ماذا یعنی الاستیطان للعقل الصهیونی؟
ماذا یعنی الاستیطان للعقل الصهیونی؟
مطاع صفدی
ما یثیر بعض المراقبین الغربیین فی تطورات الحالة العربیة إزاء التحدیات الإسرائیلیة لأبسط معانی العلاقات الدولیة المفترض قیامها خاصة خلال أزمات خاضعة لمنطقین متناقضین إما المفاوضات أو الإنفجار، هو أن الدبلوماسیة الإسرائیلیة لا تکاد تقیم وزناً ما، لیس لخصمها العربی فحسب، بل للقوى الکبرى التی أنشأت دولتها وحفظتها فی بحر من الأعداء (المفترضین) حولها.
فإسرائیل الإبنة المدللة للغرب، یحق لها أحیاناً التمرد على إرادة مجتمعه الدولی. وطیلة عقود متوالیة من عمرها الحدیث کان موقع إسرائیل یتردد بین جهتین بالنسبة للقانون الدولی. فهی غالباً ما یکون موقعها فوق القانون، وأحیاناً خارج القانون. کل القرارات الصادرة عن جمعیة الأمم المتحدة، أو عن مجالسها، وخاصة مجلس الأمن، فیما یخص رد بعض حقوق الفلسطینیین المنتهکة، أو إعادة الأرض المحتلة إلى بلدانها العربیة المجاورة، أو التقیُّد بحدودها حسب خارطة التقسیم.. هذه القرارات العالمیة لا تعنی شیئاً لمختلف قادة إسرائیل، ما جعل الدولة تحتل موقعها الدائم ما فوق القانون، عن جدارة تحسدها علیها بقیة دول العالم الثالث الناشئة، المطواعة دائماً، حتى للإمبراطوریات القدیمة المتقاعدة، التی کانت استعمرتها ثم أورثتها لإمبراطوریة الاستعمار الکونی أمریکا.
لکن إسرائیل الأخیرة قفزت من موقعها ما فوق القانون، لتصبح خارجة (على) القانون، هکذا دفعة واحدة، ما أن ضربت بعرض الحائط الإرادة الدولیة المجمعة على فرض صیغة ما للسلام، لإنهاء بؤرة الاضطراب العالمی، الناجمة عن الصراع العربی الإسرائیلی عامة، والفلسطینی خاصة منه، وذلک بحسب الخلاصة النهائیة التی نجح فی الإقرار بها بعض الفریق المتحرر من مستشاری أوباما. فإن إغلاق موارد الإرهاب، الذی هو الهم الأمنی المرکزی لأمریکا لن یتحقق إلا بحل المعضلة الشرق الأوسطیة. الأمر الذی یوحی بتوفر تصمیم یمکن وصفه بالاستراتیجی فی شرعة أوباما الجدیدة، تصمیم لم ترده أو لم تقدر علیه عهود رئاسیة متعددة سابقة. لکن تبقى تلک القاعدة الخبیثة التی تمیز دائماً بین النوایا والإرادات الفعلیة. فما المقصود حقاً بحل المعضلة الشرق أوسطیة. ألم تکن الحروب ثم الانتفاضات، وإعادة الاحتلالات لبقایا الوطن الفلسطینی وأعمال القتل والتشرید والهدم، وکل صنوف التعذیب والاضطهاد واللصوصیة المکشوفة؛ ألم تکن من وسائل الإنتهاء من المعضلة الشرق الأوسطیة، لکنها تلک الأدوات الفاشلة والمضاعفة لحجم المعضلة التی ینبغی النداء علیها باسمها الحقیقی أخیراً، وهی أنها معضلة الفضیحة الدائمة لأسطورة المجتمع الدولی وأسیاده الحقیقیین، فی کل ما یدعیه من مصطلحات حقوق الإنسان والشعوب، ومثل العدالة والحریة أمام القانون العام. فلیس الموضوع فی الاستهتار بالحدود الدنیا لسلطة الشرعیة الإنسانیة ما فوق المشروعیة الدولیة الخائبة والزائفة فی مختلف تجاربها، بل هو فی المآل المتحصل عن تعایش السیاسة العالمیة مع هذه التعارضات المتفاقمة المتراکمة لکی تنفجر فیما بعد بأکبر الأزمات الکونیة.
الرفض الإسرائیلی الحالی لوقف الاستیطان منسجم تماماً مع صلب مشروعها الموافَق علیه أصلاً والمنفَّذ من قبل الشرعیة الدولیة، وبأدواتها العنفیة المطلقة، وتحت قیادة کبارها. هذه الشرعیة هی التی أعطت الیهود (حق) استعمار فلسطین، وإن کانت حددت لهم مساحة معینة منه، غیر أن المبدأ هو الموافق علیه أصلاً. إن الاستیلاء المنظم على وطن شعب آخر، لا یسوغه أی قانون، ولا تدعمه أیة حجة واقعیة، سوى التجمل بأساطیر بعض الکتب الدینیة. لکن الغرب أراده وصممه وهو یعتقد جازماً أن هذه الدویلة، إسرائیل، ستکون امتداداً لکیانه واختراقاً فاعلاً فی عمق المشرق العربی، کتعویض عن جلاء استعماره السابق عنه، وکحاجز جغرافی بشری غریب مانع لأی تواصل حیوی بین مشرق ومغرب الوطن العربی.
غیر أن إسرائیل صدقت أنها دولة حقیقیة، وأنها لیست مجرد کیان فی خدمة وظیفة جیو-سیاسیة لمصالح دول أخرى. وقد راح اعتقادها ذاک بـ (أصالة) مشروعها، یتضاعف بعد سلسلة حروبها الناجحة مع دول جوارها، حتى ترسخت ثقتها بتفوقها المستمر على کافة القوى العربیة. لکن هزیمة واحدة فقط حققها فصیل مقاوم من لبنان أطاحت بأسطورة جیشها الذی لا یُغلب. وهو الأمر الذی أفقد إسرائیل دفعة واحدة إحساسها بمناعة مستقبلها، وبالتالی یهتز مبدأ القوة الذی تعتمده أساساً لوجودها؛ لا مفر إذن من العدوان المباح، وممارسة تفوقها العسکری والأمنی على الشعب الفلسطینی الأعزل، وابتلاع ما أمکنها من أراضیه وعمرانه. فالاستیطان المتسارع لبقیة فلسطین، قد یعوض عن اندثار مشروع إسرائیل الکبرى فیما یتجاوز حدود فلسطین التاریخیة. وفی الوقت عینه یطیح بحلم الدولة الفلسطینیة، یفقدها ما تبقى من جغرافیة أرضها الأصلیة.
ذلک مما یجعل أکثریة القوى السیاسیة فی إسرائیل داعمةً، بصیغ مختلفة، لمرحلة الهجوم بالاستیطان المکثف على کل ما یمکن نهبُهُ بشتى صنوف العدوان المباشر أو التحایل القانونی؛ کأنما عام النکبة الأولى (1948)، عائد بکل شروره، مضافاً إلیها عنف الخوف الهائل من ضیاع ستین عاماً من عمر الکیان الإسرائیلی المصطنع هباءً منثوراً، کما لو أنه لم یوجد إلا کخرافة تلمودیة عابرة.
ذلک الخوف شبه المیتافیزیقی لیس له ما یبرره عاجلاً على الأقل، إلا تحت تأثیر أیدیولوجیا الترهیب المعتادة، والوعید- التلمودی کذلک- بالکارثة النهائیة، المصاحبة لنشأة الکیان، والتی تبثها الأحزاب، ومعها صهاینة المستعمرات، والشلل المتدینة، وترعاها التربیة الممنهجة فی المدارس والجامعات. فالتوعیة الجماهیریة، بهواجس الأمن وأشباح الکارثیات الغیبیة، ماضیاً ومستقبلاً، موکول إلیها صناعة العقل الصهیونی، وتزویده بمسوغات ثقافة العنف وإسقاطها على (الآخر). أی الفلسطینی والعربی؛ فهما هدفا التصویب العدوانی المعمم یومیاً، وإثر کل واقعة سیاسیة أو مدنیة أو أمنیة، تحدث إزاء أحدهما، أو هما معاً.
نرید القول أن الاستیطان لیس مشکلة، من نوع العلاقات العامة، التی یمکن التفاوض حولها بغایة التوقف المؤقت أو الإلغاء. العقل الصهیونی یعتبر التخلی عن الاستیطان هو قتل للکیان الإسرائیلی، الذی حیاته فی نموه المستدیم، وموته المحقق فی تجمید حجمه الذی یأبى کل تحدید لخارطته الجغرافیة غیر الرسمیة حتى الیوم. فإسرائیل ولدت لکی تتجاوز کل حدود حولها. تلک هی عقدة الدوغما الصهیونیة المعبرة حرفیاً وأسطوریاً عن إستراتیجیة الدعوة إلى تهوید الدولة ومجتمعها معها. إذ أن التهوید لا یعنی فقط إعادة تنظیف لعنصریة خالصة ممتنعة عن کل انفتاح أو تفاعل مع الآخر؛ فهی لا تتوقف عند إنجاز ترحیل کل الفلسطینیین، ما وراء الخط الأخضر، وما هو أمامه کذلک، أی ابتلاع (الضفة) بکاملها، لکنه حراک مخیالیّ، طامح إلى إنتاج أشکال أخرى من التهوید المعمم، لا تعتمد الانتشار السکانی وحده، بل هو التهوید السیاسی والاقتصادی والثقافی، المصدر إلى المحیط العربی فالإسلامی، ومنه إلى أوسع نطاق أُممیّ من العالم الثالث، آسیویاً وأفریقیاً معاً.
إسرائیل ماضیة فی إعادة تشکیل هیکلتها الدولتیة وشخصیتها المفهومیة، إنطلاقاً من هجرتها العقائدیة، من دولة علمانیة إلى ما یشبه دولة کهنوتیة، وعاصمة بابویة یهودیة جدیدة قائدة لأتباعها فی کل مکان؛ وسوف تبقى قارة العرب والإسلام هی المساحة العالمیة الأقرب إلى تلقی تمارین الإستراتجیة التهویدیة ذات التوجه نحو الشرق الجدید الصاعد، بعد أن تم للصهیونیة استنفاد واستهلاک رأسمالیة الغرب، والتیقن من انحدارها نحو الأفول المحتوم؛ ذلک السیناریو لیس خرافیاً، بالنسبة لمنطق تلمودی محقِّقٍ لانتصارات باهرة عبر استغلاله لتحالفه القسری أو الضمنی مع قادة المال والسیاسة، فی مختلف مراحل نهضة الحضارة والقوة فی أوربا ومن ثم فی أمریکا.
لیس هذا السیناریو من صنع أحلام تراود عقول البعض من أحبار اللاهوت الیهودی، الموصوفین بالمتطرفین، ولا لنقیضهم من بعض أعداء السامیة بحسب التصنیف الصهیونی السائد، فلقد أصبحت معانیه ونماذجه العملیة والنظریة، شائعة ومتداولة سواء فی کتابات نقدیة علمیة، للفئة المعروفة باسم المؤرخین الجدد من الإسرائیلیین أنفسهم، أو من قبل مفکرین عالمیین یهوداً أو سواهم، تجتذبهم قضایا الصلات العمیقة المترسخة بین عمالقة الصیرفة المالیة وتحولات أسواق الإنتاج والتبادل على المستوى العالمی.
فلقد کانت البنوک الکبرى المملوکة یهودیاً غالباً، وراء أخطر الأزمات الاقتصادیة، ابتداء من الکساد العالی لثلاثینیات القرن الماضی وصولاً إلى مسلسل الأزمات المتلاحقة لأمریکا منذ الثمانینات حتى الکارثة العظمى الحالیة.
الوجه الآخر لهذه الرأسمالیة الغربیة المترنحة، ومعها مؤسسات التمویل المحتکرة لصفقاتها الکبرى، هی الفعالیة التنفیذیة المسماة بالسیاسة الدولیة، ومخططاتها الجیوسیاسیة المسیطرة على علاقات الأمم العظمى والصغرى فیما بینها. ومن الواضح أن السلاح الأخیر لرأسمالیة الغرب، هی القوة العسکریة الهائلة التی تتمتع بها إمبراطوریة أمریکا. لکن هذه الإمبراطوریة أمست تترنح أمام السور العظیم لآسیا الناهضة الذی تحرسه البوابة العربیة والإسلامیة.
فلسطین لن تبقى مزرعة استیطان مشرّعة أمام کل من هب ودب من صهاینة ماوراء المحیطات. والبابویة الیهودیة التی یحلم بها حکام إسرائیل من وراء شعار التهوید لکل فلسطین، لیست سوى أسطورة تلمودیة جدیدة، تمهد السبل أمام حراک تهویدی ضمنی، سوف یستوعب معظم السیاسات الاقتصادیة للنظام العربی الحاکم، وذلک بإنحرافه أکثر فأکثر فی شبکیات اللیبرالیة الفالتة من کل رقابة عمومیة، والناشرة لوباء الفساد/الإفساد کأحدث (أخلاقیة) عصریة لأجیال مجتمعاته الحاکمة والمحکومة معاً.
الفیل الأمریکی الذی یمتطیه القرد الصهیونی، ویهاجم به کل أعدائه فی الغابة الإنسانیة، یخوض معرکة الذروة فی تمکین إسرائیل من ابتلاع فلسطین، وإقامة بابویة یهودیة على حطام ذاکرة فلسطینیة منطفئة، والانطلاق منها، بمساعدة الفیل الأمریکی طبعاً، نحو الاستیعاب الشامل لمستقبل الاستقلال العربی، وعزل رموزه الأخیرة عن ملکیته لقراره السیاسی، کما لمفاتیح الخزان الهائل لثروة النفط المغذیة للطاقة العالمیة إلى ألف عام قادم على الأقل.
تهوید فلسطین لیس نهایة لقضیتها العربیة فقط، بل هو المدخل إلى ماکرو استراتیجیة کونیة، عنوانها السؤال الآتی: کیف یمکن ضبط انطلاقة رأسمالیات الشرق، غیر المتهودة تماماً بعد، من دون استعادة الرقابة الغربیة التامة على إستراتجیة النفط العربی، وذلک بفرض شراکة سلطویة لنظام شرق أوسط (عربی یهودی) یکون قادراً على تقنین التغذیة الحیویة لمستقبل هذه الرأسمالیات الشرقیة المرشحة لقیادة عالم الغد..
أیة مهمات تنتظر قیام البابویة الیهودیة المستعدة وحدها لصناعة حکومة الشرق الأوسط الجدید.!
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS