إسرائیل ما بعد الحرب المقبلة
إسرائیل ما بعد الحرب المقبلة
مطاع صفدی
هل تفکر إسرائیل فی الیوم التالی على الحرب التی تستعد لها کل لحظة، وتهدد بها لبنان صُبْحَ مساء، ولا توفر سوریة وإیران وغزة، یکاد وجودها یصیر وجوداً افتراضیاً لشدّة ما تجعله مرتهناً بقوة أو ضعف أعدائها الآخرین. لا یمکنها أن تتحرر من کونها دولة الحرب، وبالأخص عندما تخسر واحدة من جولات حربها المستدیمة. فحین تسیطر على رؤوس قادتها غریزة حیوانیة واحدة، هی کیفیة القتل یغدو کلّ تفکیر لما بعد القتل، غیرَ ذی موضوع.
إسرائیل الیوم مختنقة حتى النخاع بشهوة الانتقام. فهی، من دون أن تروی هذه الشهوة، سوف تخسر آخر رهانات مستقبلها. إنها فی کلا الحالتین أو الموقفین، مع الحرب أو بدونها، لن تنعم بواحد من شرطیْ البقاء. الأمن والحریة. کأنما لا مهرب لها من الاعتقاد أنه کلما طالت حقبة الهدنة، فإن العدو هو الذی سیحوِّل نصره السابق، من صدفة عابرة، إلى واقع دائم. وبالتالی سیکون على المنهزم الانسحاب من ساحة الحروب، والتخلی عن أجندة المشروع اللامعقول اللا تاریخی واللا طبیعی الذی ألزم نفسه به هو وضحایاه معاً ظلماً وعدواناً.
لکن إسرائیل لن تفکر فی الیوم التالی على واقعة العدوان، إذ تحسب أن العدوان نفسه سوف یتکفل بإنتاج مستقبله على مثال حاضره. بمعنى أن الحرب القادمة ینبغی أن تتمتع بأعلى قدرة لأحدث جیل من أسلحة التدمیر الشاملة. فالمطلوب فی ظنها، هذه المرة، اجتیاح الأرض وإنسانها، کیما لا یتبقى لیلةَ الغزو، من لبنان، سوى الإسم کرمز لبلدٍ فَقَدَ أکثر من نصف وطنه أو مساحته وربما غالبیة سکانه. فقد تنجح إسرائیل فی تدمیر الدفاعات المباشرة لحزب الله، لکن من یقول أن (بقایا لبنان) لن تعید تحریر (کل لبنان) ومعه کل فلسطین، وما هو أوسع منهما، کل المشرق العربی. هذه النتیجة المذهلة یقرُّ بها بعض عقلاء الإستراتیجیا الغربیة. ولعلّها تخطر فی بال الآخرین من قادة إسرائیل المخضرمین، هؤلاء الذین عاصروا أو اشترکوا فی الغزوة الأولى للتراب الفلسطینی، وتابعوا مسلسل الحروب مع الدول العربیة فیما بعد، وصولاً إلى صدمة تموز/یولیو 2006، حینما توقف خیالهم العبری فجأة أمام الجدار العالی، الذی کان شفافاً طیلة رحلة الغزو، عن أحلام العظمة المتحصلة والمأمولة، إلى أن داهمته الظلمة الحالکة، الکامنة فی أساساته، منذ قیامه، لتخط بالسواد والحرف العریض على هامته إسم الهزیمة التموزیة (2006).
هذا الرعیل الأول من قادة الغزو، کان یعترف بعضه، ما تحت وجدانه المغلّف بشهوات الأسطرة التلمودیة، أن إسرائیل ربما ستکون مشروعاً مهزوماً مهما فعلت بذاتها وبعدوها، وبالمستقبل الخرافی الذی زینه لها خیالها الدموی. وما قصة تاریخها طیلة الستین عاماً ونیف المنقضیة، سوى قصة المشروع اللامعقول الذی یعاند الواقع الصلب المحدق بکل تفاصیله الممکنة والمستحیلة معاً. هذا التاریخ من المعاندة المعاکسة لأبسط بدْهیات العقل والتاریخ معاً، یصطلح علیه القانون الدولی بانتقاص المشروعیة، إلى درجة فقدانها کلیاً. والاصطلاح توصیف متداول، یخرج الیوم من الغُرف السیاسیة المغلقة، والأکادیمیات المتعالیة، لیصبح ترمیزاً شائعاً فی أوساط الإعلام الغربی؛ إنه تعبیر مهذب نوعاً ما عن إحساس مزدوج باستنزاف الإسرائیلیین لمشروعهم اللاعقلانی، وذلک بأفعالهم اللا إنسانیة واللا اخلاقیة التی تُعرّی المشروعَ من هالاته (التقدیسیة) المصطنعة، بعد أن خدعت طویلاً مخیال الغرب فی مرحلة تسویقه وإنشائه، وتطوراته الهمجیة (المسوِّغة) دائماً من قبل أبواقه الرسمیة والشعبیة. لکن حدث أخیراً أن التسویغ المتمادی راحت تتهاوى ألاعیبه تحت طائلة الترویع المزمن للوجدان العالمی، الذی انخرط فیه الطیش الإجرامی والعنصری اللا محدود للحکام الإسرائیلیین، بعد أن لم یبقَ من سلالتهم الیوم إلا أوحش ذئابهم وأقذر لصوصهم.
لا یعنی انفقاد المشروعیة مجرد سقوط الشرط القانونی عن الکیان الدولتی، لکنه یحمل کذلک نوعاً من إدانة أخلاقیة لسکانه المشارکین فی صناعة خدیعته الکبرى. فهم المتواطئون واقعیاً مع الجرائم الیومیة التی یرتکبها الکیان بحق ضحایاه الفلسطینیین أصحاب الوطن الأصلیین. فالغازی محکوم بتکرار واقعة الغزو الأول، بتعاطی رموز القتل والنهب والاضطهاد فی کل الآتی من دیمومته. الأمر الذی یحیل إسرائیل إلى مسارح لمشاهد مروعة متواصلة من فنون التعذیب الجماعی أمام الملأ العالمی. فاللامشروعیة لیست صفة مجردة معلقة فوق جبین (الدولة الیهودیة)، لکنها تقدم عن ذاتها المزید من براهین الاتهام بالجرائم الموصوفة، خاصة فی عهد حکومتها الحالیة؛ فهی المعبرة أفضل تعبیر عن جوهر المشروع الصهیونی، منذ بدایته حتى المنعطف الراهن الذی یفتح حقاً على أسوأ مستقبل لمصیره، کما یتنبأ مثقفون یهود، عبر مؤلفاتهم الرائجة فی إسرائیل نفسها کما فی الغرب.
هذا المصیر الذی لم یشک الوعی الموضوعی فی حتمیة نهایته المظلمة، لم یعد مجرد تهویم فلسطینی أو عربی، فقد أصبح عنوان ثقافة تبشیریة جدیدة، بتداولها قطاعا واضحا من أصحاب الرأی فی الأوساط الأکادیمیة والإعلامیة، ما بین شاطئی الأطلسی. ذلک أن إسرائیل فی رأی هؤلاء، قد تجاوزت کل المُهَل السیاسیة والقانونیة المعطاة لها، کیما تتحصّل خلالها على أبسط شروط المشروعیة الممیزة للدولة السویة. هناک من یعتقد أنها أشرفت على خسارة رهانها الأخیر، فی التحول من دولة الحرب، أو العدوان المستدیم، إلى دولة مدنیة، فی تکوینها الاجتماعی والسلطوی معاً. وهو الأمر الذی لا یمکن لشعبها أن یحققه إلا بقیام الکیان الفلسطینی الأشمل الموحد لکلا الشعبین، أو بالأحرى لشعبه العربی وجیرانه من یهود الوطن أصلاً، أو البعض من یهود الاغتراب کضیوف جدد.
لیس هذا (المصیر) إلا واحداً من سیناریوهات النهایة التی یتبادلها مثقفون وسیاسیون متحزبون أو متعاطفون مع أحد فریقی الصراع الأقدم منذ بدایة الحرب الباردة، إنه الحل الطبیعی الأوحد؛ إذ أنه یلغی حال الاستثناء، الذی یبلغ حد اللامعقول الأعنف فی خارطة السیاسة الکونیة. وقد ینعته البعض أنه أشبه برؤیا غیبیة. لکن الجواب على هذا الاعتراض لن یکون إلا بالعودة إلى منطق التاریخ الذی لا یقبل الاستثناء فی مسیرته إلا کحالة عابرة تثبت القاعدة المستمرة، ولا تنفیها.
ذلک أن الکیان الدولتی العاجز فی ذاته عن توفیر الشروط الموضوعیة لاکتساب المشروعیة، إنما یجعل من قضیة الحق فی وجوده أو لا وجوده سیّان، لیس بالنسبة لفلسفة القانون وحدها، بل حتى بالنسبة لفلسفة القوة التی یتحصّن وراءها عادة المعتدون والظالمون. والدلیل یجیء من قصة الجدار العالی الأصم الذی صار یصدم جبهات خبراء الإستراتیجیا العسکریة للدولة الیهودیة (الجدیدة)، التی أُعلن عن قیامها أخیراً، کما لو کانت تبشیراً بإسرائیل أخرى مختلفة عن سابقتها المولودة منذ ستة عقود ونیف. هؤلاء الخبراء، المجهول من أسمائهم أکثر من المعلوم، لا یکفون عن إطلاق تهدیدات الحرب ضد لبنان، وربما سوریة وإیران، کأنهم یریدون الإیحاء أن إسرائیل القدیمة، الهرمة، استنفدت احتمالات الانتصارات المضمونة لحروبها، وانها بلغت حدود القوة؛ فلم یتبق بعد هذه الحدود سوى أبغض الاحتمالات المشؤومة.. أو قیام (إسرائیل الیهودیة)!
شهوة الانتقام وحدها غیر کافیة، لکی تقدم ضمانةَ النصر المنشود. قد تجعل الحرب غایة فی ذاتها، غیر عابئة بأکلافها البشریة والمادیة لدى الفریقین معاً، أو بالنتائج الجیوسیاسیة المترتبة على وقائعها بالنسبة للغالب والمغلوب. وقد برهنت حروب أمریکا وإسرائیل خلال هذا العقد من القرن الحالی، على العرب والمسلمین، أنها جالبةٌ لنوعیة الکوارث البنیویة على المعتدی الأجنبی أکثر بما لا یُقاس من المصالح الاستعماریة المتصورة المسوّغة لتلک الحروب العبثیة. هل یمکن مثلاً عزل أزمة أمریکا الاقتصادیة عن مقدماتها العسکریة الفاشلة فی العراق. وهل کان لإسرائیل أن تقع فی مأزقها الحالی، من المشروعیة واللامشروعیة فی عین ذاتها والعالم، لو لم یرتکب جیشها (جریمة) الهزیمة الموصوفة بالتلمودیة الحاسمة، مقابل الآلاف القلیلة من الشبیبة اللبنانیة المقاتلة.
خبراء الماکرواستراتیجیا الأمریکیون، أصبح بعضهم، یتداول علناً الأطروحة التالیة القائلة: قد تکون صناعة الحروب [فی العالم الثالث خاصة] ذخّرت الرأسمالیة بأموالها الفلکیة الهائلة. لکن عندما لن یعود بإمکان السیاسة أن تضع حدّاً لمسلسل تلک الحروب أو تعترف عملیاً بضرورة ذلک الحدّ، فإن صناعة الحروب ستنقلب على أصحابها فی المحصلة النهائیة؛ إشارةُ الانقلاب هو انفجار الاقتصاد فی مربّعاته الأساسیة. ذلک هو معنى المایحدث الرهیب بین ضفتی الأطلسی الشمالی، أی بین جناحی الغرب، دون أیة آفاق تغییر حقیقیة.
من هنا یجب أن یفهم کیف أن أمریکا أمست تحارب وهی تتقهقر؛ بمعنى أنها لم تعد قادرة على الصمود والبقاء فی مساحات خارجة عن حدود دفاعاتها الأصلیة. أما إسرائیل فهی کانت فی أصل تکوینها دولةُ الحرب المستدیمة. وقد أدمنت هذه الوضعیة الاستثنائیة، التی أضحت قاعدةَ وجودها، ما دامت کل حروبها مشروطة بالانتصارات المحتومة. لکن عندما تلتبس هذه المشروطیة أی عندما یصبح الجلاد خائفاً أکثر مما تخافه الضحیة، لن تنقلب الأدوار بینهما سریعاً، بل سوف تلعب الصدفة وحدها أهم دور بینهما. ذلک هو الوضع الذی یوصف عادة فی المصطلح الاستراتیجی، بکونه وضعاً خارج السیطرة، خاصة بالنسبة للفریق المتشبث، أو المتفوق بما له من سلطة المبادرة فی ساحة الصراع، ضداً على الفریق الآخر الصامد فی موقف الانتظار.
التودد والاضطراب وتضارب الآراء والنظریات، وصراع المؤسسات والأجهزة.. کل هذه الفوضى الفکریة تبعثر العقل القیادی لإسرائیل بین جبهات الساسة والعسکریتاریا، وتخبطات الرأی العام. لعلّه وحده قد یفکر فی الیوم التالی على الحرب القادمة. ذلک لأن له تساؤله العمیق الصامت: إن کانت إشکالیة المشروعیة/اللامشروعیة قد أمست ترفاً ثقافویاً، وذلک بعد أن یعود الجمیع فی (دولة إسرائیل الیهودیة) الجدیدة إلى دائرة الحقیقة، وسؤال الوجود/اللاوجود.؟
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS