الاربعاء 16 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

عن الانقسامات الطائفیة والمذهبیة

عن الانقسامات الطائفیة والمذهبیة

 

وصلنا هذا المقال من السید صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن

 

 

إلى أین یسیر الشارع العربی بانتقاله الموسمی من حال السبات إلى حال الانفعال العشوائی؟ من "تکیّفٍ" مع وضعٍ مأساوی فی داخل عدّة بلدان عربیة، ممزوجٍ أحیاناً بتسلّطٍ خارجی، إلى انفعالات غرائزیة نراها تحدث بأشکال طائفیة یواجه فیها بعض الوطن بعضه الآخر وکأنَّ هذه البلاد العربیّة قد فقدت البوصلة التی توجّه حرکة قیاداتها، فإذا هی بمرکب فی بحر هائج تدفع به الریاح والأمواج بینما ینشغل طاقم السفینة بأموره الخاصّة أو یرکن إلى عجزه عن القیادة السلیمة!!.

صحیح أنَّ لإسرائیل عملاء یتحرّکون ویعملون فی أکثر من مکان بالعالم، وبأنَّ بعضهم انکشف واعتقل حتّى فی أکثر الدول صداقة ورعایة لإسرائیل کالولایات المتّحدة، کما هو حال الأمیرکی جوناسون بولارد، المعتقل بتهمة التجسّس لإسرائیل فی أمیرکا منذ العام 1986 ... وصحیح أنَّ اللبنانیین والفلسطینیین والسوریین والعراقیین والمصریین یعرفون أکثر من غیرهم من العرب حجم التّسلل الإسرائیلی فی بلدانهم على مدى أکثر من نصف قرن من الزمن، منذ ظاهرة کوهین فی دمشق إلى انفضاح العشرات من العملاء فی لبنان... وصحیح أنَّ السلطات المصریة کشفت عدّة مرات عن شبکات تجسّس إسرائیلیة وما زال بعض عناصر هذه الشبکات معتقلاً، رغم وجود علاقات طبیعیّة بین إسرائیل ومصر... صحیحٌ کل ذلک وغیره من الأمثلة، لکن هل یعقل أن تکون إسرائیل وحدها فی کلّ مکان وفی کلّ قضیة ساخنة تعیشها حالیاً المنطقة العربیّة وجوارها الإقلیمی؟! أطرح هذا التساؤل لأنَّ کلاً من التطورات الحاصلة فی المنطقة، یحمل طابع المصالح والمنافع الإسرائیلیة فقط، بینما "الآخرون" - وهم هنا العرب والمسلمون والأوروبیون والأمیرکیون- یتضرّرون ممّا فی هذه التطورات من مخاطر أمنیّة وسیاسیة على مجتمعاتهم وأوطانهم وعلى مصالحهم المشترکة. فالانقسامات الطائفیة والمذهبیة تزداد فی المنطقة، وأصوات العداء بین "الشرق الإسلامی" وبین "الغرب المسیحی" ترتفع حدّةً بینما إسرائیل التی هی "جغرافیاً" فی الشرق، و"سیاسیاً" فی الغرب، وتنتمی إلى حالةٍ دینیة "لا شرقیة إسلامیة ولا غربیة مسیحیة"، هی المستفید الأکبر من صراعات الشرق مع نفسه، ومن صراعاته مع الغرب!.

وهل هناک أصلاً منفعة أمیرکیّة حقیقیة من فلتان الأوضاع الأمنیّة فی بلدان عربیة؟!، وهل تقدر الإدارة الأمیرکیّة على ضبط نتائج هذا الفلتان إذا ما حدث؟ ألا یکفی العراق وأفغانستان نموذجاً لنتائج السیاسات الأمیرکیّة الفاشلة؟!. فالمصلحة الأمیرکیّة الحقیقیّة لا یمکن أن تکون فی توسیع دائرة الغاضبین على أمیرکا، ولا یمکن أن تکون فی زیادة الهوّة بین العرب والمسلمین من جهة وبین الأمیرکیین والغرب عموماً من جهة أخرى.. فهذه مصالح فئویّة لقوى حاکمة لکنّها حتماً لیست مصالح الدول والشعوب.

هناک الآن الکثیر من "المعارک" الإسرائیلیّة الّتی تجری تحت "رایة أمیرکیّة"، لکن المصالح الأمیرکیّة هی جزء من ضحایاها! وکم هی مفارقة محزنة أمیرکیاً أن یُنظَر لإسرائیل فی القرن الماضی وخلال فترة الحرب الباردة، على أنَّها "رأس الحربة الأمیرکیّة" فی الشرق الأوسط، بینما یُنظَر إلى أمیرکا الآن، وهی القطب الدولی الأوحد، على أنَّها تنفّذ سیاسة إسرائیل فی المنطقة!

أمّا على الطرف العربی والإسلامی، ف"الإسرائیلیّات" موجودة أیضاً بکثافة. وهناک عرب ومسلمون یقومون أیضاً بخوض "معارک إسرائیلیّة" تحت "رایات وطنیّة أو عربیّة أو إسلامیّة". وهم عملیّاً یحقّقون ما کان یندرج فی خانة "المشاریع الإسرائیلیّة" للمنطقة من سعی لتقسیم طائفی ومذهبی وأثنی یهدم وحدة الکیانات الوطنیّة ویقیم حواجز دم بین أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئات تستفید من فتات الأوطان فتقیم ممالکها الفئویّة الخاصّة ولو على بحر من الدّماء. ألیس هو مشروعٌ إسرائیلی تفتیت المنطقة العربیّة إلى دویلات متناحرة؟ أمَا هی مصلحة إسرائیلیّة کاملة نتاج ما جرى فی العراق من تفکیک لوحدته الوطنیة؟ ألیست هی أیضاً رؤیة إسرائیلیّة لمستقبل لبنان وسوریا والأردن ومصر والسودان والیمن وشبه الجزیرة العربیّة؟!

ألیس هو بمنظر خلاّب ممتع للحاکمین فی إسرائیل وهم یرقبون ما یجری فی لبنان من أحادیث عن الفتنة ومن محاولة النیل من المقاومة اللبنانیّة الّتی أذلّت جیش الاحتلال الإسرائیلی ؟! إنَّه "زمن إسرائیلی" ینتشر فیه وباء "الإسرائیلیّات" وتقلّ فیه المضادات الحیویّة الفکریّة والسیاسیّة، وتنتقل فیه العدوى سریعاً، ویُصاب به "بعض الأطبّاء" أحیاناً فتجتمع العلّة فی الطبیب والمریض معاً!! هذا "الوباء الإسرائیلی" لا یعرف حدوداً، کما هی دولة إسرائیل بلا حدود، وکما هم العاملون من أجلها فی العالم کلّه. لکن المشکلة لم تکن ولن تکون فی وجود "الوباء"، بل هی بانعدام الحصانة والمناعة، وفی انعدام الرّعایة الصحیّة الفکریّة والسیاسیة داخل الأوطان العربیّة وبلدان العالم الإسلامی، وفی الجهل المقیت بکیفیّة الوقایة والعلاج بل حتّى فی رصد أعراض مرض الانقسامات الطائفیة وسهولة انتشاره!.   

 

فمن المهم أن یدرک أتباع أی طائفة أو مذهب أین تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتیازاتٍ سیاسیة واجتماعیة، أو من أجل التمسّک بها، بتحرّکٍ یحرمنا من الوطن کلّه بل ربّما من الوجود على أرضه. وعلى الجمیع أیضاً، تقع مسؤولیة فهم ما یحصل بأسبابه وأبعاده السیاسیة، ولیس عن طریق المعالجة الطائفیة والمذهبیة لتفسیر کل حدثٍ أو قضیة أو صراع ...

إن المعرفة السلیمة لکلٍّ من جوهر الرسالات السماویة و"الهویّة العربیة"، والعرض السلیم لهما من قبل المؤسسات الدینیة والثقافیة والإعلامیة، سیساهم بدون شک فی معالجة الانقسامات الطائفیة والأثنیة فی المنطقة العربیة. کذلک، فإنّ البناء الدستوری السلیم الذی یحقّق العدالة والمساواة بین أبناء الوطن الواحد، هو السیاج الأنجع لوحدة أی مجتمع. فالعطب أساساً هو فی الأوضاع الدّاخلیّة الّتی تسمح بحدوث التدخّل الخارجی، الإقلیمی والدولی. إنّ البلاد العربیّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حیث ترکیبتها القائمة على التّعدّدیّة فی العقائد الدّینیّة والأصول الإثنیّة، وعلى وجود صراعات سیاسیّة محلیّة. لکن ما یمیّز الحالة العربیّة هو حجم التّصدّع الداخلی فی أمّة تختلف عن غیرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماویّة، وأرض الثّروات الطّبیعیّة، وأرض الموقع الجغرافی الهام. وهذه المیزات الثلاث کافیة لتجعل القوى الأجنبیّة تطمح دائماً للاستیلاء على هذه الأرض أو التحکّم بها والسّیطرة على مقدّراتها.

إنّ إلقاء المسؤولیّة فقط على "الآخر" الأجنبی أو الإسرائیلی فیما حدث ویحدث فی بلاد العرب من فتن وصراعات طائفیّة وأثنیة هو تسلیم بأنّ العرب جثّة هامدة یسهل تمزیقها إرباً دون أی حراک أو مقاومة. فإعفاء النّفس العربیّة من المسؤولیّة هو مغالطة کبیرة تساهم فی خدمة الطّامعین بهذه الأمّة والعاملین على شرذمتها، کما أنّ عدم الاعتراف بالمسؤولیّة العربیّة المباشرة فیه تثبیت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهیم الّتی تغذّی الصّراعات والانقسامات، جیلاً بعد جیل.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 141507







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)