"خیمة" جامعة الدول العربیة
"خیمة" جامعة الدول العربیة
وصلنا هذا المقال من السید صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن
أسفر اجتماع القمة العربیة الاستثنائیة، التی عُقدت فى مدینة سرت اللیبیة، عن خلاف حول صیغة تطویر منظومة العمل العربى المشترک. فهدف القمة الطارئة کان تطویر ما هو قائم من صیغة "الجامعة العربیة" إلا أنّ الخلافات العربیة منعت مجدداً من إحداث تطوّر مستحق منذ سنین طویلة.
فلقد مضى 65 عاماً على تأسیس جامعة الدول العربیة، ورغم کلّ المتغیّرات التی حدثت فی العالم وفی البلاد العربیة، ما زالت صیغة الجامعة على ما هی علیه، وما زالت العلاقات العربیة تراوح مکانها على الأصعدة کلِّها.
کان من المفترض أن تکون صیغة الجامعة العربیة، عند تأسیسها عام 1945، الحدّ الأدنى لما کانت تطمح إلیه شعوب المنطقة من تکامل وتفاعل بین البلدان العربیة، لکن التطوّرات الدولیة والإقلیمیة جعلت من صیغة الجامعة وکأنّها الحدّ الأقصى الممکن، بل هناک مشاریع دولیة (أمیرکیة وأوروبیة) تسعى الآن لاستبدال هذه الصیغة المحدودة من التعاون العربی بصیغ "شرق أوسطیة" تضمّ إسرائیل ودولاً غیر عربیة، ممّا یزیل الهویّة العربیة عن أیّ صیغ تعاون إقلیمی فی المستقبل.
وکم هی مصادفة محزنة أن تکون بدایة التجربة الأوروبیة قد تزامنت مع فترة تأسیس الجامعة العربیة فی منتصف الأربعینات من القرن الماضی، فإذا بدولٍ لا تجمعها ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، دول شهدت فیما بینها فی قرونٍ مختلفة حروباً دمویة طاحنة آخرها الحرب العالمیة الثانیة، تتّجه إلى أعلى مستویات الاتحاد والتعاون، بینما کان التعاون بین الدول العربیة أشبه بمؤشّرات سوق العملة، یرتفع أحیاناً لیصل إلى درجة الوحدة الاندماجیة بین بعض الأقطار، ثمّ یهبط معظم الأحیان لیصل إلى حدّ الانقسام بین الشعوب والصراعات المسلّحة على الحدود، وإلى الطلاق الشامل بین من جمعتهم فی مرحلة ماضیة صیغ وحدویة ..
التجربة الأوروبیة لم تکن حصیلة القناعة بهُویّة أوروبیة مشترکة بقدر ما کانت تسلیماً بالحاجة إلى الاتحاد والتعاون کخیار وحید أمام الدول الأوروبیة لبناء مستقبل أفضل لشعوبها، بعدما عجزت الحروب والصراعات والانقسامات عن تحقیق ذلک.
تجربة الاتحاد الأوروبی قامت على المصالح المشترکة وعلى التعاون الاقتصادی أولاً کمدخل للاتحاد الدستوری الشامل. لکن هذه التجربة قامت وما تزال على جملة عناصر وشروط کان أهمّها رفض التدخّل فی شؤون البلد الآخر، واحترام إرادة الشعوب داخل هذه البلدان، وبالانسجام بین أنظمة الحکم من حیث البناء السیاسی الدیمقراطی وأیضاً فی السمات الاقتصادیة والاجتماعیة السائدة.
أمّا تجربة جامعة الدول العربیة فکانت تسیر بحالٍ معاکس تماماً، فهذه التجربة العربیة لم تعتمد فی مسیرتها سوى على توافق المواقف السیاسیة الآنیة، أو على تحدّیات طارئة على هذا البلد أو ذاک، سرعان ما تعود العلاقات السلبیة بعدها إلى سابق عهدها.
وسیبقى واقع حال الجامعة العربیة على وضعه الراهن طالما أنّ الجامعة هی جامعة حکومات ولیست فعلاً "جامعة دول" بما هو علیه مفهوم "الدولة" من تکامل بین عناصر الشعب والأرض والحکم. فالأوضاع الراهنة فی الدول العربیة تفتقد المشارکة الشعبیة السلیمة فی صناعة القرار الوطنی، وما زالت المجتمعات العربیة تعیش الحالة القبلیة والطائفیة کمحصّلة طبیعیة لصیغ الحکم السیاسی السائدة.
لقد مارست الحکومات العربیّة، بعد نشأة جامعة الدّول العربیّة، مفهوم "الخیمة" فی العلاقات بین الدول العربیّة ولیس مفهوم "العمارة" الّذی مارسته والتزمت به دول المجموعة الأوروبیّة. ففی "خیمة" العلاقات الرّسمیّة العربیّة إمّا الاتفاق على کل شیء أو التّصارع فی "الخیمة" وهدمها على من فیها!
فی تجربة "السّوق الأوروبیّة المشترکة"، الّتی تزامنت نشأتها مع تأسیس "جامعة الدول العربیّة"، جرى تطبیق مفهوم "العمارة" التی تحتاج أوّلاً إلى أساس متین سلیم وصلب، ثمّ فی کلّ فی کل حقبة زمنیّة، وبعد توفّر ظروف وإمکانات مناسبة، یتمّ بناء الطّابق تلو الطّابق فی "عمارة" وصلت الآن إلى صیغة "الاتحاد الأوروبی" بینما یتراجع دور الجامعة العربیّة ویبقى أسیر مفهوم "خیمة الحکومات"!
وحینما یختلف الأوروبیّون، على تفاصیل "طابق" جدید فی "عمارتهم"، فإنّهم لا یهدمون "العمارة" کلّها بل یوقفون بناء هذا "الطابق" الجدید لفترة زمنیّة (کما حصل فی الاستفتاء على صیغة دستور الاتّحاد الأوروبی) إلى حین توفّر ظروف أفضل أو إعداد رسمٍ هندسیّ جدید !
أیضاً، فإنّ التجربة الأوروبیة التی أقرّتها حکومات منتخبة من شعوب دولها، تعود فی قراراتها الهامّة إلى المرجعیة الشعبیة داخل کلّ بلد أوروبی مشارک فی الاتحاد، بینما نجد على الصعید العربی أنّ جمود صیغة نظام الجامعة العربیة قد أدّى إلى تراجع العمل العربی المشترک دون أن یستند ذلک إلى مرجعیة دستوریة شعبیة، فکان صراع الحکومات واختلاف المواقف السیاسیة، إضافةً إلى جمود الأوضاع الدستوریة فی کلّ بلد عربی، دافعاً إلى تأزّم العلاقات على مستوى الشعوب أیضاً.
لکن من المهم أن نتذکّر دائماً أنّ الأوروبی "المستعمر" الذی ورث الهیمنة العثمانیة على العرب باسم الانتداب، هو الذی قام بتجزئة المنطقة العربیة إلى دولٍ متنازعة على الحدود.. ولا ننسى أیضاً أنّ الأوروبی "الدیمقراطی" قد حکم معظم البلاد العربیة بأسلوب الحکم المباشر وبصلاحیات مطلقة وبتغطیة دولیة (باسم الانتداب)، فلِمَ لم یُقِم هذا "الدیمقراطی" الأوروبی مؤسسات سیاسیة دیمقراطیة فی البلاد التی حکمها، ولِمَ حافظ (بل وشجّع) على الصراعات الداخلیة فی کلّ بلد وأبقى اقتصادیات هذه البلاد فی أقصى حالات التخلّف حتى یسهل علیه سرقة ثرواتها؟!
إنّ تطویر العلاقات العربیة/العربیة باتجاهٍ أفضل ممّا هی علیه صیغة الجامعة العربیة، أصبح یتطلّب تطویراً لصیغة أنظمة الحکم فی الداخل، وإعادة الاعتبار من جدید لمفهوم العروبة على المستوى العربی الشامل. فتحقیق أوضاع دستوریة سلیمة فی کلّ بلد عربی هو الآن المدخل الصحیح لبناء علاقات عربیة أفضل، وهو الضمان کذلک لاستمراریّة أی صیغ تعاونٍ عربیٍّ مشترک. لکن لیست المشکلة الآن فی غیاب الحیاة الدیمقراطیة السلیمة فقط، بل أیضاً فی ضعف الهُویّة العربیة المشترکة وطغیان التسمیات الطائفیة والمذهبیة والعرقیة على المجتمعات العربیة. وفی هذا الأمر تکمن مخاطر الانفجار الداخلی فی کلّ بلد عربی، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بین البلدان العربیة، بل أیضاً سیاجاً ثقافیاً.
إنّ العروبة الثقافیة الجامعة بین کلّ العرب هی حجر الزاویة فی البناء المنشود لمستقبلٍ أفضل داخل البلدان العربیة، وبین بعضها البعض.
وحینما تضعف الهُویّة العربیة فإنّ بدائلها لیست هُویّات وطنیة موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلیة من شأنها أن تأکل الأخضر والیابس معاً.
إنّ العودة العربیة للعروبة هی حاجة قصوى الآن لحمایة المجتمعات فی الداخل، ولتحصینها من هیمنة الخارج، ولبناء أسس سلیمة لتعاونٍ عربیٍّ مشترک وفعّال فی المستقبل.
إنّ العروبة المنشودة لیست دعوةً لتکرار التجارب السیاسیة والحزبیة التی جرت بأسماء قومیة فی مراحل مختلفة من القرن العشرین، بل هی عودة إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاری والثقافی الرافض للتعصّب وللعنصریة.
ومن دون عروبة جامعة لن تکون هناک جامعة عربیة، ولا أیضاً أوطان عربیة واحدة!!
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS