الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الجبایة الفلسطینیة فی إطارها السیاسی

 

الجبایة الفلسطینیة فی إطارها السیاسی

 

نقولا ناصر

 

إن الاقتطاع من رواتب موظفی سلطة الحکم الذاتی فی رام الله للمساهمة فی تسدید فاتورة الکهرباء فی قطاع غزة، وتخییر حوالی ستة آلاف من موظفی هذه الحکومة بین العودة إلى القطاع وبین قطع رواتبهم، وتفعیل هذه الحکومة للمادة "20" من قانون ضریبة الأبنیة والأراضی داخل مناطق البلدیات لإعادة التخمین الشامل کل خمس سنوات، وتنشیط عمل "الضابطة الجمرکیة" على محاور الحرکة التجاریة بالضفة الغربیة هی أحدث أربعة عناوین لتحسین الجبایة التی جعلت رئیس حکومة تسییر الأعمال د. سلام فیاض جدیرا بإشادة البنک الدولی وصندوق النقد الدولی، بغض النظر عن السیاق السیاسی لهذه السیاسات المالیة التی تجری فی إطار إعفاء دولة الاحتلال الإسرائیلی من التزاماتها بموجب القانون الدولی کقوة قائمة بالاحتلال وعن إرهاق المواطن الفلسطینی تحت الاحتلال بالمزید من الأعباء الاقتصادیة، دون أن یجد هذا المواطن "یسارا" أو "یمینا" وطنیا یعبر فی الأقل عن احتجاجه على هذه السیاسات التی یوصی بها البنک وصندوق النقد الدولیین والتی جأرت شعوب الأرض بالشکوى المرة من جورها الذی یضاعف الاحتلال من آثاره على الطبقات المستضعفة فی الحالة الفلسطینیة.

وقد التقط فیاض إشادة البنک الدولی بحکومته أواسط الشهر الماضی بسبب "أدائها الحالی" لأنها إذا استمرت فیه "ستکون فی موقف یمکنها من إقامة دولة فی أی مرحلة فی المستقبل القریب" کما جاء فی تقریر للبنک، فاعتبرها وحکومته وقیادتهما شهادة تقدیر لهم و"شهادة حسن سلوک وطنیة" تسوغ لهم مواصلة تحدی الاجماع الوطنی على رفض استمرارهم فی الإذعان للشروط الإسرائیلیة – الأمریکیة لمواصلة المفاوضات مع دولة الاحتلال، بالرغم من أن تقریر البنک الدولی نفسه المشار إلیه قد أکد بأن أدائهم المالی ومعدل النمو الاقتصادی المقدر ب "8%" للسنة المالیة الجاریة یعود إلى المعونات المالیة الخارجیة وأموال المانحین المشروطة سیاسیا باستمرار المفاوضات واستمرار الاذعان لشروط دولة الاحتلال التی تبناها المانحون باعتبارها شروطا للجنة الرباعیة الدولیة، الممولة والراعیة للمفاوضات بقیادة أمریکیة.

لکن فیاض وحکومته وقیادتهما قد تجاهلوا حقائق هامة أخرى وردت فی التقریر نفسه عدا تلک الإشارة العابرة التی التقطوها بصورة انتقائیة، مثل قول التقریر إن أی نمو اقتصادی مستدیم فی الضفة الغربیة وقطاع غزة "ما یزال غائبا" وأن استمرار الاحتلال واستمرار اعتماد سلطة الحکم الذاتی على أموال المانحین لن یجعل مؤسساتها رکیزة لأی دولة یأملون فی إقامتها. واقتبس التقریر من أرقام الجهاز المرکزی للاحصاء الفلسطینی برام الله لیقدر معدلا للنمو الاقتصادی فی القطاع یفوق مثیله بالضفة مما یثیر الدهشة والاستهجان، إذ کیف یمکن أن یکون معدل النمو فی القطاع المحاصر أعلى منه فی الضفة التی تتدفق علیها أموال المانحین، وإذا صحت هذه التقدیرات فهی إما أن تکون شهادة دولیة بکفاءة الإدارة الحکومیة فی غزة التی لا یرأسها خبیر فی البنک الدولی کفیاض فی رام الله وهی إذا لم تکن صحیحة فإنها تشکک فی صدقیة التقریر ومن أصدره وتشکک بالتالی فی "شهادة التقدیر" التی تحاول حکومة فیاض انتزاعها منه بحیث لا تعود قیمتها تساوی قیمة الورق التی کتبت علیه.

غیر أن الحقیقة الأهم التی تغیبها أمثال هذه التقاریر والحکومة التی تتخذ منها شهادات تقدیر ومسوغات لها لمواصلة سیاسات مرفوضة وطنیا هی أن دولة الاحتلال الإسرائیلی خلال ما یزید على عقدین من الزمن مما یسمى "عملیة السلام" قد نجحت فی التنصل من التزاماتها کقوة محتلة بموجب القانون الدولی ونجحت فی نقل الأعباء الإداریة والمالیة المترتبة علیها نتیجة لذلک إلى سلطة الحکم الذاتی الفلسطینی لتمول هذه السلطة تلک الأعباء إما من جیوب دافع الضرائب فی الدول المانحة أو بالجبایة المرهقة من جیوب المواطنین الفلسطینیین الرازحین تحت الاحتلال.

فبعد أیام من تثبیت وقف إطلاق النار بعد العدوان الإسرائیلی الذی قاد إلى احتلال الضفة والقطاع عام 1967 أصدر مجلس الأمن الدولی فی 14 حزیران من تلک السنة قراره رقم "237" داعیا دولة الاحتلال إلى ضمان سلامة ورفاهیة وأمن "سکان المنطقة التی جرت فیها عملیات عسکریة"– طبعا على نفقتها، وفی آخر شهر شباط / فبرایر من العام التالی أصدر وزیر داخلیة دولة الاحتلال قرارا أعلن فیه أن المنطقتین لم تعودا "تحت سیطرة العدو" بل أصبحتا "من الناحیة العملیة مناطق إسرائیلیة". وحتى الیوم لم یتغیر الوضع جوهریا، إلا فی نجاح دولة الاحتلال فی نقل التزاماتها بموجب القانون الدولی وقرارات مجلس الأمن الدولی إلى سلطة حکم ذاتی فلسطینی أنیطت بها بموجب الاتفاقیات الموقعة بین منظمة التحریر الفلسطینیة وبین دولة الاحتلال المهمات التی کانت تقوم بها "الإدارة المدنیة" التی انشأها الحاکم العسکری للاحتلال.

والیوم، یکرر فیاض القول إنه یسعى إلى الاستغناء عن أموال المانحین، بحجة تعزیز الاستقلال الفلسطینی تمهیدا لإقامة دولة، لتمویل "الإدارة المدنیة بالوکالة" لأن "نجاح أی حکومة فلسطینیة یجب الا یستند الى کمیة المساعدات الخارجیة التی حصلت علیها، بل وفق کم هذه الحکومة قادرة على التخفیف من الاعتماد على هذه المساعدات"، ویسعى هو وحکومته وقیادته سعیا حثیثا ودؤوبا إلى إعفاء الدول المانحة المسؤولة منذ البدایة عن وجود دولة الاحتلال فی فلسطین وأمنها ورفاهها من تمویل الإدارة المدنیة للشعب الخاضع للاحتلال بعد أن أعفت هذه الدول دولة الاحتلال من هذا الالتزام، ویسعى، کما نقلت رویترز مؤخرا، إلى استغناء میزانیة حکومة سلطة الحکم الذاتی عن المعونات الخارجیة بحلول عام 2013، والاکتفاء بتمویل هذه المعونات للتنمیة الفلسطینیة لتظل هذه التنمیة مرتهنة للمانحین وشروطهم، والاستعاضة عنها بتحسین جمع الضرائب والجبایة الداخلیة وخفض الانفاق، لیدخل فیاض التاریخ ربما باعتباره أول من نجح فی سابقة تمویل الاحتلال من جیوب الشعب الخاضع للاحتلال.

وهذه سیاسة محکوم علیها بالفشل، ومن المؤکد أن الرد الشعبی علیها لن یطول انتظاره لأسباب وطنیة واقتصادیة على حد سواء، لیس لأن وزیر خارجیة النرویج یوناس غار شتور، الذی رأست بلاده اجتماع الدول المانحة الأخیر فی نیویورک، قال إن لحظة استغناء سلطة الحکم الذاتی عن المانحین "لم تحن بعد"، بل لأن مسعى فیاض یتناقض مع الاتجاه العام لمساهمة دور المانحین فی تعویم سلطة الحکم الذاتی وحکوماتها المتعاقبة، إذ حسب الأرقام المتوفرة، ارتفعت مساهمة هذه المعونات خلال خمسة عشر عاما من "14%" من إجمالی الدخل الوطنی عام 1994 إلى "49%" عام 2008، وبخاصة بعد استشهاد الرئیس یاسر عرفات، وعلى الأخص بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات التشریعیة للحکم الذاتی عام 2006، ومع ذلک فإن حصة الفرد من إجمالی الدخل الوطنی قد انخفضت خلال الفترة نفسها من "$ 1590" دولار عام 1994 إلى "$ 1459" دولار عام 2008، بالرغم من معدل النمو الاقتصادی المقدر البالغ "8%" فی المائة للعام الجاری، وهو تقدیر یضع سلطة الحکم الذاتی فی وضع التنافس مع الصین التی تسجل أعلى معدلات النمو الاقتصادی فی العالم منذ سنوات عدیدة، بکل ما تعنیه أی مقارنة کهذه من تضلیل إعلامی.

إن استمرار حکومة فیاض فی إرهاق کاهل المواطن الفلسطینی تحت الاحتلال بالضرائب المباشرة وغیر المباشرة على الأملاک المنقولة وغیر المنقولة وضرائب المعارف والشقق والتحسین والترمیم ورسوم سلطة الأراضی والمعاملات وطوابع الایرادات وزیادة رسوم ترخیص المرکبات، إلخ.، التی بلغت حصتها من صافی الإیرادات "الایرادات ناقص تکالیف الجبایة" حوالی "50%"، والتی لا تشمل مرافق مثل الکهرباء والماء والاتصالات السلکیة واللاسلکیة کما هو الحال فی بریطانیا وهونغ کونغ وسنغافورة، ناهیک عن استثمارات السلطة الخارجیة والداخلیة، عدا عن الشکوک المحیطة بالتحصیل من الاحتکارت التی یملکها کثیر من أرکان السلطة بسبب النفوذ الذی یتمتعون به، وفی إطار الغیاب الکامل لرقابة المؤسسات أو أی رقابة أخرى باستثناء رقابة المانحین المشبوهة سیاسیا، هی جبایة تثیر أسئلة جادة حول أهدافها السیاسیة، غیر الأهداف التی تعلنها حکومة فیاض لها، وهی جبایة ظالمة وطنیا واقتصادیا لا بد أن یکون لها ثمن سیاسی، طال الزمن أم قصر.

ن/25

 

 

 


| رمز الموضوع: 141451







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)