القضیة الفلسطینیة، إلى أین؟
القضیة الفلسطینیة، إلى أین؟
یوسف نور عوض
نشأت طفلا فی مدینة الخرطوم بحری السودانیة، وهی إحدى المدن الثلاث التی تکوّن العاصمة السودانیة الخرطوم التی کان یطلق علیها فی ذلک الوقت العاصمة المثلثة، وهی تشمل الخرطوم عموم وأم درمان والخرطوم بحری. ومنذ ذلک الوقت کنا نسمع باسم فلسطین یتردد فی مجتمعنا، وکان کثیر من أقاربنا وأهل الحی الذی کنت أسکن فیه یخبروننا أنهم شارکوا فی حرب عام 1948 فی الجبهة المصریة، وأن بعضهم جرح قی تلک الحرب، وکانوا یخبروننا عن الأسلحة الفاسدة وحصار الفلوجة وغیرها من الأمور التی کانت تستثیر خیالنا دون أن ندرک أبعادها السیاسیة الکبیرة، إذ کان هناک اقتناع سائد فی المجتمع السودانی أن فلسطین أخذت من أهلها عنوة وأن المسألة لا تعدو أن تکون مسألة وقت قبل أن تعود هذه الأرض إلى أهلها، وأذکر فی مرحلة الطفولة عندما کانت تقام الأعراس فی السودان کانت العروس تدرب على مدى أسابیع على الرقص الذی تقوم به عادة لیلة الزفاف وکانت الأغنیة التی تدرب علیها العروس تقول 'یا فلسطین حربک متین'.
ولکن انقضت مرحلة الطفولة وبدأت القضیة الفلسطینیة تأخذ فی أذهاننا أبعادا أخرى، وهی فی کل الظروف لیست أبعادا سلبیة، ذلک أن معظم الأنظمة لانقلابیة التی ظهرت فی العالم العربی کانت ترفع شعار تحریر فلسطین وهو الشعار الذی کان یدخل إلى قلوب المواطنین أکثر من شعارات الحریة والاشتراکیة والوحدة، وهی الشعارات التی ظلت ترفعها هذه الأنظمة دون أن تعمل من أجل تحقیقها، أما لماذا کان شعار تحریر فلسطین هو الذی یدخل إلى القلب فلأنه کان هناک اقتناع سائد بأن شعب فلسطین لن یظل مشردا وسیأتی الیوم الذی یحرر فیه هذا الشعب ویعود إلى أرضه.
وکانت الحقبة الناصریة هی أکثر الحقب التی ملأت القلوب بالأمل، فهی الحقبة التی ظهر فیها یاسر عرفات منذ کان طالبا فی جامعة القاهرة، وهی أیضا الحقبة التی کان العرب یصدقون فیها کل کلمة یقولها عبد الناصر الذی جعل من قضیة تحریر فلسطین وإعادة اللاجئین إلى أرضهم من أهم الشعارات والدعائم التی قام علیها نظام حکمه. ولا ینکر أحد أنه خلال هذه المرحلة تطور عمل المقاومة الفلسطینیة بفروعها المختلفة وقدمت کثیر من الدول العربیة دعمها الکامل لمنظمات المقاومة لأن الشعار الوحید الذی کان مرفوعا فی تلک الحقبة هو شعار التحریر، ولم یکن هناک فرد یتکلم عن السلام أو المصالحة مع إسرائیل بل إن مجرد التفکیر فی هذا الاتجاه کان یعتبر خیانة لقضیة العرب الأولى، کما کانت تسمى قضیة فلسطین فی ذلک الوقت.
ولکن لم یمض کبیر وقت حتى حدث التحول الأساسی فی القضیة الفلسطینیة وکان ذلک بعد هزیمة عام 1967 وهی الهزیمة التی أطلق علیها عبد الناصر اسم النکسة، ولم تکن کذلک لأن معظم الجماهیر العربیة کانت تظن حتى مرحلة الحرب أن هناک استعدادات حقیقیة لمواجهة إسرائیل، ولکن الهزیمة وضعت العرب کلهم أمام حقیقة أولیة وهی أنه فی الوقت الذی کانت تتاجر فیه الأنظمة العسکریة بالشعارات کانت إسرائیل وحلفاؤها یعدون بصورة حقیقیة للمواجهة التی قد تفرضها ظروف الحرب الباردة فی ذلک الوقت، ولم یکن استعداد إسرائیل عسکریا یعتمد على الأسلحة التقلیدیة بل تجاوز ذلک إلى الأسلحة النوویة، التی طورت فی ضوئها نظریة (الخیار شمشون) التی تعنی فی جوهرها أنه إذا تعرضت إسرائیل لخطر الزوال فإنها لن تتردد فی استخدام هذا السلاح، وهو أمر یقصد به التخویف دون أن یکون حقیقة یقبل بها المجتمع الدولی حتى فی أسوأ الاحتمالات.
ولا أرید قی الواقع أن أرکز على جوانب تاریخیة یعلمها کثیرون بل أرید أن أرکز على التحول العقلی الذی حدث بعد عام 1967، وخاصة فی مرحلة لاحقة بعد أن تولى الرئیس أنور السادات السلطة وبدأ یفکر تفکیرا وطنیا محدودا عندما قرر أن یدخل فی صلح مع دولة إسرائیل ویتبادل التمثیل الدبلوماسی معها، بل وفعل الذی لم یفعله سیاسی عربی من قبل منذ أن اغتصبت إسرائیل أرض فلسطین، إذ توجه الرئیس أنور السادات مباشرة إلى القدس وتحدث فی الکنیست الإسرائیلی، ولیت رحلته حققت الأهداف التی سعى إلیها، ذلک أن الصلح الذی أقامه مع دولة إسرائیل کرس احتلال سیناء إلى الأبد لأن ما زعم أنه استعادة لأرض سیناء لم یکن أکثر من وهم إذ فرضت إسرائیل على السادات ألا یدخل قواته إلى أرض سیناء إلا إلى مسافة محدودة وبأعداد محدودة، ویعنی ذلک أن تکون سیناء بأکملها أرضا خالیة لا یأتی أی تهدید من جهتها نحو إسرائیل، وکانت تلک ضربة قاصمة للمقاومة الفلسطینیة لأن قرار السادات لم یقفل الباب فقط أمام المقاومة الفلسطینیة بل جعلها غیر قادرة على التحرک أصلا، ذلک أن سوریة لم تکن تسمح أیضا بحرکة المقاومة من جهة الجولان، کما کانت هناک خلافات شخصیة بین الرئیس حافظ الأسد والمجاهد یاسر عرفات، الذی أدرک أنه لم یعد قادرا على الحرکة من أی جهة من الجهات، ولا ننکر أنه على الرغم من عدم اعتراف کثیر من الأنظمة العربیة بذلک فإن لبنان کان هو جبهة الصمود الوحیدة فی وجه إسرائیل. لکن هذا الأمر لم یستمر طویلا مع الفلسطینیین الذین وجدوا أنفسهم غیر قادرین على التحرک فی مناطقهم بسبب ضیق المساحة وعدم تعاون الدول العربیة معهم.
وفجأة بدأنا نسمع بتوجهات جدیدة فی القضیة الفلسطینیة وهی توجهات السلام، وهو مصطلح غامض لا معنى له، ذلک أنه لم تکن هناک حرب بین الفلسطینیین وإسرائیل حتى تکون هناک عملیة سلام، کما أن مطلب الفلسطینیین یترکز فی هدف واحد هو استعادة الأرض وحل مشکلة اللاجئین وبدون ذلک یصبح مفهوم السلام لا معنى له ولا یخدم سوى أهداف إسرائیل. وعلى الرغم من ذلک بدأنا نسمع بأوسلو ومدرید وکامب دیفید، وکلها خدع سیاسیة توهم العالم بأن هناک محاولة لحل القضیة الفلسطینیة عن طریق مفهوم الدولتین وهو مفهوم لم یتحقق على الإطلاق ولا یبدو أن هناک تصورا حقیقیا له، لأن إسرائیل لا ترید، باختصار، أن تمنح الفلسطینیین شیئا، ومن السخریة أنه فی الوقت الذی ترتفع فیه الأصوات تطالب بمنح الفلسطینیین دولة مستقلة نجد إسرائیل تطالبهم بأن یعترفوا بها دولة یهودیة ویعنی ذلک ألا یکون لفلسطینیی الداخل أی حقوق لأنهم لیسوا من الیهود، ومعنى ذلک أن تتفاقم مشکلة فلسطین.
وفی هذا الجو المشحون نجد أن هناک تیارین یتقاسمان المواقف بشأن القضیة الفلسطینیة، تیار تمثله السلطة التی ترید أن تتفاوض من أجل سلام قبل أن تحقق التحریر وتیار تمثله حماس التی ترفض مبدأ التفاوض وتتمسک بمبدأ التحریر.
ولا شک أن القضیة الفلسطینیة فی هذه المرحلة قد ألقیت فی ملعب الفلسطینیین بعد أن أصبحوا غیر قادرین على التحرک من جبهات مصر وسوریة والأردن، ولم یعودوا قادرین على أن یحددوا موقفهم بوضوح من قضیتهم، هل هم یریدون سلاما بما یمکن أن یتیسر لهم من أرض أم یریدون تحریرا لا یهجر الیهود بل یعیش الفلسطینیون معهم فی دولة دیموقراطیة أم یریدون شیئا آخر!
ولا أقول إن أزمة القضیة الفلسطینیة تترکز فی موقف الفلسطینیین من قضیتهم بل تترکز فی مواقف الدول العربیة من هذه القضیة، ذلک أن الدول العربیة انسحبت تماما من المسرح الفلسطینی ونشأت أجیال لا تعرف الکثیرعن القضیة الفلسطینیة، لکن هذه القضیة ستظل قائمة بکونها قضیة یجب أن تحل. والمؤسف أن الیهود الذین یحتلون فلسطین لا یفکرون إلا بمنطق القوة ولا یریدون حلا یجعلهم یواجهون واقعا جدیدا دون إدراک منهم أنهم لا یمکن أن یعتمدوا على الولایات المتحدة أبد الدهر، بکون الیمین المتطرف هناک یرید الخلاص منهم کما أن القوة وحدها لن تکون ضمانا لاستمرار وجودهم على النحو الذی یریدون، وذلک ما یجعلنا نتساءل، القضیة الفلسطینیة إلى أین؟
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS