَّة فی یومٍ من الأیام ذلک الحماس الذی تشهدُه حالیًا لإبرام تسویةٍ مع سوریا تحدیدًا، حیث تدلُّ کافَّة الدلائل على أن نتنیاهو یتعرَّض لضغوطٍ هائلة من قادة الأجهزة الأمنیَّة الصهیونیَّة للشروع فی مفاوضاتٍ جادَّة مع دمشق، بغیةَ التوصُّل لتسویة سیاسیة معها.
ویؤکِّد کبارُ المعلِّقین الإسرائیلیین الذین هم على درایة کبیرة بما یجری داخل أَرْوقة صنع القرار فی إسرائیل أنه لم یحدث إن کان قادة الأجهزة الأمنیَّة فی إسرائیل مُجمعین على رأیٍ فی یوم من الأیَّام کما هم مجمِعون حالیًا على ضرورة بذْل أقصى جهدٍ من أجل التوصُّل لتسویة سیاسیة للصراع مع سوریا وبأسرع وقت ممکن، وحتى یوفال دیسکین رئیس جهاز المخابرات الداخلیة "الشاباک" الذی یعتبرُ الملفّ السوری خارج نطاق اهتمامات جهازِه یمارس ضغطًا کبیرًا على نتنیاهو للإسراع فی التفاوُض مع السوریین، وتجاهل المسار التفاوضیّ مع الجانب الفلسطینی.
وحسب المسوّغات التی یسوقُها قادة الأجهزة الأمنیَّة الإسرائیلیة لتبریر حماسِهم للتسویة مع سوریا فإن إنجاز هذه الخطوة یمثِّل تغییرًا هائلًا وغیرَ مسبوقٍ فی البیئة الاستراتیجیَّة لإسرائیل، فی حین أن إبقاءَ الوضْع القائم على حالِه لفترة أطول یحملُ فی طیاتِه مخاطرَ ذات طابع وجودی على إسرائیل، فلا خلافَ بین قادةِ الأجهزة الأمنیَّة فی إسرائیل على أن تسویةَ مع سوریا تضمن تقلیصَ المخاطر الناجِمة عن المواجهة مع حزب الله، وتحرمُه القدرةَ على مواصلةِ تهدید إسرائیل، لذا فإن التنازلاتِ التی قدَّمَها عباس قد تؤدی فقط إلى تحسین ظروف التفاوُض لبشار الأسد فقط.
قصارى القول، موافقة السلطة على استئناف المفاوضات یعنی -ضمن أمور أخرى- أن اللجنةَ التنفیذیة لمنظمة التحریر والفصائل المشارِکة فیها وضمنها فصائل یسار النفاق قد منحتْ إسرائیل وعدَ بلفور جدیدًا، لکنه هذه المرة وعد فلسطینی!.
ن/25