الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

مطاردة المعذبین شرط لوقف انتهاکات حقوق الانسان

مطاردة المعذبین شرط لوقف انتهاکات حقوق الانسان

د. سعید الشهابی

 

جلس کل من سیندی وکریج کوری فی قاعة المحکمة بمدینة حیفا على امل مقابلة قاتل ابنتهما، ریتشیل، ولکن لم یتمکنا من ذلک بسبب الحاجز البلاستیکی الذی فصل بین الطرفین. جاء الزوج والزوجة من امریکا لسبب واحد: مقاضاة سائق الجرافة الاسرائیلیة التی سحقت ابنتهما الشابة، ریتشیل، قبل سبعة اعوام، عندما اعترضت الطریق لمنعها من هدم بیوت الفلسطینیین. وسعى الوالدان طوال تلک الفترة للحصول على اجابات حول تلک الجریمة، ولکن بدون جدوى. فحکومة بلدهما رفضت مساعدتهما فی ذلک، ووجدا نفسیهما مضطرین للانفاق من جیبیهما لکشف ملابسات الجریمة. تقدم الزوجان فی 2005 بالشکوى المدنیة للمحکمة طالبین من الجانی تعویضا قدره دولار واحد مع دفع تکالیف المحکمة التی تقدر بحوالی 100 الف دولار، واستغرق انعقاد اولى الجلسات اربع سنوات، قضاها الزوجان فی التعرف على القضیة التی فقدت ریتشیل حیاتها من اجلها. وبرغم محاولات اسدال الستار على قصة تلک الشابة التی ارتبطت بـ 'حرکة التضامن مع الفلسطینیین' لوقف العدوان الاسرائیلی ضد اهل فلسطین، فقد بقیت حیة فی اذهان النشطاء والمثقفین. فقد کتب الممثل البریطانی، آلان ریکمان، مسرحیة حول قصتها، وسمیت احدى سفن الاغاثة التی تسعى لکسر حصار غزة باسمها. مع ذلک ما یزال ثمة شعور بان هذا العالم یعانی من الجبن والفشل فی القیام بمسؤولیته لوقف الاعتداءات والانتهاکات التی تمارسها الانظمة العدوانیة وفی مقدمتها الکیان الاسرائیلی. هذا الفشل هو الذی یشجع تلک الانظمة على الاستمرار فی سیاساتها غیر الانسانیة. فمثلا لم تمر سوى بضعة شهور على مقتل الآنسة ریتشیل کوری، حتى ارتکبت قوات الاحتلال الاسرائیلیة جریمة اخرى باطلاق النار على الناشط البریطانی الشاب، توم هاندل، واصابته فی رأسه. وبقی الشاب فی غیبویة لم یستیقظ منها حتى وفاته بعد تسعة شهور. وقتل قناص اسرائیلی المخرج السینمائی البریطانی، جیمس میللر، بینما کان یعد فیلما وثائقیا حول العنف الاسرائیلی. ولم تتخذ الحکومة البریطانیة اجراءات قضائیة او دبلوماسیة او اقتصادیة رادعة ضد الکیان الاسرائیلی حتى الآن.

هذه القضایا تطرح تساؤلات مهمة حول مدى استعداد العالم للتصدی للعنف الذی تمارسه انظمة الاحتلال والقمع فی عالم الیوم، الذی یدعی تطور انظمته السیاسیة والحقوقیة والقضائیة، ولکنه ما یزال عاجزا عن تحقیق عدد من الامور: اولها عولمة العدالة لتصبح قانونا دولیا یطبق على الجمیع بدون تمییز، ویساهم فی وقف الانتهاکات التی تمارس فی زمن الحرب او السلم. وکان من المفترض ان یکون تشکیل المحکمة الجنائیة الدولیة رادعا عن ارتکاب جرائم التعذیب والابادة واساءة معاملة اسرى الحرب او استهداف المدنیین. ولکن رفض التوقیع علیها من قبل بعض الدول خصوصا الولایات المتحدة الامریکیة، حال دون تلک العولمة. ومع ان هناک بعض الاجراءات والقرارات التی اتخذتها تلک المحکمة، ولکن عملها ما یزال 'انتقائیا'، وما یزال مرتکبو جرائم التعذیب او الحرب بعیدین عن سلطتها. وتتمثل انتقائیتها فی بعض جوانبها بما یجری حالیا من استهداف بعض القوى اللبنانیة فی قضیة اغتیال رئیس الوزراء السابق، رفیق الحریری واصدارها ما اصطلح على تسمیته 'القرار الظنی' وتجاهلها ممارسات المسؤولین الاسرائیلیین بحق الشعب الفلسطینی. بینما لا یتوقع رفع دعوى قضائیة ضد القوات الامریکیة التی اتهمت بممارسة التعذیب والقتل خارج القانون فی الوثائق التی بثها موقع ویکیلیکس مؤخرا. ثانیها: إصلاح النظام السیاسی العالمی الذی یتمثل بالامم المتحدة، وابعادها عن اسالیب الابتزاز وتجنب اضعافها عبر سیاسات 'التجویع' والحرمان من الدعم المالی المترتب على الدول. کما ان مجلس الامن الدولی کان، وما یزال، بحاجة للاصلاح، اذ ما تزال عضویته الدائمة محصورة على خمس دول منذ انتهاء الحرب العالمیة الثانیة. وبرغم التطورات التی حدثت فی العالم خصوصا تشکیل التکتلات الاقلیمیة کالدول الاسلامیة، وصعود نجم بعض الدول، مثل الهند والیابان، فما یزال مجلس الامن نادیا خاضعا لارادة تلک الدول. فهو یستهدف المشروع النووی الایرانی السلمی، ولکنه لم یناقش قط المشروع النووی الاسرائیلی الذی لم یخضع للرقابة الدولیة تحت اشراف الوکالة الدولیة للطاقة الذریة، والذی تحول الى مشروع تصنیع عسکری مکشوف. ثالثها: عدم التوجه لتطویر انظمة الحکم فی بعض الدول، خصوصا التی تمتلک ثروات طبیعیة کالنفط، وذلک مراعاة للمصالح الاقتصادیة. هذه الحقیقة من أشد الحقائق ایلاما، اذ ما تزال انظمة الحکم فی بعض تلک الدول خارج العصر وروحه التحرریة، وما تزال انظمة الحکم فیها محکومة بأطر من الاستبداد والدیکتاتوریة والتسلط المقیت. ومع ادراک ما یطرح حول 'الخصوصیات الثقافیة' و'الابتعاد عن التدخل المباشر فی الشؤون الداخلیة للدول' فان اصلاح الانظمة السیاسیة اصبح مطلبا لا یقل شأنا عن عولمة العدالة وحمایة حقوق الانسان. وبدلا من توجیه الارادة الدولیة لتطویر مستوى المشارکة السیاسیة فی تلک البلدان، اصبحت الاموال النفطیة وسائل فاعلة لشراء مواقف الدول والاشخاص، والتشویش على الحقائق، وابعاد الانظار عن معاناة الشعوب التی تعیش تحت الاستبداد، والممنوعة من التمتع بحقها فی تحدید مصائرها او المساهمة الفاعلة فی ادارة شؤون بلدانها. وهکذا اصبحت الدیکتاتوریة مدعومة بقوة من قبل الانظمة التی طالما بررت وجودها بانها تمثل ذروة التطور السیاسی البشری بانتهاج الدیمقراطیة واشاعة قیم المجتمع المفتوح، وانهاء ظاهرة 'المجتمعات السریة' المحکومة بانظمة استبدادیة دیکتاتوریة.

رابعها: تطبیق مستلزمات الاعلان العالمی لحقوق الانسان، وبالتحدید قرارات قمة فیینا لحقوق الانسان التی عقدت فی 1993. تلک القمة اصدرت قرارات مهمة اعتبرت مدخلا لعالم جدید تتقلص فیه انتهاکات حقوق الانسان، خصوصا فی ما یتعلق باستهداف النشطاء. کما انها قررت مبدأ جدیدا وهو 'عالمیة حقوق الانسان' وتجاوزها مبدأ 'السیادة الوطنیة'. هذا یعنی ان انتهاک حقوق الانسان یلغی تلک السیادة ویعطی الحق للدول الاخرى فی التدخل لحمایة ضحایا تلک الانتهاکات. فلا سیادة اذا تعرضت حقوق الانسان للانتهاک على ایدی مسؤولی تلک الدولة.

واذا کانت قضایا عولمة العدالة واصلاح النظام السیاسی العالمی، وانظمة الحکم المحلیة، بعیدة المدى وتنطوی على تعقیدات تتطلب جهودا کبیرة وترویجا لثقافة دولیة جدیدة، فان التصدی لانتهاکات حقوق الانسان والاعتداءات الحکومیة على طلاب الحریة والنشطاء، امر لا یحتمل التأخیر. لقد اصبحت الانتهاکات تمارس علنا، ولم یعد ممکنا احاطة الانباء حولها بالتعتیم والسریة. ففی العصر المعلوماتی الحاضر اصبح کل شیء مکشوفا، فما ان یعتقل شخص او تساء معاملته على ایدی عناصر التعذیب فی سجون بلده، حتى تصک هذه الانباء اسماع النشطاء والجهات المعنیة بتلک الحقوق. واصبحت مکاتب المنظمات الحقوقیة الدولیة مکتظة بتفصیلات التعذیب وسوء المعاملة. هذه المنظمات تبذل جهدها للکشف عن هذه الانتهاکات، واغلبها یعمل بقدر من الشفافیة والحرفیة، وان کان بعض الانظمة القمعیة قد استطاع التأثیر على بعض موظفیها من خلال الاغراءات المالیة. ومن المؤکد ان هذه الجهود تساهم بقدر ما فی تسلیط الاضواء على ما یجری فی غرف التعذیب من انتهاکات للحقوق الاساسیة للبشر، خصوصا التعذیب والمعاملة الحاطة بالکرامة الانسانیة. ولا یمکن التقلیل من شأن هذه الجهود والاصدارات خصوصا من المنظمات المعروفة مثل العفو الدولیة وهیومن رایتس ووج والهیئة الاسلامیة لحقوق الانسان، وکذلک جهود اللجنة الدولیة للصلیب الاحمر. بعض الدول اصبح یخشى من هذه التقاریر خصوصا انها تشوه صورته فی الخارج، وتلقی بظلال من الشک على مدى انسانیة مسؤولیه. غیر ان بعض الانظمة لم تعد تبدی اهتماما بهذه التقاریر والبیانات، فلم ترد علیها الا نادرا، ولم تتخذ خطوات ایجابیة لوقف المعاملة غیر الانسانیة بحق السجناء. هؤلاء المعتقلون، فی اغلب الاحیان موقوفون بسبب التعبیر عن آرائهم ازاء سیاسات القمع والاستبداد، ولیس لاسباب اخرى. مع ذلک لا بد من الاشارة الى ان المواثیق الدولیة لا تسمح بانتهاک حق ای سجین، مهما کانت التهم الموجهة الیه. فهی تعتبر المتهم بریئا حتى تثبت ادانته، وهو مبدأ ثابت یعتبر من اهم الاعمدة التی تقوم علیها العدالة. ولکن یلاحظ فی بلداننا العربیة والاسلامیة ان الاعتقال او التوقیف کثیرا ما یستعمل لمحاکمة السجین علنا خصوصا من قبل وسائل الاعلام والمسؤولین الرسمیین بذلک النظام. وفی هذه الظروف یستحیل توفیر محاکمة عادلة للمتهم. وهذا انتهاک آخر یضاف للانتهاکات الجسدیة خصوصا التعذیب.

المسألة الجوهریة هنا تتمثل بغیاب الادوات الفاعلة التی تمکن المنظمات الحقوقیة الدولیة من وقف الانتهاکات الفاضحة لحقوق الانسان. فالانظمة التی تواجه معارضة او مقاومة متواصلة تکتسب مناعة ضد هذه الادانات، وتستمر فی اسالیب قمعها. وما لم تتوفر لدى الجهات الحقوقیة الدولیة ادوات ضغط فاعلة فسوف تستمر اسالیب المعاملة السیئة ومعها التعذیب. فالحماس الذی ظهر لحقوق الانسان بعد قمة فیینا بدأ یتلاشى تدریجیا، ونجحت الحکومات فی اضعاف وجود المنظمات غیر الحکومیة وتأثیرها على آلیات الامم المتحدة التی تسعى من خلالها لمنع الانتهاکات. ونجم عن ذلک الغاء لجنة حقوق الانسان التابعة للمنظمة الدولیة واستبدالها بمجلس حقوق الانسان الذی اصبح اقل حماسا لمواجهة الانظمة القمعیة، وتقلص تأثیر المنظمات غیر الحقوقیة على مجریاته. ولذلک حان الوقت لمنظومة حقوقیة جدیدة توفر للمنظمات الدولیة القدرة على تفعیل مواقفها الهادفة لمنع الانتهاکات خصوصا فی البلدان التی تمتلک سجلا اسود فی مجال الانتهاکات، مثل 'اسرائیل' ومصر والسعودیة والبحرین. هذه الآلیات، فیما لو توفرت، سوف تتیح للمنظمات التدخل العاجل لیس لمنع الانتهاکات فحسب، بل لمساءلة المعذبین انفسهم. ان استهداف مرتکبی جرائم التعذیب امر ضروری لانجاح مهمة المنظمات الحقوقیة. فعندما اعتقلت السلطات البریطانیة فی لیلة 16 تشرین الأول/اکتوبر 1998 أوغسطو بینوشیه، بناءً على أمر قضائی إسبانی بالقبض على الدکتاتور السابق بتهمة ارتکاب جرائم ضد حقوق الإنسان فی تشیلی إبان فترة حکمه التی دامت 17 عاماً، ابتهج نشطاء حقوق الانسان، واعتبروا ذلک بدایة مهمة لحقبة جدیدة من استهداف المعذبین. وعندما صدر فی شهر کانون الاول/ دیسمبر الماضی امر توقیف من محکمة وستمنستر ضد وزیرة الخارجیة الإسرائیلیة السابقة وزعیمة حزب کادیما تسیبی لیفنی، التی کان من المقرر أن تشارک فی مؤتمر للصندوق القومی الیهودی الذی یدعم إسرائیل، تحرک اللوبی الصهیونی لتغییر مواد القانون البریطانی التی تسمح باعتقال مرتکبی جرائم الحرب. وصدرت مذکرات توقیف بحق عدد من المسؤولین الاسرائیلیین قبل ذلک. وصدرت مذکرة من المحکمة نفسها بتوقیف ایهود باراک بموجب قانون العدالة الجنائیة لعام 1988، الذی یسمح للمحاکم البریطانیة بمتابعة المتهمین بجرائم حرب حتى لو لم یکونوا بریطانیین أو مقیمین فی بریطانیا.

لا شک ان صدور مذکرات توقیف کهذه کان وسیلة فاعلة لمواجهة مرتکبی جرائم الحرب والتعذیب. ولو تکرر توقیف عدد اکبر من المتهمین بارتکاب جرائم التعذیب لشعر المسؤولون فی الانظمة القمعیة بخطر حقیقی ولاتخذوا خطوات لمنع التعذیب او التخفیف منه على الاقل. من هنا، فان المنظمات الحقوقیة لن تنجح فی مهمتها الا اذا وسعت اهتمامها وقررت ملاحقة المعذبین اینما کانوا. ویحتاج وصول رسالة المجتمع الدولی الى الانظمة التی تمارس التعذیب کسیاسة ثابتة ضد السجناء من مناوئیها لإصدار ادانات قضائیة بحق بضعة اشخاص سنویا فی محاکم محلیة ام دولیة، خصوصا المحکمة الجنائیة الدولیة.

وکانت اسبانیا وبلجیکا من بین اکثر الدول انفتاحا على هذه الفکرة، اذ تسمح قوانینها بمقاضاة مرتکبی تلک الجرائم، ولکن هناک، فی المقابل، ضغوطا من الدول ذات النفوذ لتغییر تلک القوانین ووقف استهداف المسؤولین الامنیین العاملین ضمن انظمة سیاسیة قمعیة. وبدلا من حصر نشاطها باصدار البیانات والتقاریر حول ما یتعرض له المعارضون من معاملة حاطة بالکرامة الانسانیة، فان من الاجدر بهذه المنظمات ان تلتقی على ارضیة جادة تنطلق منها مجددا لملاحقة الاشخاص الذین یثبت تورطهم سواء فی شرعنة المعاملة الحاطة بالکرامة ام التعذیب، ام فی ممارستها فعلا. اذا استطاعت تلک المنظمات ان تحدث اختراقا فی هذا الجانب، فسوف تضعف ارادة المسؤول الامنی عن القیام بتلک الممارسة. لقد اصبحت السجون (خصوصا العربیة منها) تضج بالانتهاکات والتعذیب، وحان الوقت للمنظمات الحقوقیة لاستهداف المعنیین بهذه الممارسة، سواء المسؤولین الذین یشرفون على تلک الممارسة ام الذین ینفذونها بایدیهم. وما لم یحدث ذلک فمن الاجدر للانسانیة الاعتراف بفشلها فی التصدی لانتهاکات حقوق الانسان، وعدم التلویح بها کشعارات جوفاء لا تحمی الضحایا ولا تخیف مرتکبیها.

ن/25


| رمز الموضوع: 141475







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)