قمة دمشق: انتصرت سوریا وانهزم التحریض الأمریکی
حاولت القیادة السوریة، بدعم من زعماء الدول الحاضرین، على أن تخرج القمة العربیة، کما بدأت؛ فى کنف الهدوء و"التضامن" العربى وأن بتعد ما أمکن عن التعرض للغائبین بالسلب، وخاصة السعودیة التى أشار إلیها الرئیس السورى فى کلمته بالإیجاب، کما امتدح رئیس دبلوماسیته دورها الإقلیمى ودعاها إلى المساعدة فى حلحلة الملف اللبنانی.
وعزا محللون شهدوا أعمال قمة دمشق، هذا الخطاب الهادئ إلى حرص سوریا وبعض الزعماء الحاضرین على سحب البساط من تحت رجلى أمریکا ومنعها من الاصطیاد فى الماء العکر واللعب على التناقضات العربیة.. القیادة السوریة حفظت هیبة السعودیة وتمسکت بأن یظل دورها قویا من خلال إعادة تبنى "المبادرة العربیة" التى هى فى عمقها وأصلها والحماس لتسویقها، جهد سعودی، کما أعادت القمة تبنى الموقف السعودى فى خصوص الملف اللبنانى حیث دعت إلى انتخاب العماد میشال سلیمان کرئیس توافقی..
السعودیة غابت، ولکن رؤیتها تجسدت بإجماع الذین اختلفوا معها.. فإذا هم أحرص منها على حضورها ودورها القومی.
وقد جاء إعلان دمشق الذى تلاه الأمین العام للجامعة العربیة عمرو موسى الأحد معبرا عن هذا التوجه حیث دعا الى ضرورة تجاوز الخلافات العربیة ــ العربیة ، والى إعادة النظر فى عملیة السلام مع إسرائیل، وجدد التمسک بالمبادرة العربیة کإطار لحل الأزمة اللبنانیة . وقال موسى خلال تلاوته لإعلان دمشق، إن بنود الإعلان رکزت على أهمیة التضامن العربی، إضافة إلى ضرورة الانطلاق فى عملیة السلام بناء على تقییم ما تم تسجیله إلى الآن.
وأضاف أن الرؤساء والزعماء العرب اتفقوا على ضرورة الالتزام بتعزیز التضامن العربى بما یصون الأمن العربى لکل دولة ویحترم سیادتها واستقلالها، إضافة إلى عدم التدخل فى شؤون أى دولة، مشددا على ضرورة تنفیذ مقررات القمة العربیة والجامعة العربیة. وقال موسى إن المجتمعین شددوا على العمل لتجاوز الخلافات العربیة العربیة من خلال الحوار الجاد وتلافى أوجه القصور فى هذه العلاقات، وتغلیب المصلحة العربیة العلیا، لافتین إلى التصدى لأى تدخلات خارجیة من شأنها تعزیز الخلافات، وذلک فى إطار میثاق الجامعة العربیة.
وبعکس الأجواء الإعلامیة المرافقة للقمة، والتى اعتبرت قمة دمشق قمة هزیمة الضغوط الأمیرکیة، ولمحت إلى السمات النضالیة أو المواقف القومیة للقادة الذین شارکوا فى أعمال القمة بصفة شخصیة، اتسمت الکلمة الافتتاحیة للرئیس السورى بالتوازن، والمرونة البالغة، وهو یستعد لأن یجعل من فترة رئاسته لمؤسسة القمة العربیة خطوة تأسیسیة لمرحلة من التنسیق العربى الفاعل والمؤثر إقلیمیا ودولیا، کما یرکز الإعلام السورى عبر التلفزة والإذاعة السوریتین، بالرغم من أنه بدت على وجهه ابتسامات عریضة متجاوبة مع کلمة الزعیم اللیبى بالغة الصراحة فى نقد الواقع العربی.
بل إن الرئیس بشار الأسد بدأ کلمته بلفتة تصالحیة حین تحدث عن بذل سوریا لکل الجهود على تهیئة الظروف المناسبة لإنجاح القمة، وسعیها لتجاوز الکثیر من العقبات التى تعترض سبیلها. وکان أکثر وضوحا وهو یجیز تعدد الاجتهادات فى فهم الواقع العربى والعمل على معالجته، دون أن یتعصب لرؤیة سوریا وموقفها على حساب رؤى ومواقف أطراف أخرى.
تعبیرا عن ذلک قال الأسد "ومهما تکن آراؤنا حول طبیعة هذه الأخطار "التى تحیق بالأمة العربیة" وأسبابها وسبل مواجهتها، "ومن الطبیعى أن یحمل أبناء الأسرة الواحدة أفکارا متعددة تجاه القضیة الواحدة" فإن مما لا شک فیه أننا جمیعا فى قارب واحد أمام أمواجها العاصفة، وأنه لا بدیل عن التشاور والتضامن والعمل المشترک لتوحید صفوفنا واستعادة حقوقنا وإنجاز التنمیة لبلداننا". ثم هو دعا صراحة للحوار الصادق لمعالجة التقدیرات المتباینة فى الرؤیة وطریقة العلاج.
انسیاقا مع هذه المرونة، وجه الرئیس الأسد دعوة "لمراجعة مضامین خیاراتنا الإستراتیجیة والبحث عن الموقف المتوازن الذى یوائم ما بین متطلبات السلام العادل والشامل، وما یعنیه من عودة الأراضى المحتلة، وضمان الحقوق المشروعة من جانب، وما بین توفیر الحد الأدنى من عناصر الصمود والمقاومة". قبل ذلک أشار الرئیس السورى إلى أن کل المشاریع السلمیة التى تقدم بها النظام العربى وجدت فقط الصد الإسرائیلی. بهذه المرونة تحدث الرئیس السورى عن ثلاث قضایا عربیة رئیسة.
أولا: القضیة الفلسطینیة:
بخلاف ما هو سائد، ویسعى البعض لإشاعته من أن سوریا منحازة سیاسیا لمواقف حرکة "حماس" فى خلافها مع منظمة التحریر الفلسطینیة، إن لم تکن هى المحرضة لها على الخلاف، بین الرئیس السورى "أن الأولویة یجب أن تکون للحوار بین الفلسطینیین".
وأضاف "نقول للإخوة الفلسطینیین إن عدوکم سیستغل أى انقسام من أجل تنفیذ المزید من المجازر بحقکم وبحق أبنائکم وهو لا یفرق بین أى عربی، سواء کان فلسطینیا أو من أى قطر عربى آخر. فلا تقعوا فى وهم أن یفرق بین فلسطینى وآخر، أو بین الضفة وغزة، ولا بین منظمة وأخرى".
هذا الکلام الذى یبدو فى ظاهره أنه موجه لقیادة منظمة التحریر وحرکة "فتح" أکثر من غیرهما، سرعان ما صحح الرئیس السورى مثل هذا الفهم بإعلانه تقدیر سوریا ودعمها "للمبادرة الیمنیة لاستئناف الحوار والتى نراها إطارا مناسبا للاتفاق بین الأطراف الفلسطینیة". علما أن المبادرة الیمنیة تتبنى وجهة نظر الرئیس الفلسطینى محمود عباس الداعیة إلى إجراء انتخابات رئاسیة وتشریعیة مبکرة، وإعادة الأوضاع فى غزة إلى ما کانت علیه قبل الحسم العسکری، الذى اسماه عباس فى کلمته بالانقلاب الذى نفذته "حماس".
ثانیا: الأزمة اللبنانیة:
کان الرئیس السورى شدید الوضوح فى معالجته للأزمة اللبنانیة، وعلى محورین:
الأول، هو التأکید بلغة شدیدة الوضوح على "حرصنا على استقلال لبنان وسیادته واستقراره".
والثانی، توضیح "ما أثیر حول ما یسمى التدخل السورى فى لبنان، والدعوات والبیانات والضغوطات لإیقافه". وقال "بکل صدق إن ما یحصل على الواقع هو عکس ذلک تماما. فالضغوطات التى مورست وتمارس على سوریا منذ أکثر من عام وبشکل أکثر کثافة وتواترا منذ عدة أشهر، هى من أجل أن تقوم سوریا بالتدخل فى الشؤون الداخلیة للبنان". ویقصد أن تتدخل سوریا من أجل إرغام المعارضة اللبنانیة على تقدیم تنازلات لحکومة الأغلبیة الحالیة.
ثالثا: الأزمة العراقیة:
تحدث الرئیس الأسد عن الأزمة العراقیة بلغة تمیزت بذات التوازن. فهو یقر بأن "العراق الشقیق یعانى أوضاعا قاسیة تتطلب تضافر الجهود لدعمه ومساعدته فى تحقیق سیادته وأمنه واستقراره على أساس من الوحدة الوطنیة التى تضم جمیع مکونات الشعب العراقی، نقطة البدء فیها تحقیق المصالحة الوطنیة بین أبنائه وصولا إلى تحقیق الاستقلال الکامل وخروج آخر جندى محتل".
وبعد أن یتحدث عن "خروج آخر جندى محتل"، دون أن یشیر إلى دور الولایات المتحدة فى احتلال العراق، بطلب من الجهات الحاکمة الآن فى بغداد، یعود ویحمل "مسؤولیة تعزیز الحضور العربى فى العراق"..لـ"التعاون والتنسیق مع حکومته".. مرکزا على أن "الدعم الدولى والإقلیمى "الأمریکى والإیرانی" کلاهما لا یشکل بدیلا لدورنا "العربی" فى الحفاظ على استقرار العراق وعروبتهِ" رافضا بشکل ضمنى انفراد إیران بتقریر مصیر العراق.
وختم الرئیس السورى کلمته بالغة التوازن بالإشارة إلى قضیتین:
الأولى: الإرهاب، الذى اعتبره ظاهرة تشغل سوریا "کواحدة من التحدیات الراهنة التى تواجهنا"..مؤکدا "إدانتنا للممارسات الإرهابیة التى تستهدف الأبریاء ووقوفنا الحاسم ضد الإرهاب"، والفصل والتفریق بینه وبین "اعتبار مقاومة الاحتلال حقا مشروعا للشعوب تکفله المواثیق الدولیة والأعراف الإنسانیة"..مؤکدا أیضا على "اعتبار إرهاب الدولة الإسرائیلى ضد أبناء شعبنا العربى یمثل أکثر أشکال الإرهاب فظاعة فى العصر الحدیث".
الثانیة: إثارة قضیة الإصلاح فى العالم العربى من وجهة نظر سوریا، بعد أن کان غیاب بند الإصلاح عن جدول أعمال القمة لافتا، حین لم تعد واشنطن تطالب النظام العربى :"الصدیق فى غالبیته" بتحقیق خطوات إصلاحیة، وهو الذى کان یرکز على ضرورة أن یأتى الإصلاح من الداخل لا من الخارج.
فقد تحدث الرئیس الأسد عن وجوب "أن نمضى فى عملیة الإصلاح الداخلى الذى یلبى متطلباتنا الوطنیة والتنمویة، وینسجم مع معطیاتنا الثقافیة، وألا نتهاون فى رفض أى شکل من أشکال التدخل فى شؤوننا، مهما اتخذ من عناوین، ومهما توسل من أسالیب واعتمد من أدوات".
عموما، تمسکت جمیع الکلمات التى ألقیت فى الجلسة الافتتاحیة للقمة العربیة بالکثیر من التوازن، والمرونة فى التعبیر عن المواقف غیر المتطابقة للقادة العرب، بما فى ذلک کلمة العقید القذافی، التى کانت بالغة الصراحة فى معالجته لمختلف القضایا العربیة، مکررا ما سبق أن طالب منذ قمة عمان سنة 2000 بأن یکون حل القضیة الفلسطینیة من خلال دولة دیمقراطیة تجمع الفلسطینیین والیهود.
الرئیس الفلسطینى بدوره أعلن مواربة، وبلغة دبلوماسیة، تنصله من إعلان صنعاء، فى الوقت الذى أشار فیه الرئیس السورى إلى طلب شرح هذا الإعلان من قبل الوفد الیمنی. عباس عبّر عن رفضه لهذا الإعلان بلغة دبلوماسیة، تجاهلت أیة إشارة للإعلان، وعادت للتمسک بموقفه المعلن السابق على توقیع الإعلان، الذى یطالب "حماس" بالتراجع عن انقلابها فى غزة أولا.
وقال محللون فى العاصمة السوریة إن صیغة البیان الختامى للقمة عبرت عن الخیار السورى فى التهدئة فقد جاءت فى سیاق اتفاق وتفاهم بین جمیع الوفود، وهو توافق تحقق فى اجتماعات وزراء الخارجیة التحضیریة، بالرغم من "الصراحة والعصف الفکری" الذى وصف به وزیر خارجیة سوریا نقاشات الوزراء.
التوازن على کل مطلب سورى بامتیاز فى هذه القمة، لأنه هو ما یهیئ لسوریا أن تقود العمل العربى المشترک خلال العام المقبل بأقل قدر ممکن من الخلافات. وهذا هو المقیاس الحقیقى لنجاح القیادة السوریة لمؤسسة القمة العربیة، بأکثر مما یتجلى فى جلسات المؤتمر، وهذا هو الهدف الفعلى للقمة..أى قمة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS