شباب لبنان بین "دیمقراطیة" بوش وسلاح المقاومة

لقد کانت السنوات الماضیة حافلة بالتطورات والمتغیّرات اللبنانیة والعربیة والدولیة، ولعلَّ أبرزها فی الساحة اللبنانیة هو اغتیال رئیس الوزراء السابق رفیق الحریری وتداعیات ذلک على العلاقات السوریة/اللبنانیة وعلى مصیر سلاح المقاومة اللبنانیة.

وکم هو مؤسف الحال اللبنانی الآن حیث تصدّعت وحدة عناصر کثیرة (لبنانیة وعربیة وإقلیمیة) کانت وراء الانتصار على الاحتلال الإسرائیلی. وتحوّل سلاح المقاومة اللبنانیة وقوى لبنانیة وعربیة وإقلیمیة دعمته إلى "عدو" وإلى مشاکل یبحثها ویقرّر فیها مجلس الأمن الدولی!

إنّ سلاح المقاومة لم یحرّر لبنان فقط من الاحتلال الإسرائیلی، بل کان له الفضل فیما یشیر البعض إلیه الآن من أهمّیة السیادة اللبنانیة على کلِّ الأراضی اللبنانیة. فإنهاء الاحتلال الإسرائیلی کان هو المدخل لسحب القوات السوریة على مراحل ثم انسحابها الکامل من لبنان تنفیذاً لاتفاق الطائف. فلو لم تجبر المقاومة إسرائیل على الانسحاب هل کان ممکناً للبعض أن یدعو فیما بعد إلى خروج القوات السوریة من لبنان؟ ثم هل کان ممکناً مطالبة المسلّحین الفلسطینیین بعدم الانتشار المسلح خارج المخیمات لو کانت هناک قوات إسرائیلیة محتلّة فی مناطق هذه المخیمات؟ 

ولا أعلم ما هی الحکمة اللبنانیة من تصعید التوتر السیاسی الآن حول موضوع سلاح المقاومة، فمن هو الطرف الذی سیقوم بنزع هذا السلاح، لو سلّمنا جدلاً بضرورة ذلک؟! إنّ هذا المطلب الأمیرکی/الإسرائیلی کان مفهوماً خلال فترة وجود القوات السوریة فی لبنان، لکن من هی الجهة الممکن تکلیفها حالیاً بهذا العمل؟ هل هی إسرائیل التی کانت أصلاً تحتل لبنان وانهزمت فیه واضطرّت للانسحاب منه، ثم فشلت مرة أخرى فی هذا الهدف بعدوانها صیف العام 2006؟ أم هی قوات أمیرکیة ودولیة تتعثر وتفشل فی العراق وأفغانستان وتبحث عن مخرج لائق لها؟. إنّ المراهنة لیست حتماً على قوًى خارجیة لتنفیذ هذه المهمة، بل على قوًى لبنانیة تقبل من جدید مسؤولیة تفجیر الوضع الداخلی اللبنانی من أجل مصالح ومشاریع خارجیة. 

واشنطن ترى فی التطورات السیاسیة الحاصلة فی لبنان منذ العام 2005 أنّها "نموذج دیمقراطی" فقط لأنّها حدثت بمواجهة سوریا، بینما تجاهلت واشنطن منذ عام 2000 نموذجاً لبنانیاً فریداً فی تاریخ الصراع العربی/الإسرائیلی حیث أجبرت المقاومة اللبنانیة إسرائیل على تنفیذ قرار مجلس الأمن 425 والانسحاب من الأراضی اللبنانیة دون شرط أو معاهدة أو تنازلات لبنانیة.

وهذا النموذج اللبنانی فی المقاومة ضدّ الاحتلال هو بحدّ ذاته خیر نموذج للحریّة بمعناها الحقیقی، ولیس فقط کشعار یتحدّث عنه دائماً الرئیس بوش.

فالحرّیة، قبل أن تُمارس کعملیة دستوریة دیمقراطیة بین المواطنین، هی حرّیة الأرض وحرّیة الوطن وسیادة الشعب على أرضه وقراره الوطنی.

وکم هو مؤسف ومحزن معاً أن تقترن الدعوة للدیمقراطیة الآن بالتدخّل الأجنبی من الخارج وبالانقسام الطائفی والعرقی من الداخل، وبنموّ المشاعر المعادیة للانتماء العربی وللهویّة العربیة المشترکة. فسمات "الدیمقراطیة البوشیة" المطلوبة فی أجزاء عدیدة من الأرض العربیة: دعوة للتدخّل الأجنبی المباشر وحمایة بعض الداخل من بعضه الآخر بقوات أجنبیة، ثمّ عملیات سیاسیة دیمقراطیة تغذّی الفرز الاجتماعی والطائفی والعرقی أکثر ممّا هی تعبیر صحّی سلیم عن تعدّدیة فی المجتمع وتنوّع فی الترکیبة السیاسیة والعقائدیة.

لقد أصبح المستهدف الأوّل فی لبنان هو رأس النّموذج المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائیلی، لیکون المنتصر بعد ذلک "نموذج الاقتتال الدّاخلی" وصراع الطوائف والمذاهب والمناطق، وصیغ الکانتونات الفیدرالیّة الخاضعة للهیمنة الخارجیّة والمتشابکة مع المصالح والغایات الإسرائیلیّة فی المنطقة العربیّة.

لکن حسم التأرجح فی الخیارات القادمة للبنان، لن یتوقّف فقط على مقدار التفاهمات الدولیّة والإقلیمیة بشأن لبنان، ولا فقط على "حکمة" الموالاة والمعارضة فیه، بل سیکون العامل الأهم هو مقدار وعی الشّعب اللبنانی عموماً، وجیل الشباب تحدیداً، بالذی أمامه من احتمالات وخیارات، وبما علیه من مسؤولیّة ودور فی ضبط إیقاع الصراعات الداخلیّة والمشاریع الخارجیّة، وعدم الانجرار من جدید إلى أتون الصراعات المسلّحة والحرب الأهلیّة.

فجیل الشباب فی لبنان هو أداة أی صراع مسلّح أو تفجیر أمنی، وقد حدث ذلک عام 1958 بعد 15 سنة على استقلال لبنان عام 1943. ثمّ بعد 17 سنة، کان جیل لبنانی آخر هو ضحیّة بدء الحرب الأهلیّة عام 1975 والّتی استمرّت لمدّة 15 سنة.

هناک الآن جیل لبنانی جدید بعد 15 سنة تقریباً من الاستقرار النّسبی الذی تحقق بعد إتفاق الطائف، لم یعرف جیّداً مآسی الحرب وثمنها الباهظ على نفسه وعلى أهله ووطنه ومستقبله. وهذا الجیل الحاضر للأزمة السیاسیّة الرّاهنة الآن بإمکانه حسم الخیارات، فهو وقود أی أزمة کما هو طلیعة أی حلّ.

الجیل اللبنانی الجدید مطالب الآن فی الذّکرى الثالثة لاغتیال رفیق الحریری، بأن یعطی النموذج السّلیم للبنانیین أوّلاً قبل الحدیث عن "النموذج الدیمقراطی اللبنانی" للعرب عموماً. النموذج السّلیم فی الإصرار على إعادة بناء النظام السیاسی على أسس وطنیّة دیمقراطیّة غیر طائفیّة أو مناطقیّة. فعطب الدّاخل هو الذی یسهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعلیّة التأثیرات السلبیّة الخارجیّة.

الجیل اللبنانی الجدید قادر على صنع "نموذج لبنانی" یقوم على الدیمقراطیّة السلیمة فی الداخل وعلى التحرّر من أی هیمنة خارجیّة، فی ظلّ الحفاظ على "نموذج لبنان المقاوم" الذی حرّر الوطن من الاحتلال الإسرائیلی، فذلک هو المدخل الصحیح لإنهاء أی وجود مسلّح غیر لبنانی شرعی على الأرض اللبنانیّة. إذ طالما هناک عدوان إسرائیلی على الأرض اللبنانیّة والسیادة اللبنانیة، ستکون هناک حاجة أو مبرّرات أو أعذار للمقاومة ولدعم سلاح إقلیمی آخر.

الجیل اللبنانی الجدید مطالب الیوم بأن یعطی نموذجاً فی الاحتکام للمؤسّسات المدنیّة وللوسائل الدیمقراطیّة فی العمل الشعبی والسیاسی وفی رفض أسلوب العنف أو الاحتکام للسلاح مهما کانت سخونة القضایا الداخلیّة أو صعوبة الاتّفاق حولها. فلیکن الاحتکام إلى العمل السیاسی أو التحرّک المدنی الشعبی المنضبط من أجل إنهاء الفراغ الدستوری الحاصل وتثبیت التوافق الوطنی الشامل حول العماد میشال سلیمان وحول مؤسسة الجیش، ومن ثمّ العمل من أجل انتخابات نیابیة سلیمة تفرز ممثلین حقیقیین عن القطاعات الشعبیّة ولیس ورثة إقطاع سیاسی ومالی فی هذه المنطقة أو تلک، أو فی هذا الکانتون الطائفی أو ذاک.

الجیل اللبنانی الجدید قادر على إیقاف التعامل مع الناس وکأنّهم قطیع من الغنم یسوقهم الرّاعی الطائفی بعصا أو بفتات من العشب، ثمّ یورث القطیع لمن بعده فی أسرته، فیبقى الغنم غنماً والرّاعی راعیاً!!

مطلوب الآن نموذج من جیلٍ لبنانیٍّ یکون لبنان المستقبل من خلاله هو شعلة نور لنفسه ولمن حوله، لا شعلة نار تحرق الأرض والشعب والوطن.

( المقال للدکتور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن )

ن/25