المؤامرة الصهیونیة ضد القدس و الاقصى
القدس والأقصى کعنوان للصراع
بلغ عدد سکان ما یسمى صهیونیاً بمنطقة "القدس الکبرى" (متروبولیتان جیروزالیم) عام 2007 أکثر من 732 ألف شخص أقل من ثلثیهم بقلیل من الیهود وأکثر من ثلثهم من العرب. وهی بدون شک أکبر تجمع سکانی صهیونی، تلیه تل أبیب، ثم حیفا. وقد کان عدد سکان الشطر الغربی المحتل من القدس عام 1948 حوالی 84 ألفاً، ومساحتها حوالی 85% من إجمالی مساحة القدس آنذاک. أما الشطر الشرقی المحتل من القدس، فلم تزد مساحته عن 2،4 کم2، أو 11،48% من مساحة المدینة. لکن القدس التی کانت تبلغ مساحتها عام 48 حوالی 21،1 کم2، باتت تتمدد الیوم على 125 کم2 من الأراضی حسب مکتب الإحصاء المرکزی "الإسرائیلی" فی نهایة عام 2006، أی ستة أضعاف حجمها عام 48، وهو ما یعکس عملیة التهام الأراضی الرهیبة وضمها لبلدیة القدس منذ تأسیس دولة الکیان الصهیونی فی 15/5/48، وبالأخص منذ حزیران/ یونیو عام 1967.
ویذکر أن الکیان الصهیونی ضم القدس رسمیاً إلیه فی آب عام 1980، وهی لم تتحول إلى أکبر مدینة صهیونیة بالصدفة، أو نتیجة عوامل طبیعیة، بل نتیجة قرار منهجی بتهویدها ومصادرة الأراضی المحیطة فیها وإقامة أحزمة من المستعمرات علیها وحولها ومحاولة طرد العرب منها. والیوم یبلغ طول "غلاف القدس" مثلاً، وهو ذلک الجزء من "الجدار العازل"، جدار الضم والتوسع، الذی یحیق بالقسم الشرقی من المدینة، خمسین کیلومتراً من شماله إلى جنوبه، مما عنى ضم المزید من الأراضی والقرى والأحیاء العربیة للقدس، ومنَعَ إمکانیة تواصلها مع رام الله شمالاً أو الخلیل جنوباً، مع العلم أن مستعمرة "معالیه أدومیم" تحاصر القدس من الشرق.
ویذکر أن ما یسمى الجدار العازل لم یعزل القدس عن الضفة الغربیة فحسب، بل قطع المناطق العربیة داخلها إلى ثلاثة أجزاء وعزلها عن بعضها البعض: فالبلدة القدیمة باتت معزولة عن القدس الشرقیة، والأحیاء العربیة فی القدس الشرقیة باتت معزولة عن البلدة القدیمة وعن القرى العربیة فی شمال المحافظة. وهی جزء من إستراتیجیة تضییق الخناق على أهلنا فی القدس من أجل دفعهم لمغادرة مدینتهم العربیة المحتلة، وهی إستراتیجیة تکملها عملیة سحب بطاقات هویة المقدسیین بالمئات کل عام، وإصدار قرارات إخلاء المنازل بالعشرات بعد ضم الأراضی، دون السکان، کما حدث فی بعض أحیاء بلدتی العیزریة وأبو دیس المجاورتین للقدس.
ولکن البعد الرمزی لعملیة تهوید القدس یتخذ بعداً حضاریاً یتجاوز الاستیطان ومصادرة الأراضی، وهو یتمحور حول سرقة الآثار العربیة وإزالة المقابر واستبدال الأسماء العربیة بأسماء أو معانی یهودیة... مثلاً "هار هوما" بدلاً من جبل أبو غنیم، و"حائط المبکى" بدلاً من حائط البراق، وهو الجزء الجنوبی الغربی من المسجد الأقصى، و"حارة الیهود" فی الشطر الشرقی المحتل من القدس بدلاً من حی المغاربة والشرف المهدمین عشیة حزیران 67، و"القدس الکبرى" للإشارة إلى المناطق التی ضمها الصهاینة للقدس المحتلة من حولها، والتسمیة خبیثة تعطی مشروعیة لهذا الضم.
-"هیکل سلیمان" بدل المسجد الأقصى، وانتبه أن مجرد الحدیث عن هیکل سلیمان یعطی المشروعیة للحفر تحت المسجد الأقصى لتقویضه.
-"مدینة داود" بدل القدس الشریف.
-"جبل الهیکل" بدل قبة الصخرة.
-"جبل موریا" بدل جبل بیت المقدس، وهو البقعة التی یوجد علیها المسجد الأقصى.
-"قدس الأقداس" أو "وسط هیکل سلیمان"، للإشارة إلى صخرة بیت المقدس.
-"إسطبلات سلیمان" للإشارة للمصلى المروانی وهی التسویة الشرقیة للمسجد الأقصى.
وتطال عملیة التهوید کل فلسطین طبعاً، أرضاً وتاریخاً واستیطاناً، ولکن القدس حظیت منذ البدایة بترکیز خاص، لما تتمتع به من مکانة تاریخیة خاصة فی الأساطیر الیهودیة، ولما تمثله من رمزیة توراتیة تؤسس لمشروعیة دولة "إسرائیل" ثقافیاً حتى عند غیر المتدینین من الیهود، وهذا النقطة کثیراً ما تغیب عن بعضنا، مع أنها تمثل موضوعة مرکزیة فی البعد الثقافی للصراع، أی: أیة منظومة من القیم والمفاهیم، منظومتنا أم منظومة العدو، تثبت نفسها وتقدم بالتالی المشروعیة الحضاریة والتاریخیة للطرف الذی یحملها؟
فالقضیة لیست قضیة مصطلحات فحسب، ولیست قضیة سیطرة استعماریة على الأرض فحسب، بل هویة تلک الأرض، وهل هی یهودیة أم عربیة؟ وفی فلسطین تختزل هذه القضیة بالبعد الرمزی للقدس، وفی القدس یختزل ذاک البعد الرمزی تحدیداً بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وفی الأقصى یتلخص البعد الرمزی للصراع العربی-الصهیونی حول هویة الأرض بهویة الحائط الجنوبی الغربی من المسجد الأقصى، وهل هو حائط البراق، الحائط الذی ربطت إلیه "البراق"، مطیة الرسول، علیه الصلاة والسلام، فی رحلة الإسراء والمعراج، أم هو "حائط المبکى"؟ و"المبکى"، حسب خرابیط الیهود، یشکل جزءاً أو بقیة من "هیکل سلیمان الثانی" الذی تم بناؤه بعدما سمح سایروس الفارسی للیهود بالعودة إلى فلسطین بعد "السبی البابلی"... فتم استکمال بنائه بعد سبعین عاماً من تدمیر الهیکل الأول، فی ظل الإمبراطوریة الفارسیة فی عهد داریوش الکبیر...
إذن تقول الروایة الصهیونیة، العابقة بعفن الأبخرة التلمودیة، أن المسجد الأقصى بنی على أنقاض "هیکل سلیمان".. والروایة العربیة تقول بأن المسجد الأقصى هو ملکیة عربیة ووقف إسلامی. وقد أدرک علمانیو الیهود وملحدوهم، قبل حاخاماتهم، أهمیة فرض الروایة التوراتیة حول الأقصى لتبریر احتلال فلسطین. ولذلک قاد وزیر الدفاع الصهیونی الأسبق موشی دایان حاخامات الیهود للصلاة أمام حائط البراق بعد احتلال القدس مباشرة عام 67، مع أنه لم یکن متدیناً على الإطلاق. فهویة حائط البراق عنوان للصراع، لأنها عنوانٌ لهویة الأرض، وهی النقطة التی یدرکها المواطنون العرب بحسهم العفوی ولذلک کثیراً ما تراهم یرفعون صورة قبة الصخرة (أو المسجد الأقصى أو الاثنین معاً، وکثیراً ما ینشأ خلط ما بین الاثنین، وقد باتا یمثلان الآن شیئاً واحداً فی العقل الجمعی العربی والإسلامی!!).
المهم، فی الأیام الأربعة التالیة لاحتلال القدس فی حرب حزیران عام 67، أمر موشی دایان ورئیس بلدیة القدس بتدمیر حارة المغاربة المجاورة لحائط البراق، وتم إخراج سکانها للشارع، والسیطرة علیها یهودیاً بعد إزالتها بالمتفجرات، بدون أی سبب عسکری بعد انتهاء المعارک والمقاومة... فتحولت الساحة المقابلة لحائط البراق بالتالی إلى بؤرة لممارسة شعائر الدیانة الیهودیة.
وفی البعد الثقافی للصراع، قال ثیودور هیرتزل، ولم یکن متدیناً أیضاً: "إذا حصلنا یوماً على القدس، وکنت لا أزال حیاً وقادراً على القیام بأی شیء، فسوف أزیل کل ما لیس مقدساً لدى الیهود، وسوف أحرق الآثار التی مرت علیها عبر القرون".
وکان حاخامات الیهود فی العالم قد عقدوا مؤتمراً فی القدس فی 27/6/67 قرروا فیه الإسراع بعملیة "إعادة بناء الهیکل الثالث" على أنقاض الأقصى.
وکان الیهود قد حاولوا الحصول على حق مکتسب بحائط البراق من خلال طلب ترخیص لتبلیط الرصیف الواقع تحت الحائط، وکان ذلک عام 1839، فی عهد حکم محمد علی باشا لبلاد الشام ومنها فلسطین، ولکن محمد علی باشا رفض ذلک بتاتاً، وأرسل لإبراهیم ابنه لینفذ الرفض، فأصدر الأخیر قراراً یمنع الیهود من تبلیط حائط البراق، مع المحافظة على حق زیارته کما کانوا یفعلون.
ومجدداً حاول الیهود إحضار کراسی عند البکاء أمام الحائط، عام 1911، وحاولوا إقامة ستار للفصل بین الجنسین عند العویل أمام الحائط، فاعترض المغاربة وألغى محافظ القدس هذه البدعة خوفاً من ادعائهم ملکیة حائط البراق.
وبعد خمسة أشهر من وعد بلفور عام 1917 طلب حاییم وایزمان، رئیس المنظمة الصهیونیة العالمیة آنذاک، من وزیر الخارجیة البریطانی تسلیم الحائط للیهود وإجلاء المغاربة، ثم حاول ذلک المهووس أن یشتری الوقف الذی تقوم علیه حارة المغاربة!!!!
وفی 14/8/1929 قامت تظاهرة یهودیة کبرى فی تل أبیب، بذکرى "تدمیر هیکل سلیمان"، وفی الیوم التالی توجهت التظاهرة باتجاه حائط البراق وطالبت به ملکیة یهودیة، وقامت على أثر ذلک اشتباکات تطورت إلى ما أصبح یعرف رسمیاً فی التاریخ العربی الفلسطینی باسم "ثورة البراق"!
وبعد ال67 تصاعدت الانتهاکات الصهیونیة للمسجد الأقصى، من اقتحام ومحاولات تفجیر وتدمیر وحفریات وأنفاق، کان من أهمها 21/8/69 محاولة حرق المسجد الأقصى مما أتى على منبر صلاح الدین وأجزاء أثریة مهمة من المسجد ومحتویاته. وتتالت المجازر فی الأقصى، عام 1982، وفی 8/10/90، ومجزرة النفق عام 96، وفی مستهل انتفاضة الأقصى عام 2000.
ویذکر أن محکمة العدل العلیا "الإسرائیلیة" أصدرت قراراً بعد توقیع اتفاقیة أوسلو بعشرة أیام، أی فی 23/9/1993، یقضی باعتبار المسجد الأقصى أرضاً "إسرائیلیة" وضعتها المحکمة تحت وصایة منظمة "أمناء الهیکل" الصهیونیة المتطرفة، وهی إحدى الواجهات التی تستغلها الدولة للاعتداء على الأقصى.
وما زالت الحفریات تحت الأقصى وفی جواره مستمرة، وهی لم تؤدِ لإیجاد أثر لأی هیکل من أی نوع بالمناسبة، ولکنها باتت تعرض الأقصى للسقوط، بعد قرض أساساته، نتیجة أبسط هزة أرضیة. فهل نترکه یسقط، بالرغم من کل ما یمثله فی الصراع وفی هویة فلسطین؟ الأقصى لیس بدیلاً للقدس، والقدس لیست بدیلاً لفلسطین، ولکنها باتت تکثیفاً لها، وهذه باتت حقیقة ثقافیة تفرض نفسها بنفسها حتى عند من یرفضون التأویل الدینی للصراع. والإسلام فی هذه المعرکة ظهیرٌ للموقف الوطنی والقومی، والعکس بالعکس، ولا تناقض بین الاثنین.
( الموضوع للدکتورإبراهیم علوش )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS