الحوار الوطنی الفلسطینی.. لا نتائج جدیة قبل عام 2009
لا یجب النظر إلى الجولة الأخیرة من الحوار الوطنی الفلسطینی التی جرت فی العاصمة الیمنیة صنعاء إلا فی السیاق التاریخی والطویل لهذا الحوار الذی یعتبر عمره من عمر الثورة الفلسطینیة المعاصرة أی انه تجاوز عامه الثالث والأربعین بشهور.
طوال مسیرة الثورة الفلسطینیة ترجم الحوار أو بالأحرى عناوینه العریضة والرئیسیة المحطات أو التحدیات الصعبة والمصیریة التی واجهتها القضیة الفلسطینیة فى البدایات تمرکز الحوار حول استیعاب النکبة والرد علیها بمستویاتها المختلفة التاریخیة والأیدیولوجیة والسیاسیة والأمنیة والتنظیمیة بعد ذلک خاصة فی النصف الثانی من الستینیات تمرکز حول الإطار التنظیمی الذی یجب أن یخوض من خلاله الشعب الفلسطینی الکفاح وکذلک حول السبل أو الوسائل المناسبة والملائمة للکفاح بما یکفل تحقیق الأمال الوطنیة للشعب الفلسطینی والمتمثلة بالتحریر والعودة وتقریر المصیر.
فی السبعینیات من القرن الماضى ترکز الحوار حول البرنامج المرحلی وانخراط منظمة التحریر بالعمل السیاسی والدیبلوماسی والاشتباک التفاوضى او الکفاح بکل السبل من أجل نیل الحقوق الوطنیة، فی الثمانینات بعد صدمة الخروج من بیروت وتشتت منظمة التحریر سیاسیاً وجغرافیاً والانقسامات التی ضربت حرکة فتح والمنظمة بشکل عام، بدا التیه مهیمنا على الحوار الوطنی حتى اندلعت انتفاضة الحجارة التی شکلت عاملاً مهماً فی إعادة توحید المنظمة وتجاوز الانقسامات داخل فتح وخارجها، ومحاولة الاستفادة من الانتفاضة کرافعة لتحسین الموقع التفاوض والدبلوماسی والسیاسی للممثل الشرعی الوحید للشعب الباحث بداب وبجد عن آماله وطموحاته.
فی التسعینیات وطوال حقبة أوسلو کان التشظى والانقسام الوطنی عمیقاً جداً حول اتفاق أوسلو ومدى قدرته على استرجاع الحقوق وکذلک حول دور ومهام السلطة الفلسطینیة وعلاقتها بمنظمة التحریر والشتات الفلسطینی ورغم ظهور حرکتی حماس والجهاد بقوة على ساحة الفعل الفلسطینی السیاسى والمیدانی إلا أن الحوار کان شبه مجمد وبدلا من شعار لا صوت یعلو فوق صوت البندقیة هیمن شعار لا صوت یعلو فوق صوت المفاوضات وعملیة التسویة.
ورغم انهیار هذه العملیة واندلاع انتفاضة الأقصى دونما ترتیب أو تخطیط من أی جهة کانت إلا أن ذلک لم یکن کافیاً أیضاً للشروع فی حوار وطنی فلسطینی جدی لتقییم المراحل السابقة واستخلاص العبر ووضع الخطوط العریضة والسیاسات التی یجب اتباعها لمواجهة التحدیات المقبلة وربما مثل وجود الرئیس یاسر عرفات فی هذا الوقت حائلاً دون تحقیق هذاالأمر على أساس أنه شخصیاً یمثل الضمانة وصمام الأمان للمشروع الوطنی ومرکز ثقل ونقطة جذب الساحة السیاسیة والحزبیة بشکل عام.
الحوار الوطنی المعاصر لم یبدأ بشکل جدی وعملی حقیقی إلا بعد غیاب أو استشهاد الرئیس یاسر عرفات وفی هذا السیاق یمکن تقسیم الحوار إلى مرحلتین المرحلة الأولى تمتد من نهایة 2004 إلى بدایة 2006 والتی شهدت توقیع اتفاق القاهرة مارس آذار 2005 والمرحلة الثانیة الممتدة من مطلع 2006 إلى الربع الأول من 2007 والتی شهدت توقیع وثیقة الوفاق الوطنی اتفاق مکة وتشکیل حکومة الوحدة الوطنیة الأولى والأخیرة فی مسیرة السلطة الفلسطینیة.
مرحلة الحوار الأولى استهدفت سد الفراغ الذی ترکه الزعیم القائد والمؤسس والرمز للثورة المعاصرة کما أنها عبرت عن التقاء رغبات الطرفین الأساسیین فی الحوار ولکن من منطلقات أو حیثیات متباینة ففتح والرئیس ابو مازن هدفا إلى الحصول على الشرعیة الشعبیة والدیمقراطیة على المستوى الشخصی وأیضاً على المستوى السیاسی وتحدیداً فیما یتعلق بالخیارات التفاوضیة وعملیة التسویة مع إسرائیل، اما حماس فسعت للحصول على شرعیة شعبیة ودیموقراطیة لخیار المقاومة وللشراکة فی القرار على أساس أن لا طرف یمتلک الدعم أو النفوذ أو الثقل للاستفراد فی تحدید المصیر الفلسطینی الوطنی، تلاقی الرغبات السابق رغم اختلاف الدوافع أنتج توقیع اتفاق القاهرة مارس آذار 2005 والذى رسم خریطة طریق تضمنت ثلاثة بنود أساسیة الهدنة مع إسرائیل، الانتخابات البلدیة والتشریعیة,
واعادة بناء وتفعیل منظمة التحریر على أسس وطنیة ودیموقراطیة نزیهة ما یسهل القیام بدورها کممثل شرعی وحید للشعب الفلسطینی، سارت الأمور کما یجب فالتزم الجمیع بالتهدئة حتى نهایة العام 2005- حماس التزمت بذلک حتى منتصف 2006-.
غیر أن فوز حماس المفاجئ وغیر المتوقع والساحق فى الانتخابات التشریعیة اواخر ینایر 2006 لخبط وبعثر عدید من الأوراق فالرئیس أبو مازن بدعم من إدارة بوش بحث عن دمج حماس فی النظام السیاسی الفلسطینی واستغلال الانتخابات للمضی قدماً فی التسویة مع إسرائیل، حماس نفسها فوجئت ولم تکن تبحث سوى عن تشکیل کتلة قویة مانعة فی المجلس التشریعی، والساحة السیاسة والحزبیة تمنع التفرّد والاستئثار و تمنع توقیع أی اتفاق مع إسرائیل یتناقض مع المصلحة أو الحقوق الفلسطینیة، مفاجأة الانتخابات والتداعیات الإستراتیجیة الهائلة لها على الصعید الفلسطینی – الفلسطینی والصعد الإقلیمیة والدولیة دفعت باتجاه جولة أو جولات جدیة أخرى من الحوار الفلسطینی – الفلسطینی خاصة بعد الحصار الخانق الذی فرض على السلطة الفلسطینیة وحکومة هنیة الأولى والشعب الفلسطینی بشکل عام، رغم التباینات الهائلة أیضاً إلا أن الواقع الضاغط وحتى الجمهور الفلسطینى دفعا باتجاه حوار جدی تمخض عن وثیقةالوفاق الوطنی، منتصف حزیران 2006 والتی لم تأخذ حقها وفرصتها الکاملة بعد أسر جلعاد شالیت وحرب لبنان تموز 2006، غیر أن الموجات المتلاحقة من الاقتتال الداخلی بعد ذلک حثت الدول العربیة – مصر والسعودیة وسوریة – على بذل جهود هائلة لدفع الحوار فنتج عن ذلک اتفاق مکة وحکومة الوحدة الوطنیة و-على أساس وثیقة الوفاق الوطنی-، وکان یفترض بالاتفاق وحکومة الوحدة تهدئة وترتیب الوضع الداخلی واعطاء الوقت للهدنة مع اسرائیل وتحسین الوضع الأمنی فی ظل الفوضى الضاریة خاصة فی قطاع غزة، کذلک منح الوقت الکافی للرئیس محمود عباس للتفاوض مع إسرائیل ومن ثمة الرجوع بالمحصلة إلى المجلس التشریعی والمجلس الوطنی أو حتى الشعب الفلسطینی لإبداء الرأی بالموافقة أو الرفض، التدخلات الأمریکیة والإسرائیلیة و والتعاطی الفلسطینی قصیر النفس والنظر اوصلوا الى أحداث حزیران یونیو 2007 التی أدت بدورها إلى انهیار حکومة الوحدة وسیطرة حماس على غزة وإطلاق رصاصة الرحمة على المسیرة أو الرحلة الثانیة من الحوار الفلسطینی الجاد والبناء.
بعدما سالت الدماء فی حزیران یونیو 2007 اضحى الحوار الوطنی بعیداً وحتى شبه مستحیل فی ظل الشروط والأهداف المتضاربة، فالرئیس محمود عباس أصدر سلسلة من المراسیم الدستوریة واللادستویة أدت إلى انقلاب سیاسی ودستوری فی مواجهة الانقلاب العسکری والسیاسی لحماس فی غزة، أبو مازن بات مصراً على إنهاء مفاعیل الانقلاب وإجراء انتخابات رئاسیة تشریعیة مبکرة وفق النظام النسبى الکامل على أن یمارس الطرف الفائز بحریة تامة خیاراته وقناعاته السیاسیة فی السیاق وضع بعض العراقیل الأخرى الاعتراف بالتزامات منظمة التحریر والاتفاقیات التی وقعتها وإخراج الأجنحة العسکریة للفصائل الفلسطینیة خاصة فی الضفة الغربیة عن القانون، حماس ظلت مصرة على حوار غیر مشروط صمدت طوال الوقت مع سلسلة من الخطوات التی کرست سیطرتها وتحکمهابمقالید الأمور فی غزة من الناحیتین القانونیة والإداریة، وتعمقت الهوة اکثر خاصة بعد لقاء أنابولیس الذی مدد عمر المفاوضات الى نهایة 2008 کتاریخ مستهدف للتوصل إلى اتفاق نهائی للصراع و وبلورة حلول للقضایا الشائکة والحساسة والمصیریة مثل القدس والحدود واللاجئین مرحلة أنابولیس شهدت أیضاً ارتفاع وتیرة التباعد والانفصام على الساحة الفلسطینیة جلسة للمجلس المرکزی فی رام الله ولجنة تحضیریة لانتخاب مجلس وطنی جدید یستبعد أو یدفع باتجاه استبعاد کل المعارضین، اما حماس وحلفائها فعقدوا مؤتمراً وطنی فی دمشق زاد من حدة الاستقطاب وعمق الهوة والتباین بین الطرفین المتباعدین غیر أن مرحلة أنابولیس والمفترض أن تمتد من نهایة 2007 إلى نهایة 2008، شهدت حدثین مهمین اجتیاح الحدود المصریة مع قطاع غزة وکسر الحصار المفروض على حماس وحکومتها ولو لأیام معدودة زمنیا لکن لفترة طویلة سیاسیاً ومعنویاً، ومحرقة غزة التی کرست فشل بل استحالة الحل العسکری لإسقاط حماس او حتى إضعافها، الحدثین رفعا من شعبیة حماس فی الضفة وغزة وکما أشار استطلاع د. خلیل الشقافی الأخیر وزادا إحراج وضعف الرئیس محمود عباس خاصة بعد تعثر المفاوضات واستمرار الاستیطان واستمرار التضییق الاسرائیلى على حریة الحرکة للمواطنین والبضائع فی الضفة الغربیة والتی حسب منسق الشؤون الإنسانیة للأمم المتحدة لا تتمیز کثیراً عن غزة ولا تقدم نموذجاً للفلسطینیین یؤکد أرجحیة خیار فتح وأبو مازن على خیار حماس وحکومتها أمام تداعیات هذین المعطیین وأمام التحول النوعی فی موقف مصر وحماسها للعمل من أجل رفع الحصار وفتح المعابر خاصة معبر رفح – بعد تنازلات متبادلة من الجانبیین الرئیس محمود عباس و حماس- وفق معاهدة 2005 التی یصر علیها الأول مع تعدیلات بسیطة ولیست جوهریة لکن مهمة کما تطالب الثانیة وضعت بذرة أو نواة المرحلة القادمة من الحوار الوطنی الفلسطینی غیر أن هذا الأمر ما زال أسیر التباعد ووالخصام وربما کذلک أسیر ملفات عدیدة منها التهدئة والحصار وأهم من ذلک انتظار نتائج المفاوضات لاستخلاص العبر وبلورة التوافق على الخیارات التی یجب اتباعها تجاه تلک النتائج بناء على ذلک واستناداً إلى الموقف الإسرائیلی المصر على وقف المفاوضات فی حالة عودة الحوار الجاد وحکومة الوحدة بین حماس وفتح – أولمرت یقول أن مستوى حوارنا مع عباس متناسب عکسیا مع مستوى الحوار بین فتح وحماس-، فإن أبو مازن لا یملک خیار سوى مواصلة المفاوضات رغم الاستیطان والتعنت الإسرائیلی آملاً فی التوصل إلى اتفاق رف مع إسرائیل یتم الذهاب به إلى انتخابات مبکرة ورئاسیة وتشریعیة خاصة أن ولایته الرئاسیة ستنتهی بنهایة 2008، إلى حین ذلک فلا شىء یدفع الرئیس للحوار مع حماس أو تقدیم التنازلات لها مقابل والترکیزعلى بعض الملفات المرحلیة والتکتیکیة مثل التهدئة والمعابر بوساطة وجهد دوؤب من مصر , اما حماس فتعتقد أنها کرست سیطرتها على غزة وهی لیست فی مأزق خاصة بعد اجتیاح الحدود وفشل المحرقة الأخیر هی مستعدة للحوار دون شروط و فی السیاق تقبل مبدئیاً بطلبات الرئیس محمود عباس إجراء انتخابات رئاسیة وتشریعیة لکن بعد رفع الحصار والتهدئة وعودة الأمور إلى ما کانت علیه قبل حزیران 2006 بمعنى حکومة وحدة وطنیة حتى لو لم تکن برئاستها تشرف على إعادة بناء الأجهزة الأمنیة بشکل وطنی ومهنی وتشرف على انتخابات نیابیة ورئاسیة مبکرة ترى حماس إنها ستفوز بها حتما خاصة فی ظل الانهیار الواضح لحرکة فتح،- ودحلان قال للحیاة إن الحرکة تتهاوى بینما مساعى عقد المؤتمر العام للحرکة تواجه العراقیل والعقبات والعثرات والتباینات والسجالات الفتحاویة الحادة على أشدها.
ببساطة فإن الحوار الوطنی الجاد او المرحلة الثالثة منه تنتظر جلاء غبار المفاوضات والتسویة وجلاء غبار المساعى المصریة من أجل الهدنة أو التهدئة المفتوحة ربما کذلک جلاء غبار التدافعات والتجاذبات الإقلیمیة باختصار ولن یکون هناک حوار جاد وقبل بدایة العام المیلادی الجدید 2009.
( المقال لماجد عزام مدیر مرکز شرق المتوسط للدراسات والإعلام- بیروت )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS