زعماء لا یخجلون وحقائق محتقرة
زعماء لا یخجلون وحقائق محتقرة
خلیل قانصو
یصعب النقاش، بل یستحیل إذا کنا لا نعترف بوجود حقائق بالإمکان معاینتها وملامستها، وأحیانا یمکن لنا، لو شئنا، قیاس تأثیرها وفعالیتها فی حیاتنا الیومیة. فیتحول النقاش إلى سجال الغایة منه تسجیل النقاط والإحراج والجرح لیس إلاّ.
لا أظن أننا نختلف على أن المستعمرین الإسرائیلیین بادروا فی حزیران/ یونیو 1967 إلى شن الحرب، بعد أن اتموا الإعداد لها. بمعنى أنهم کانوا یحسبون لهذه الحرب حسابها ویضعون نصب أعینهم أهدافا واضحة یبتغون بلوغها. من هذه الأهداف السیطرة على کامل فلسطین التاریخیة، بالإضافة إلى هضبة الجولان والمنطقة اللبنانیة الواقعة جنوب نهر اللیطانی شمالا وإلى شبة جزیرة سیناء جنوبا.
لا نجانب الصواب إذا قلنا ان المعطیات على أرض الواقع تؤکد أن هذا ما سعى إلیه الإسرائیلیون فعلا. الناس فی الضفة الغربیة یعیشون فی ظل الاحتلال، والمستوطنون یسحبون الأرض من تحت أقدامهم، مثلما یرتعون فی الجولان. الفلسطینیون محاصرون فی قطاع غزة. وما نعلمه عن سیناء هو ان للإسرائیلیین رأیا ونفوذا على معبر رفح، وأنهم یأخذون من آبار النفط والغاز فیها. أما المنطقة اللبنانیة الواقعة جنوب اللیطانی فلقد خرج منها الإسرائیلیون ودخلت إلیها قوات دولیة کبیرة العدد من فرنسا وایطالیا واسبانیا مزودة بأسلحة حدیثة وثقیلة، وتحظى بتغطیة بوارج حلف شمال الأطلسی التی تجوب البحر بمحاذاة المیاه الاقلیمیة اللبنانیة.
لقد حقق الإسرائیلیون هذا التمدد نتیجة لحرب حزیران/ یونیو 1967. التی ذکّرت بوضوح أن المشروع الصهیونی لم یبلغ سنة 1948 المدى، هذا من ناحیة، أما من ناحیة ثانیة فلقد بیّنت هذه الحرب بشکل قاطع، أن الأنظمة العربیة الوطنیة، وفی مقدمتها النظام الناصری فی مصر، لا تستطیع بحکم بنیتها وعقیدتها مواجهة المستعمرین الإسرائیلیین فی إطار معرکة تحریر حقیقیة، أی أنها أظهرت عجز هذه الأنظمة عن توفیر الظروف اللازمة لتوظیف کامل الطاقات الوطنیة وتطویرها وتنمیتها وتجدیدها والزج بها فی صراع مستمر ودائم ضد الاستعمار. ینبنی علیه أن الأنظمة العربیة خاضت سنة 1967 الحرب مضطرة، وأن هذه الحرب کانت آخر حروبها. بمعنى انه نتیجة لهذه الحرب استطاع الإسرائیلیون فرض میزان للقوى، هو بالکامل لصالحهم، واستطاعوا ایضا المحافظة على هذه المعادلة ومنع تکون العوامل التی من شأنها الإخلال بها.
ولکن من المرجح أن الزعماء العرب أساءوا فهم هذه الحقیقة. وفی ظنی أنهم توهموا بأن المشروع الصهیونی فی فلسطین، لیس مشروعا استعماریا، وأن اسرائیل کان یمکن أن تقبل بأن تبقى ضمن الحدود التی کانت قائمة قبل حزیران/یونیو 1967. وهنا تکمن من وجهة نظری، اشکالیة الخطاب الرسمی العربی، التی أدت إلى کل التبدلات والمتغیرات والاستدارات، حتى وصلنا إلى ما نحن علیه فی الراهن، نسمع عن 'مفاوضات' لا نعرف من یفاوض فیها من، وما هی وسائل کل طرف للضغط على الطرف الآخر وتذکیره بوجود خطوط لا یمکنه تجاوزها. بات الإنسان العربی، لا یعجب ولا یفاجأ وکأنه مخدرٌ.
فی البدء کان عنوان الخطاب الرسمی العربی، بعد هزیمة حزیران/ یونیو 1967، 'ما أخذ بالقوة لا یُسترد إلا بالقوة'. وهذا یعنی أن هذا الخطاب احتوى، باکرا على أشارات تدل على التحول الذی طرأ على الأنظمة الوطنیة نتیجة لخیبتها. ما الذی أخذ بالقوة؟ الأرض التی اغتصبت سنة 1948 لم تؤخذ إذن بالقوة؟ وبقصد الاقتضاب، لا حرج فی القول بأن النظام المصری، بعد أن أمسک الرئیس السادات بناصیة السلطة، ما لبث أن أدخل تعدیلا أساسیا على عنوان الخطاب فصار 'ما أخذ بالقوة لا یسترد بالقوة'، اعتمادا کما زعم، على العبر التی استخلصها من خلال المعارک التی دارت سنة 1973 على الجبهتین المصریة والسوریة، بهدف 'استعادة ما أخذ بالقوة' سنة 1967. ومن المعلوم أن الرئیس السادات أراد أثناء هذه الحرب أن یکون قائدا عسکریا أیضا، بمعنى أنه تدخل فی إدارتها وعزل الضباط الذین أعدوا ووضعوا الخطط لها، مثلما انفرد فی القرار السیاسی، قبلها وبعدها، وکأنه الرجل الوحید فی مصر، إلى أن أوصل المصریین وسائر العرب إلى اتفاقیة کامب دیفید، التی وقّع علیها فی 17 أیلول/سبتمبر 1978 إلى جانب رئیس الوزراء الإسرائیلی بیغن، أحد تلامذة الزعیم الفاشی الإیطالی موسولینی.
لا شک أن الرئیس المصری السادات استهل، عملیا، مرحلة ما بعد حرب حزیران/یونیو 1967. وسِمتها الرئیسة، هی خروج مصر من الصف العربی فی مواجهة اسرائیل. نجم عن ذلک خلل کبیر، تمثل بتنامی النفوذ السعودی خصوصا، وامارات الخلیج العربی النفطیة عموما. ولکن إذا أخذنا بالحسبان ما للولایات المتحدة الأمریکیة من سطوة وسلطان فی الجزیرة العربیة والخلیج، فان ذلک النفوذ وفّر لها، وما زال، تسهیلات هائلة على الساحة العربیة، بلغت حد العجب العجاب، لاسیما عندما سارت الجیوش العربیة من المغرب والمشرق فی العام 1991، خلف رایتها لمحاربة العراق.
وما أن انتهت هذه الحرب ضد العراق، التی عُرفت بحرب الخلیج الثانیة، إشارة إلى حرب الخلیج الأولى التی دارت رحاها بین العامین 1980ـ1988، وکان العراق فیها رأس حربة ضد ایران، بدعم أمریکی وأوروبی وعربی واسع، حتى تقاطر ممثلو الأنظمة العربیة فی تشرین الثانی/نوفمبر 1991 إلى مؤتمر مدرید، آملین باستعادة 'ما أخذ بالقوة' مقابل اعترافهم بوجود دولة اسرائیل ضمن حدود الهدنة التی توقفت بموجبها حرب 1948.
ولا زلنا نذکر جمیعا، أجواء التفاؤل والغبطة التی ألقت بظلالها بعد مؤتمر مدرید، واندفاع الأنظمة العربیة للدخول فی مفاوضات ثنائیة، تقابل فیها کل نظام عربی منفردا من جهة، مع الطرف الإسرائیلی من جهة ثانیة. ولم یمض وقت طویل على انتهاء مؤتمر مدرید، حتى تناهى إلى الأسماع أن مباحثات ثنائیة أیضا جرت فی أوسلو بعیدا عن الأضواء، بین ممثلی منظمة التحریر الفلسطینیة ومندوبی الحکومة الإسرائیلیة، وأن الطرفین توصلا إلى اتفاقیة یتخلى بموجبها الفلسطینیون عن حقوقهم ومطالبهم فی الجزء الذی احتل سنة 1948 من بلدهم، مقابل وعد بانسحاب الإسرائیلیین من الضفة الغربیة وقطاع غزة، وإقامة دولة فلسطینیة مستقلة فی هاتین المنطقتین الفلسطینیتین، على 22 بالمئة من مساحة فلسطین، وطی صفحة الصراع الفلسطینی الاسرائیلی نهائیا، أی غض النظر عن الطبیعة الاستعماریة للکیان الإسرائیلی، کما لو أن ذلک یغیّر شیئا من هذه الطبیعة أو أن هذا السلوک یصون الذین اختاروه من عسف المستعمرین الغریزی.
تم التوقیع على اتفاقیة أوسلو فی حدیقة البیت الأمریکی فی 13 أیلول/سبتمبر 1993. ولکن المعطیات على الارض تتلاحق منذ ذلک التاریخ، وتُخیّب جمیعها کل المساعی التی بذلها القائمون على منظمة التحریر الفلسطینیة، وأکاد أقول انها تقطع الأمل فی استعادة الضفة الغربیة وقطاع غزة. اتضح ذلک بجلاء وأغلب الظن أن السید عرفات أحس بمرارة خیبة الأمل وبفداحة الخطأ الذی وقع فیه أثناء المباحثات التی دعی إلیها فی العام 2000، فی کامب دیفید مع رئیس الوزراء الإسرائیلی وتحت الضغوط الأمریکیة. کان کامب دیفید الفلسطینی فجیعة بالنسبة للذین راهنوا ولا زالوا یراهنون، للأسف، على المفاوضات مع الإسرائیلیین، رغم أن المستوطنات والطرق الالتفافیة والمناطق العسکریة، باتت تشغل 45 بالمئة من مساحة الضفة الغربیة. هذا یعنی أنه تجری، على الأرجح، فی الضفة الغربیة تدریجیا، عملیة إجلاء وتجمیع للفلسطینیین على مساحة تضیق شیئا فشیئا، ولیس مستبعدا، إذا استمر الإسرائیلیون على هذا المنوال، أن تتحول المناطق المتبقیة للفلسطینیین فی الضفة الغربیة إلى مخیم کبیر مکتظ بالسکان مماثل لقطاع غزة.
وجملة القول ان الأنظمة العربیة التی هربت من تحمل مسؤولیاتها لیس فقط فیما یتعلق بالدفاع عن حقوق الفلسطینیین فی أرضهم، ولکن أیضا، فی الدفاع عن الأقطار الواقعة تحت سلطتها، وإخفاقها شر إخفاق فی التصدی للعدوان الإسرائیلی فی حزیران/یونیو 1967 کانت شدیدة الحساسیة بعد هزیمتها، فرفضت النقد والمطالب بتغییر بنیتها المهشمة، وقاومت فی أوطانها بشراسة قل نظیرها الحرکات الوطنیة الجماهیریة التی کانت تتلمس بدائل للخروج من المأزق الخانق.
لم تسترجع العرب الأرض التی 'أخذت بالقوة'. ولم یقبل الإسرائیلیون مقایضة هذه الأرض، بتطبیع العلاقات بینهم وبین الدول العربیة، کما جاء فی اعلان 'المبادرة العربیة للسلام' فی مؤتمر القمة المنعقد فی بیروت فی 28 ایار/مایو 2002. ولعل سبب ذلک هو أن غالبیة الأنظمة العربیة خرقت بنفسها هذه 'المبادرة' وأقامت علاقات بینها وبین الکیان الاسرائیلی، من دون أن تضع شروطا على الإسرائیلیین. ولکن، ربما یکون السبب الأهم، هو أن هذه الأنظمة التی حافظت على بنیتها الهشة، والتی لم یعد یدعم رکائزها إلا جهاز الأمن، باتت توظف کل قدراتها العسکریة، وهی متواضعة جدا قیاسا، بقدرات اسرائیل، فی الداخل، لحمایة نفسها وتأمین بقائها. وبناء علیه، فانها لا تملک أن تمنح إسرائیل السلام لأنها لا تستطیع أن تمنعه عنها. وبکلام صریح، لماذا تنسحب اسرائیل من الأراضی التی تحتلها إذا کان لیس بمقدور الأنظمة العربیة أخذ شیء منها بالقوة أو بأی وسیلة أخرى.
ولا بد هنا، من التأکید على أن وجود هذه الأنظمة ودوام سلطتها القمعیة، یمثلان خدمة جلیلة للمستعمرین الإسرائیلیین، بما ینتج عنهما من انقسامات فی المجتمع ومن اضعاف للقوى الوطنیة والفکر السیاسی والحرکات النضالیة. بمعنى اوضح، أن هذه الأنظمة العربیة عطلت الإنتاج والبناء، وخربت مؤسسات الدولة، وبشکل خاص قطاع التعلیم والتربیة خوفا من تنامی الوعی وتزاید اصحاب الکفاءات وأجبرت الکثیرین على الهجرة، فجعلت بینهم وبین أبناء وطنهم هوة تتعمق بمرور الزمن لاختلاف ظروف العیش فی المهجر أو المنفى من جهة، وفی الوطن الأصلی من جهة ثانیة. فصار الوطن کیانا عتیقا ینقصه الترمیم والإصلاح، ولکن السلطة ترفض الترخیص بمباشرة العمل فیه.
ان تجلیات هذه الحال العربیة العبثیة کثیرة وتکاد لا تحصى، وتناولها یحتاج إلى تفاصیل یضیق هذا الموضع عنها. ولعل ما یهم فی هذا الوقت وما یشغل الناس أمران یعکسان، من وجهة نظری، البؤس بکل معانیة وجوانبه.
من البدیهی أن نذکر أولا 'المفاوضات المباشرة' التی دخلت السلطة الفلسطینیة طرفا فیها من جهة إلى جانب اسرائیل والولایات المتحدة الأمریکیة وحلفائها فی أوروبا وأعوانها من الأنظمة العربیة من جهة ثانیة. وما أود أن أٌلمح إلیه هنا، لیس اختلال التوازن الفاضح بین الجانبین، ولکن أن ممثلی السلطة لا یملکون شیئا من اسباب القوة المادیة والمعنویة، التی یمکنهم بواسطتها ان یدافعوا عن مواقفهم، على افتراض أنهم ذهبوا إلى هذه المفاوضات للدفاع عن مواقف ومبادئ وثوابت، هی من صلب القضیة الوطنیة. کیف سیجبرون الإسرائیلیین وهؤلاء هم مستعمرون، على التخلی عن مناطق فلسطینیة یطمعون فیها. وهب أن هذه 'المفاوضات'، لیست 'مفاوضات'، وانما هی نوع من المساومة على صفقة تجاریة عقاریة، کما رشح من تصریح أدلى به وزیر مصری، جاء فیه ما معناه، أن تکلفة الحل الذی یمکن أن یخرج من هذه المفاوضات سوف تکون أربعین ملیار دولار، فاننا لا نعرف من هو البائع وبأیدی من توجد السلعة، أم أن العملیة لا تعدو اعطاء فدیة أو ترضیة.
أما الأمر الثانی، فهو ما یتنامى ویتناهى إلى السمع عن 'مفاوضات' ومداولات تجری فی لبنان، بین ممثلی الطوائف والمذاهب، تحت عناوین تثیر الاستغراب والدهشة، مثل 'المحکمة الدولیة' و'شهود الزور'. ولا شک، أن قرقعة السلاح التی تعلو فیه فی موازاة، المفاوضات الدائرة بین الفلسطینیین والإسرائیلیین، هی دلیل على وجود علاقة بینهما. وبتعبیر آخر، من المحتمل أن یکون موضوع المحکمة الدولیة أداة لتصعید الاحتقان المذهبی الذی یهدد خطره اللبنانیین جمیعهم. وان استخدامها فی هذا الوقت بالذات یکشف عن صلة بینها وبین 'الصفقة'، التی یجری التداول حولها بمشارکة السلطة الفلسطینیة، کما اسلفنا. لا سیما أن الراعی الحقیقی لهذه المحکمة، کما یظهر، هو الولایات المتحدة الامریکیة، التی هی فی نفس الوقت طرف فی المفاوضات مع الفلسطینیین
ومهما یکن، فإن الخطر یتهدد، أولا وأخیر، اللاجئین الفلسطینیین فی لبنان. واللاجئون هم، کما قلنا مرارا، التربة التی تحفظ فی باطنها القضیة الوطنیة الفلسطینیة، التی تلد الثوار ومقاتلی حرب التحریر. وتأسیسا علیه، یتوجب على هؤلاء اللاجئین، أخذ العبرة مما جرى لهم فی مخیم نهر البارد. لقد دُمر هذا المخیم وشرد ساکنوه، ولکن قبل ذلک اندست بین هؤلاء السکان بطرق مختلفة امور استخدم فیها الدین والتحریض المذهبی والغوایة بالمال والوعود الکاذبة، ثم وقف جمیع الافرقاء ضدهم، حکومة لبنان، وجیشه وطوائفه، وأشقاؤه العرب، وسارع أصدقاؤه الأمریکیون إلى إفراغ شحنات القنابل، فی مطار بیروت وفی وضح النهار. ولما خرج الفلسطینیون من المخیم استقبلهم الناس کما کانت القبائل تستقبل الأسرى.
ان الفلسطینیین هم أصحاب قضیة وطنیة. أما الصراعات المذهبیة التی تعتمل حول مخیماتهم وفی داخلها أحیانا، فان الغایة منها هی الإیقاع بهم فی أتونها، حتى تتلاشى قضیتهم، لذا فإن أکبر ما یخشى هو أن تشتعل نار الفتنة المذهبیة فی لبنان، وأن یُقحم اللاجئون الفلسطینیون فیها، فتتکرر مأساة نهر البارد فی کل مخیم من مخیماتهم. لیس مستبعدا أن ذلک کله، تمهید لحل یرث فیه المصریون سکان غزة ویرث الأردنیون سکان الضفة، من دون الضفة، وتتم إذابة اللاجئین الفلسطینیین فی بحر من الدماء فی لبنان.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS