الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

مسؤولیة ما یحدث فی لبنان

لعلّ من المهمّ أن یتساءل فرقاء الصراع فی لبنان، عن مدى مسؤولیتهم المباشرة عن الأزمة الراهنة وعن الاحتقان السیاسی المتزاید وتوفیر المناخ المناسب للتدهور الأمنی ولوقوع قتلى وجرحى أبریاء.

فاللبنانیون أینما وُجدوا یتساءلون: إلى متى هذا الانقسام السیاسی والفراغ الدستوری اللذان یلفّان عنق الدولة اللبنانیة ویهدّدان الوطن بأسره وجوداً وأمناً، بعدما تهدّدت وانحدرت سبل العیش والحیاة الاجتماعیة للمواطنین فی کلّ مناطقهم وطوائفهم.

إنّ ما یحدث فی لبنان الیوم هو أکبر من لبنان نفسه. فأطراف إقلیمیة ودولیة عدیدة وظّفت، طوال العقود الأربعة الماضیة، أرض لبنان وصراعاته المحلیة من أجل مشاریعها الخاصة و"حروبها المفتوحة"، لکنّ ذلک ما کان لیحدث لولا تعامل اللبنانیین (کما الأطراف الإقلیمیة والدولیة) مع لبنان بأنّه "ساحة صراع" ولیس وطناً واحداً لکلّ أبنائه.

ورغم شغف اللبنانیین بمتابعة التطورات الدولیة وبقدرتهم المتمیّزة على التحلیل السیاسی الذی یربط أصغر قضیة محلیة بأبعاد دولیة کبرى، فإنّ أفعال وسلوک معظمهم لا یخرج عن الدائرة الضیّقة للطائفة أو المذهب أو المنطقة. وهم "یکونون کما یُولّى علیهم"، و"یُولّى علیهم کما یکونون".. فتتکرّر المأساة فی کلّ حقبة زمنیة، طالما أنّ جذور المشکلة کامنة فی العقلیة الضیّقة التی تتحدّث عن "العولمة" من جهة، وتتصرّف بوحی من مصالح الحی والشارع و"الزاروب" من جهة أخرى!

ربّما یتفاءل البعض الآن بطبیعة "تعدّد الطوائف" فی کلٍّ من خندق الموالاة والمعارضة، وبعدم وجود انقسام شبیه بحال لبنان عام 1975 بین منطقتین: شرقیة وغربیة بألوان طائفیة حادّة. هذا صحیح، لکن الصحیح أیضاً أنّ الحرب اللبنانیة اختتمت بصراعات مسلّحة داخل کلّ منطقة بین میلیشیات وقوى المنطقة نفسها. وذلک یعنی أنّ المراهنین على إشعال الساحة اللبنانیة الآن یریدون حروباً أهلیة لبنانیة ولیس حرباً واحدة .. یریدون الصراعات بألوان سیاسیة (مع الحکومة أو المعارضة- مع المقاومة أو ضدّها- مع هذا الطرف الأقلیمی أو الدولی، أو ضدّه) بینما واقع الحال هو موزاییک من القوى الطائفیة والمذهبیة والتی إن تصارعت فستکون صراعاتها بطابع "شرقیة/شرقیة" و"غربیة/غربیة"، ولیس صراعات سیاسیة تستبعد العنف المسلح من أسالیبها. فکم هو حلم بعید أن تصل التجربة الدیمقراطیة اللبنانیة إلى مرحلة لا یتردّد فیها شعار (بالروح بالدم) وبأن یکون الاحتکام فیها فقط إلى صندوق الاقتراع وإلى (الورقة والقلم)!.

لبنان الیوم أمام مفترق طرق: إمّا الیقظة من کابوس الواقع والدخول فعلاً فی وفاق وطنی داخلی حقیقی یبدأ بتکریس انتخاب العماد میشال سلیمان المجمَع علیه داخلیاً وخارجیاً، أو العودة للفوضى الأمنیة والسیاسیة التی تستهدف لبنان وسوریا والفلسطینیین والمنطقة العربیة کلّها.

والأمر یتوقّف الآن على کلّ الأطراف المحلیة اللبنانیة وعلى تفاهم سوریا والسعودیة ومصر معاً قبل غیرها من دول المنطقة، وعلى إدارة بوش التی ساهمت فی تأزیم الأوضاع أکثر من مرّة.

فلیس من مصلحة لبنان والعرب جمیعاً تجدّد الفوضى الأمنیة على الأرض اللبنانیة، لکن التدخّل الأجنبی لا یحدث على أرضٍ فراغ. فالمحاولات الحثیثة لتدویل الأزمة السیاسیة اللبنانیة تحتاج إلى أزمات أمنیة تبرّر مظلّة التدویل، تماماً کما حدث فی جنوب السودان حیث تحوّلت القضیة الداخلیة السودانیة إلى المحافل الدولیة فأفرزت اتفاقات على کیفیّة إدارة السلطة والثروات، وتتطلّع بعد أزمة دارفور إلى تحویل کیان السودان إلى "نظام فیدرالی" ذی مرجعیة دولیة وبحمایة قوات أجنبیة!

حرب لبنان عام 1975 بدأت بالتحذیر من مشاریع "قبْرصة" لبنان (نسبة لما حدث قبل ذلک فی قبرص)، والآن هناک تحذیرات من "عرْقنة" لبنان.. بینما الصفة الحقیقیة لما هو مطلوب أن یحدث هو "صهْینة" لبنان والمنطقة کلّها من خلال النجاح فی تفتیت الکیانات العربیة القائمة ومن ثمّ إعادة ترکیب کلٍّ منها (کما حدث فی العراق والسودان) بأشکال فیدرالیة و"نفحات دیمقراطیة"، وبمضافین طائفیة وعرقیة مهدّدة بالانفجار فی أیّ وقت.

إنّ تسهیل المبادرة العربیة وتنفیذ مضامینها سیکون امتحاناً لکلّ الأطراف، اللبنانیة والعربیة والدولیة، عن مدى تمسّکها بوحدة لبنان وسیادته واستقراره وأیضاً بالعملیة السیاسیة الدیمقراطیة وبالحریّة المنشودة لشعب لبنان. ولیکن الاحتکام مستقبلاً فی معالجة القضایا العالقة إلى صندوق الاقتراع وإلى الانتخابات المنصوص علیها فی عناصر المبادرة العربیة.

إنّ الهزیمة العسکریة لإسرائیل مرّتین فی لبنان (2000 و2006) واضطرارها للانسحاب من أراضیه بفعل المقاومة اللبنانیة، لم تکن هزیمة نهائیة للمشروع السیاسی الإسرائیلی، بل سعت إسرائیل منذ تحریر لبنان من احتلالها عام 2000 إلى جعل أیّة مقاومة لها بمثابة إرهاب دولی یجب محاصرته وعزله، وإلى جعل الموقف من المقاومة اللبنانیة مسألة ینقسم علیها اللبنانیون.

طبعاً، هو سؤال لبنانیّ مشروع عن مستقبل سلاح المقاومة وعن مصیر دمجها بالجیش اللبنانی، وعن ضرورة حصر العناصر المسلحة بالمؤسسات الرسمیة فقط، لکن هذا الأمر أصبح، کما القضایا اللبنانیة الأخرى، مادة فی صراع إقلیمی/دولی ومشاریع سیاسیة للمنطقة، عوضاً عن اعتباره مسألة وطنیة عامة اشترک کلّ لبنان فی تحمّل تبعاتها خلال فترة مقاومة الاحتلال الإسرائیلی، وهی قضیة مرتبطة حتماً بتوفر سیاسة دفاعیة لبنانیة تضمن ردع أی عدون إسرائیلی.

هناک اتفاق بین المعارضة والموالاة على الإشادة بدور الجیش اللبنانی وبحکمة ووطنیة قائده، وفی حرصه على ضبط الأمن عموماً دون المسّ بحقّ حرّیة التعبیر بأشکاله کافّة، بما فی ذلک حقّ المسیرات الشعبیة.

لکن هل نسی اللبنانیون أنّ الجیش اللبنانی کان حتى عام 1990، وقبل الحرب اللبنانیة عام 1975، بؤرة صراع داخلی لبنانی وأنّه شهد فی فترات الحرب انقسامات حادّة، قاتلت الألویة العسکریة فیه بعضها البعض وانتهت الحرب بمعارک قامت بها قیادته العسکریة آنذاک ضدّ کلّ الأطراف، بما فیها میلیشیا "القوات اللبنانیة" التی کانت تنافس العماد میشال عون على السلطة العسکریة فی المناطق ذات الکثافة السکانیة المسیحیة؟

أیضاً، فإنّ الجیش اللبنانی کان قبل عام 1990 محسوباً على فئة دون أخرى من اللبنانیین، وکان غائباً عن عقیدته العسکریة أیّة مفاهیم لماهیّة العدوّ، ولم یکن (الجیش اللبنانی) فی حال من التعبئة المعنویة أو السیاسیة ضدّ العدوّ الإسرائیلی رغم أنّ إسرائیل قامت عام 1968 (وقبل وجود أی عمل فلسطینی مسلح على أرضه وقبل وجود أی قوات سوریة) بالاعتداء على مطار بیروت ودمّرت کلّ الطائرات المدنیة اللبنانیة دون أیّ ذریعة أو سبب آنذاک سوى سعی إسرائیل لتحطیم الاقتصاد اللبنانی وإدخال لبنان عنوةً بأتون الصراع معها بعدما تجنّب لبنان ذلک فی حرب عام 1967 فنفذ بجلده لکن لم ینفذ بلحمه وعظمه ودمه کما أثبتت بعد ذلک تداعیات الأمور.

إنّ اتفاق الطائف عام 1989 رسم هدفاً للقوات المسلحة اللبنانیة: (یجری توحید وإعداد القوات المسلحة وتدریبها لتکون قادرةً على تحمّل مسؤولیاتها الوطنیة فی مواجهة العدوّ الإسرائیلی)، کما ورد فی الفقرة (ج) من البند الثالث من وثیقة الطائف.

وقد نجح العماد إمیل لحود، الذی کان قائداً للجیش قبل تولّیه رئاسة الجمهوریة، فی إعادة بناء الجیش اللبنانی وتوحیده وإعداده على مفاهیم واضحة عمَّن هو العدوّ ومن الصدیق، کذلک فعل ویفعل العماد میشال سلیمان منذ تولّیه قیادة الجیش.

لذلک، فإنّ حدیث قوى الموالاة الإیجابی عن الجیش اللبنانی لا یمکن أن یکون صادقاً أو دقیقاً ما لم تشمل هذه الإیجابیة أیضاً من أشرفَ على إعادة بناء الجیش وتوحیده وفق مفهوم وطنی واحد جدید!.

طبعاً، هناک وسط الأطراف اللبنانیة الیوم من هم ضدّ اتفاق الطائف، لکن وثیقة اتفاق الطائف نصّت على قضایا لبنانیة سیاسیة داخلیة هامّة لم تنفَّذ بعد، وهی لو نُفّذت لما کان هناک أیّ خوف على فتنة داخلیة من جدید فی لبنان. فاتفاق الطائف طالب بضرورة إلغاء الطائفیة السیاسیة، وبانتخاب مجلس نواب على أساس وطنی لا طائفی، وباستحداث مجلس للشیوخ ومجلس قضائی أعلى لمحاسبة ومحاکمة المسؤولین .. فأین هی هذه القضایا الهامّة التی لو جرى تطبیقها فعلاً خلال ال15 سنة الماضیة لما تأزّمت الأمور السیاسیة داخلیاً کما هو حالها الآن؟

لقد اقتسم الحاکمون منذ عام 1990 الحکم ومنافعه، وحاول کلّ طرف أن یجعل من نفسه ممثلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلیة نفسها التی کانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جیل ما بعد الحرب فی بیئة سیاسیة فاسدة معتقداً أنّ المشکلة هی فی "الآخر" اللبنانی أو السوری (أو ربّما فی اتفاق الطائف نفسه لدى البعض)، لکن لم یدرک هذا الجیل الجدید أنّ مشکلة وطنه ومشکلة مستقبله هی فی الترکیبة السیاسیة التی تتولّى إعادة البناء السیاسی والتی ترفض التخلّی عن امتیازات النطق السیاسی باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.

حبّذا لو أنّ الشباب اللبنانی یتحرک أیضاً للمطالبة بحرّیته من زعامات سیاسیة طائفیة موروثة، بعضها یورث أبناءه العمل السیاسی وهو ما زال على قید الحیاة السیاسیة!.

حبّذا لو أنّ الجیل اللبنانی الجدید یطالب بسیادته على القرار السیاسی اللبنانی المتعلّق بمستقبله ومستقبل وطنه وذلک من خلال بناء مجتمع لبنانی جدید لا طائفی، تکون خمیرته هذا الجیل الجدید المتحرّر من الإرث السیاسی التقلیدی القابض على لبنان لعقود طویلة.

لو یتساءل الشباب اللبنانی: تُرى لماذا تمارس الدیمقراطیة فی لبنان فقط من خلال توریث معظم الحاکمین والمعارضین لأبنائهم وأقاربهم؟ ثمّ لماذا تنتقل البندقیة من کتف إلى کتف على جسم هذا الزعیم أو ذاک، وتتغیّر تحالفاته الإقلیمیة والدولیة من أقصى الیسار إلى أقصى الیمین، لکن لا یتغیّر عنده قانون التوریث السیاسی؟ ألیس حال کهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج کلّما دعت الضرورة؟ ألا یجعل هذا الأمر من لبنان مزرعة لا وطناً؟ ویحوّل الناس من شعب إلى قطیع یُساس ثمّ یُذبَح عند الحاجة؟!

أوَلیس ذلک هو السبب الأول لکثرة التدخّل الإقلیمی والدولی فی الساحة اللبنانیة؟

( المقال للدکتور صبحی غندورمدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن)

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 142691







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  2. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  3. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  4. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  5. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  6. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  7. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  8. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  9. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
  10. طهران ترفع الستار عن وثائقي للمقاومة في فلسطين وايرلندا
  11. حكومة الاحتلال تقرّر توسيع الحرب على غزة رغم التحذيرات
  12. وزير العلوم الإيراني: الرأي العام العالمي لا يعترف بالكيان الصهيوني
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)