من الذی یتفاوض باسم الفلسطینیین؟
من الذی یتفاوض باسم الفلسطینیین؟
انیس فوزی قاسم
'النذالة تطورت مع الزمن، صارت الیوم تحمل بدلة رسمیة وحقیبة دبلوماسیة..'. باختصار، 'صارت النذالة حضاریة..'. هکذا تقول الروائیة الجزائریة یاسمینة صالح فی روایتها الانیقة 'بحر الصمت' وذلک على لسان السی السعید، وهی تندب حظ الثورة الجزائریة وما آلت الیه. تذکرت مقولتها هذه وانا اتابع مناورات القیادة الفلسطینیة للمشارکة فی اجتماع واشنطن مطلع شهر ایلول/سبتمبر الحالی. لقد حاولت هذه القیادة تجمیل 'النذالة' وجعلها مسیرة 'حضاریة' باعلانها، بامتهان واحتقار، عن أنها ذاهبة للمفاوضات حتى لو کانت فرص النجاح فیها مجرد واحد بالمائة! فهل مصیر شعب لازال یضخ دماء وآلاماً وأوجاعاً منذ مائة عام ان یصبح محطة تجارب رخیصة لقیادة لا تجید 'غیر النذالة الحضاریة' فی مناوراتها وتنازلاتها ومفاوضاتها. هل تذهب قیادة ـ أی قیادة- الى آخر الدنیا لکی تضع شعبها امام مرحلة تجریبیة اخرى؟
لابدّ ان ذاکرة الفلسطینیین تعی بوضوح ان القیادة التی ذهبت الى واشنطن فی الاسبوع الماضی، هی نفسها التی فاوضت ووقعت اتفاقیات اوسلو، وهی لا زالت تقبض على زمام الامور السیاسیة فی المسیرة الفلسطینیة منذ مؤتمر مدرید فی العام 1991. فما هو عنوان النجاحات التی حققتها هذه القیادة حتى تستمر فی تسییر الامور الفلسطینیة؟
والجواب باختصار هو إنجاز اتفاقیات اوسلو التی بلغ عددها ثمانی اتفاقیات بخلاف مذکرات التفاهم ومحاضر الاجتماعات والرسائل المتبادلة. وللعلم، فان هذه الاتفاقیات فی نصوصها الاساسیة هی صناعة اسرائیلیة بامتیاز، ولم تکن مساهمة الوفد الفلسطینی فی العملیة التفاوضیة إلاّ مساهمة هامشیة. وحاولت القیادة الفلسطینیة ستر عوراتها الفاضحة بمقولات لم یرد لها ذکر على الاطلاق فی الاتفاقیات المذکورة، فلا زالت هذه القیادة ـ والمفکرون الذین یشکلون مطبخ الافکار لها- تسوّق مقولة مؤداها ان اتفاقیات اوسلو سوف تفضی الى قیام دولة فلسطینیة، علماً بأن لا اشارة مباشرة او غیر مباشرة، ولا تفسیر لأی نص من نصوصها او تأویله ینبئ بأن مفاوضی اوسلو قد اتفقوا على مقولة الدولة، لا بل تجدر الاشارة الى ان هذه الاتفاقیات لم تورد کلمة 'احتلال' او 'انسحاب' من الاراضی المحتلة او 'حدود العام 1967' أو ـ وهذا الأهم- لم تُشِر الى 'حق تقریر المصیر للشعب الفلسطینی'، مع العلم انها اسهبت فی تحدید حجم الحرف الذی تطبع به وثیقة السفر المسماة زوراً وبهتاناً بـ'جواز السفر' الفلسطینی وذلک تضلیلاً للرأی العام الذی قد یوحى الیه ان هناک 'جنسیة فلسطینیة'، وفصّلت الاتفاقیات على نحو مملّ فی لون البنزین الذی یجب ان یباع فی مناطق السلطة الفلسطینیة، وشرحت الاجراءات التی على الشرطة الفلسطینیة اتخاذها لحمایة مستوطن اسرائیلی ضل طریقه فی مناطق السلطة او ارتکب جرماً ضد فلسطینی فی مناطق السلطة.
ونعلم ان القیادة الاسرائیلیة هی التی فرضت ان تکون المفاوضات على مرحلتین، وهی التی قسمت الاراضی المحتلة الى مناطق 'أ' و'ب' و'ج'، وهی التی حددت مراحل الانسحاب من مناطق 'ب' وتسلیمها الى السلطة الفلسطینیة وجعلتها ثلاث مراحل، وهی التی جعلت مسائل مثل القدس واللاجئین والمستوطنات والمیاه والحدود والمسائل الامنیة من مواضیع المرحلة النهائیة، وفوق ذلک کله، هی التی قررت فعلاً الاحتفاظ بالحاکم العسکری کمصدر للصلاحیات التی تمنح لسلطة الحکم الذاتی الفلسطینیة طیلة فترة المرحلتین. وها نحن نعیش ونشاهد الان ان المفاوضات انتهت مع بدء المرحلة الاولى، وقد بشّر اسحق رابین بذلک اعضاء الکنیست حین عرض علیهم اتفاقیة اعلان المبادئ. ففی 21/9/1993 خاطب رابین الکنیست قائلاً 'ان هذه الاتفاقیة [اعلان المبادئ] التی تسمح للفلسطینیین بادارة شؤونهم، قدمت الحمایة فی المسائل التالیة لاسرائیل: القدس الموحدة تظل تحت الحکم الاسرائیلی، وان المستوطنات فی یهودا والسامرة وغزة ستظل تحت الحکم الاسرائیلی بدون ای تغییر فی وضعها، وسوف یظل جیش الدفاع الاسرائیلی المسؤول عن امن المستوطنات فی المناطق، واحتفظت الحکومة الاسرائیلیة بحریة تقریر موقفها من الحل النهائی. وهذا یعنی ان اعلان المبادئ یترک جمیع الخیارات مفتوحة'. واختتم حدیثه بالقول 'انی ارید ان اخبرکم ان هذا انتصار للصهیونیة'. واذا کان هذا القول یتفق وتطورات الامور التالیة، فانه یجب الاشارة الى ان اسرائیل فشلت فی استکمال مراحل الانسحاب وبدأت عملیة تهوید القدس وهدم منازلها واعلنت ان لا عودة للاجئین، وتموت الاراضی المحتلة عطشاً بسبب قیام المستوطنین بمصادرة مصادر المیاه ولا سیما الحوض الشمالی، وفهمت المسائل الامنیة على انها تحویل اجهزة الشرطة الفلسطینیة الى حماة للمستوطنین ودوریات الجیش. وقد اختصر الاخ محمود عباس الوضع فی مقابلة تلفزیونیة حدیثة بقوله انه لا یستطیع ان یغادر منزله او مکتبه الى خارج الاراضی المحتلة بدون اذن سلطة الاحتلال. وزاد الطین بلّه، على ضوء الانقسام المعیب بین فتح وحماس، والذی یتحمل الطرفان المسؤولیة عنه، ان اصبحت اجهزة الامن الفلسطینیة تحت سیطرة الجنرال دایتون الذی قال فی خطاب حدیث له ان لا شیء یجری فی هذه الاجهزة بدون موافقة الاسرائیلیین والامریکیین. هکذا انتهت القضیة الفلسطینیة وتشرذمت على ید قیادة اوسلو.
فاذا لم تستطع اسرائیل الوفاء بالتزامات من وضعها وصناعتها هی، فعلى ماذا یتفاوض الفلسطینیون الذاهبون الى واشنطن؟ ومع من یتفاوضون؟ وکیف یطمئن المفاوض الفلسطینی الى ان الاسرائیلیین سوف یحترمون التزاماتهم على ضوء تجربة اتفاقیات اوسلو؟ وهل یظن المفاوض الفلسطینی ان بنیامین نتنیاهو هو اکثر مصداقیة وافضل سلوکاً واسلم طویة من اسحق رابین وشمعون بیرس؟ ان مجرد وضعه لشرط الاعتراف الفلسطینی بیهودیة الدولة هو ـ بحد ذاته- لطمة على الخدّین، لأنه لن ینتظر الى ان یدیر المفاوض الفلسطینی له خده الأیسر.
ویخرج علینا الاخ صائب عریقات بتهدید (ولا ادری لمن یوجه هذا التهدید) انه اذا لم یتم تقدم فی المفاوضات فان السلطة تفقد مبرر وجودها وانها سوف تحلّ نفسها. فان کان هذا القول صادقاً ـ وهو فی الواقع بشرى- فهل یقدم لشعبه موعداً محدداً یعتبر فیه المفاوضات قد وصلت الى الحائط المسدود، وان السلطة قررت حلّ نفسها فی الیوم التالی. وقد سبق للأخ عریقات ان قال کلاماً مماثلاً، کما قاله الاخ ابو مازن، وقد ردت علیه هیلاری کلینتون یومها بصفعة قاسیة حین قالت انها سوف تتعامل مع من یکون فی مرکز القیادة، فهل یرید صائب عریقات ان یسمع کلاماً (او صفعة) مماثلاً؟
وربما یکون من الأهم الاشارة الى ان القیادة التی تفرض نفسها على شعبها وتذهب الى واشنطن للتفاوض على اعقد المسائل القائمة بین الفلسطینیین والاسرائیلیین، هی قیادة انتهت صلاحیتها منذ مطلع هذا العام، وفقدت شرعیتها، فالاخ ابو مازن أقرّ واعترف قبیل انتهاء ولایته بأنه سوف لن یجدد ولن یمدد، ثم قرر اجراء انتخابات رئاسیة وتشریعیة معاً، واعتذرت لجنة الانتخابات عن تنفیذ قرار الرئیس لاستحالة تنفیذه فی قطاع غزة، واصبح المجلس التشریعی فاقد الصلاحیة کذلک بانتهاء مدته، واللجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر الفلسطینیة لم یکتمل نصابها فی اجتماعها الاخیر قبل رحلة واشنطن، حیث لم یوافق على الذهاب الا خمسة اعضاء من مجموع الحضور الذی بلغ تسعة اعضاء بینما یجب ان یکون النصاب القانونی للاجتماع إثنی عشر عضواً، والمجلس المرکزی لم یتخذ قراراً بالذهاب الى واشنطن ولم یفوّض احداً بالذهاب، والحکومة المقالة فی غزة تعارض المفاوضات بدون تحدید المرجعیات ووقف الاستیطان، وتتبنّى ذات الموقف بعض الفصائل داخل اطار منظمة التحریر وخارجه. وقد فضح نبیل عمرو، عضو المجلس المرکزی للمنظمة وقیادی بارز فی فتح، ان الرئیس عباس اتخذ قراراً بالذهاب للمفاوضات، وان ما یجری حالیاً هو 'البحث عن أغطیه..'(القدس العربی 16/8/2010) فالقرار اذن قرار فردی (کما هی العادة، سابقة تقریر غولدستون مجرد مثال) اتخذه الاخ ابو مازن بنفسه فمن أین جاء المفاوض الفلسطینی بالشرعیة التی تفوضه بالحدیث باسم الشعب الفلسطینی والاتفاق باسمه على قضایا مصیریة؟ وکیف یجرؤ هذا الوفد بحق تمثیل الشعب الفلسطینی والتطاول على حقوقه الثابتة والمساومة علیها؟
ان الوفد الذی ذهب الى واشنطن والوفد الذی سوف یجلس للتفاوض مع الاسرائیلیین (اذا جلس وفاوض)، لا شرعیة له بالمطلق، فهو لا یملک الشرعیة الثوریة ولا یملک الشرعیة الدستوریة طبقاً للقانون الاساسی الفلسطینی. ان الغطاء الذی تقدمه الادارة الامیرکیة او اللجنة الرباعیة او لجنة الجامعة العربیة الى القیادة الفلسطینیة هو غطاء لا یستر حتى عورات هذه اللجان، وهو غطاء لا یمکن ان یخفی حقیقة اصلیة وأصیلة وهی ان هذه القیادة لا تملک حق التفاوض او التوقیع على اتفاقیات مع سلطات الاحتلال باسم الشعب الفلسطینی، وان وقعت فهی اتفاقیات غیر ملزمة، وباطلة بطلاناً مطلقاً وذلک على سند من احکام اتفاقیات جنیف للعام 1949.
وما قاله الرئیس الایرانی محمود احمدی نجاد فی عدم صلاحیة القیادة الفلسطینیة وعدم شرعیتها فی التفاوض اصاب الحقیقة، وموقفه یتفق وصحیح القانون الدولی والفلسطینی، وردة الفعل البذیئة التی ردت بها القیادة الفلسطینیة على اقوال الرئیس الایرانی لا مبرر لها، بل کانت ردة فعل فیها فجاجة لا تلیق برئیس دولة انتخب حدیثاً بفارق (13) ملیون صوت عن المرشح الثانی للرئاسة الایرانیة، ویرأس دولة هی آخر قلاع الدفاع عن القدس وفلسطین، بل الصوت الوحید تقریباً الذی لازال عالیاً فی الدفاع عن قضیة فلسطین بدون احراج او تبریر او خجل. ویوم القدس الذی کرس له یوم الجمعة الاخیر فی رمضان هو تذکیر لکل من نسی ذکر القدس وفلسطین. هناک فارق آخر مهم بین قیادة فلسطینیة طورت أنظمة للفساد والنذالة الحضاریة، وبین قیادة ایرانیة تبنی قواها الذاتیة الى ان اصبحت تزاحم دور الدولة الکبرى فی الاقلیم، فقلیلاً من الحیاء والتواضع ایها الناطقون باسم القیادة الفلسطینیة. ولیتکم تقولون لشعبکم: ما هی صلاحیتکم للتفاوض باسمه، وعلى ماذا تتفاوضون بدلاً من التطاول على دولة وشعب اثبت ولاءه للقضیة الفلسطینیة رغم ما یحاول مراهقو السیاسة ان ینشروه فی اجوائنا.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS