التهدئة فخ لا یجب الوقوع فیه
لا نحاول هنا أن نکون الناصحین المرشدین أو الموجهین لأحد بغض النظر عمن یکون، کما ولا نبغی المزایدة على أی کان، هذا عدا عن أننا لا نحاول أن نقوم بالتنظیر فی مسالة نعتقد کما یعتقد الجمیع بأنها ذات حساسیة عالیة فی الساحة الفلسطینیة، بقدر ما نحاول أن نقرأ الموضوع بطریقة مختلفة، أو ربما هی محاولة منا من أجل أن نضع لها تصور أو قراءة أو ربما سیناریو مختلف، خاصة وأننا نقف أمام دولة (– إسرائیل- أثبتت کل التجارب التاریخیة الماضیة – معها- لیس مع الفلسطینیین فحسب وإنما مع الکثیر من الدول فی العالم بما فی ذلک الولایات المتحدة الأمیرکیة التی تعتبر الراعی والحلیف الاستراتیجی والممول والمزود بکل أنواع الأسلحة المتطورة لدولة الاحتلال) تعرف کیف تراوغ وتتملص من التزاماتها، فهی أی الدولة العبریة وعلى سبیل المثال لم تتردد بالتجسس على هذا الحلیف- قصة الجاسوس بولارد وغیره وهناک قصة طازجة تم الکشف عنها قبل حوالی من شهر-، وهی کذلک لم تتردد ببیع أسلحته وأسرار تلک الأسلحة من وراء ظهره إلى دول هی فی واقع الأمر تصنف على أنها معادیة للولایات المتحدة – مثل الصین وقصة فضیحة صفقة الأسلحة التی ظهرت قبل حوالی عامین- وترغب بالحصول على کل تلک الأسرار التی تتعلق بالأسلحة الأمیرکیة وخاصة المتطور منها.
مناسبة هذا الحدیث هو کثرة الحدیث عن موضوع التهدئة وإیقاف العملیات العسکریة المتبادلة بین کل من الفصائل الفلسطینیة وبین دولة الاحتلال الإسرائیلی برغم شرعیة هذه المقاومة وأنها مکفولة من قبل کل القوانین والشرائع الأرضیة والسماویة، کما وأن هذا الموضوع یتسبب فی الکثیر من الجدل والاختلاف فی الصف الفلسطینی، وقد یتسبب فی مواجهات – لیس بالضرورة عسکریة- بین تلک الفصائل التی تؤید التهدئة وتلک التی لا تؤید، بمعنى أن هنالک من الفصائل من ترى انه لا ضیر بأن تکون التهدئة فی قطاع غزة أولا ومن ثم یتم تعمیم التجربة على الضفة الغربیة، وهنالک من یرى بأنه لا بد من أن تکون هذه التهدئة شاملة فی الضفة الغربیة وقطاع غزة منذ البدایة. وفی هذه الحالة یرى هؤلاء بأنه إذا ما أقدمت دولة الاحتلال على أی فعل من الأفعال – اجتیاحات اغتیالات قتل وغیره – فی الضفة أو القطاع أو إذا ما أقدمت على القیام بعملیات أو أفعال تتعارض والتهدئة فان هذه الفصائل سوف تقوم بالرد على الاعتداءات والخروقات الإسرائیلیة.
نحن هنا لا ندعی بأننا نستطیع أن نقرر فی قضیة التهدئة، فهذا شأن له أصحابه، کذلک فإننا نعلم تمام العلم بأن الداعین إلى التهدئة سواء بشکل شامل منذ البدایة أو بشکل متدرج یبدأ من قطاع غزة إنما یدعون إلیها من منطلق الحرص على تحقیق ولو الحد الأدنى من مصلحة البلاد والعباد، ونحن لسنا بمجال التشکیک فی نوایا هؤلاء، لکن وإن خلصت نوایا الأطراف الفلسطینیة المختلفة فهل ترى لدى الطرف الآخر نفس النیة الخالصة فی تحقیق هذه التهدئة، خاصة وأننا استمعنا إلى الذرائع والحجج التی تقول بأن الأطراف الفلسطینیة إنما ترید التهدئة من اجل أن تقوی نفسها من خلال تهریب المزید من الأسلحة والأدوات القتالیة بالإضافة إلى ممارسة المزید من التدریب استعدادا للجولات القادمة.
إذن من هنا وقبل أن تبدأ التهدئة بشکل عملی صارت عملیة التشکیک فی نوایا الأطراف الفلسطینیة، عدا عن ذلک فإن الطرف الآخر لم یتردد فی أکثر من مناسبة عن ترداد أن من یقوم بإفشال التهدئة فی کل مرة هی الأطراف الفلسطینیة وذلک لما بین هذه الأطراف من خلافات ومن تنافس، وحاول التدلیل على ذلک من خلال بعض القصص التی تستند إلى تجارب یقول أنها سابقة فی هذا الإطار وغیره.
إسرائیل (التی وبحسب بعض الفلسطینیین ترغب فی التهدئة من أجل أن تمر احتفالاتها بذکرى تأسیسها) قد توافق على هذه التهدئة من أجل الغرض المشار إلیه، لکنها من الممکن جدا ومن خلال ما یتوفر لها من الأدوات والعملاء والإمکانیات أن تقوم بأی عمل – بعد انتهاء الاحتفالات- یبدو وکأنه من عمل الأطراف الفلسطینیة من أجل نسف التهدئة، لتعود وتمارس ما کانت تمارسه ولا تزال من عملیات قتل وتدمیر واغتیالات وکل الأعمال غیر الإنسانیة التی ظلت تمارسها على مدى سنوات الاحتلال، لا بل وقد تقوم بفعل ذلک بطریقة أکثر فتکا وشراسة وقوة حیث ستکون قد أوهمت العالم وخاصة الغربی منه بأنها قد قبلت التهدئة وان الطرف الفلسطینی هو الذی نقضها.
الموضوع الآخر الذی لا بد من الانتباه إلیه ألا وهو کیف یتم فهم موضوع التهدئة، هل هنالک تفاصیل أو نصوص فی هذا المجال، ما هو سقف تلک التفاصیل، أوَ لیس من الممکن أن تقوم إسرائیل بخرق التهدئة بحجة أن هنالک أنفاقا یتم بناؤها والادعاء بأنها تستعمل فی عملیات تهریب السلاح، وهذا ما قد تعتقد إسرائیل انه سبب کاف على سبیل المثال لکی یشکل ذریعة لها من أجل نسف التهدئة. أوَ لا یمکن لإسرائیل أن تدعی بأن لدیها معلومات عن مجموعة فلسطینیة ما هنا فی الضفة أو هناک فی غزة تقوم بالتخطیط للقیام بعملیة داخل إسرائیل أوْ فی أی مکان من الأرض الفلسطینیة وأن من حقها التدخل للقیام بإحباط الخطة أو العملیة أو المخططین، وإلى غیر ذلک من الذرائع التی من الممکن أن تقوم إسرائیل بفبرکتها.
طبعا من الواضح أن إسرائیل لدیها الأدوات والإمکانیات لا بل هی الدولة الأکثر قوة فی المنطقة سواء أردنا أو لم نرد– قد یتطرق البعض إلى حرب تموز على سبیل المقارنة، وعلى أی حال فإننا لا نعتقد بأنه یمکن مقارنة قوة المقاومة فی غزة بقوة حزب الله حیث أن لدى حزب الله من أنواع الأسلحة ما هو أفضل بکثیر مما لدى المقاومة الفلسطینیة، وقد أثبتت حرب تموز أنها خلقت ما یمکن تسمیته بتوازن الرعب ولکن لا یمکن تسمیة ذلک على انه توازن للقوة-.
کذلک فإن إسرائیل لدیها من العلاقات الدولیة ما لا یتوفر لیس فقط للفلسطینیین، لا بل ولأمة العربان، والجمیع منا یلاحظ مدى تزلف ونفاق الزعماء الغربیین خلال قدومهم إلى إسرائیل أو لدى ذهاب قادة الدولة العبریة لزیارة تلک البلدان، هذا عدا عن الماکینة الإعلامیة الضخمة التی تتحکم بها إسرائیل والقوى الموالیة لها، وکیف صارت تحول الجلاد الإسرائیلی إلى ضحیة وتساوی عندما ترید أن تِعْدِلْ بین الضحیة والجلاد، وکان هذا آخر ما تفتق عنه ذکاء الأمین العام للأمم المتحدة السید بان کی مون، ویحضرنی فی هذا المقام ما قاله أحد الأصدقاء المقیمین فی ایطالیا عندما سألته عن حال الإعلام هناک والقضیة الفلسطینیة فأجابنی بأنه فی تراجع وان خبر جرح أو إصابة إسرائیلی بالهلع فی سدیروت یتصدر الصفحات الأولى بینما یتم الإشارة فی خبر على الصفحات الداخلیة وبخط صغیر وبمکان غیر بارز خبر مقتل عشرات الفلسطینیین.
القضیة الأخرى والتی لا تقل خطورة هی تلک المتعلقة بالدولة المصریة والتی اعتقد بأنها أصبحت ومنذ أیام الراحل أنور السادات تسیر فی الرکب الأمیرکی، وهی لا تستطیع الفکاک من هذا الدور المهین الذی وضعها السادات به، فهی وأن کانت قد تغیر أنور السادات لیأتی مکانه حسنی مبارک إلا أن هذا الأخیر لیس بأفضل من سابقه فیما یتعلق بالشأن العربی برغم أن هذا قد لا یعجب الکثیرین.
فمصر – وهنا لا بد من التأکید أننا نتحدث عن النظام لا عن الجیش ولا عن الشعب- وبرغم أن رئیسها قد سمح فی المرة الماضیة للحشود أن تتجاوز الحدود وأن تشتری وتبتاع من الأسواق المصریة، لا بل وخرج بتصریحات "تبرد القلوب" فی ذالک الوقت، إلا أننا نعتقد بأنه فعل ذلک من أجل امتصاص الاحتقان والغضب فی الشارع المصری على المأساة التی تحصل فی القطاع، وما تهدیدات السید أبو الغیط – الذی کان فی تصریحاته یتحدث کما وأنه وزیرا للجیش أو الأمن وابتعد عن الکیاسة والدبلوماسیة- للفلسطینیین الذین قد یفکروا بمعاودة الکرة إلا الوجه الحقیقی للموقف الرسمی المصری، وهو وإن قال بأن أرجلهم ستکسر فإننا نعتقد بأنه أراد أن یقول بأن رؤوسهم ستفجر.
الموقف المصری وإذا ما صح الخبر وأنه هو الطرف الذی طرح موضوع التهدئة على الفصائل – برغم أننا لا نعارض أن یکون من طرح الموضوع هی الفصائل الفلسطینیة إذا کان فی ذلک مصلحة للشعب الفلسطینی- أراد أن یتخلص من عبء على کتفیه یتسبب فی دوامة من الاحتجاجات التی لا تنتهی إلا – بسواد وجه النظام- خاصة فی ظل أوضاع اقتصادیة أقل ما یمکن أن یقال عنها أنها متردیة وغیر مریحة وتتجه إلى مزید من الصعوبة.
نحن نعتقد بأن مصر تعرف الإمکانیات المهولة للدول العبریة، ونحن هنا نعتقد – نظریة المؤامرة ألیس کذلک- بان إسرائیل التی تعرف أن تلعب اللعبة الترویجیة والإعلامیة سوف تقنع لیس مصر فقط لا بل والعالم بأنها التزمت بالتهدئة وان من خرقها هم هؤلاء – القتلة من الفلسطینیین- وان من حقها الدفاع عن نفسها أمام هذا الإرهاب الفلسطینی، "أوَ لم تأت أمیرکا من أجل ذلک إلى المنطقة وأن تحتل أفغانستان والعراق" إذن فإن من حق إسرائیل أن تدافع عن مواطنیها وأراضیها من هذا الإرهاب.
لست مترددا بالقول بأن مصر عند ذاک وبقیادة رئیسها "المبارک" سوف تساهم فی تحمیل الفلسطینیین خرق التهدئة، أو لم تقل صحیفة الأهرام المحترمة بأن حماس جاهزة للاعتداء على مصر وأنها قد تقوم بذلک فی أیة لحظة، أو لم یُنَظٌر من نَظٌر من ألسنة النظام وأقلامه للمسألة، أو لم یقم هؤلاء من خلال الفضائیات بالعویل والصراخ وأن حماس تجاورت کل الحدود فی هذا الإطار.
قد یبدو طرحا متشائما لمن یرید أن یراه هکذا، إلا أننا نعتقد بأن إسرائیل لا ترغب لا فی التهدئة ولا فی السلام بشکل عام، خاصة وأن ما تقوم به على الأرض یشکل أکبر دلیل على سوء نوایاها تجاه الفلسطینیین، ونحن نعتقد بأن التجربة مع دولة الاحتلال سواء فی قصة أوسلو أو فی هذا العبث الذی یسمى مفاوضات وما سمی بخریطة الطریق وتدمیر القوات الإسرائیلیة لمقرات الأمن الفلسطینی، وإضعاف السلطة الفلسطینیة حتى النهایة واتهامها بالتقصیر وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها، لا بل والقول فی عشرات المناسبات بأن لا شریک فلسطینی، کل هذا یجعلنا نشکک فی نوایا إسرائیل تجاه التهدئة حتى لو کانت من طرف واحد، لهذا فإننا نقترح على الفصائل أن تحدد سقف التهدئة وسقف أو تفسیر ما هی القضایا التی تعتبر من الخروقات وما الذی یمکن أن یقع تحت هذا السقف أما أن تبقى المسائل معومة فإن هذا لن یکون فی المصلحة الفلسطینیة بالمطلق.
فی إطار التزویر الإسرائیلی قال احد المتحدثین باسم الخارجیة الإسرائیلیة لقناة العربیة مساء الیوم ردا على سؤال یتعلق بالمستوطنات بأن إسرائیل لا تقوم بأی بناء فی المستوطنات وأن الکتل الاستیطانیة الکبرى مثل معالیه ادومیم وعصیون وارئیل لن یتم إزالتها لان من غیر المعقول فعل ذلک وأضاف بأنها "سوف یتم ضمها إلى إسرائیل"، وبالمقابل فإن إسرائیل لن تطالب من السلطة الفلسطینیة أن تزیل الأحیاء الجدیدة التی تم بناؤها بعد عام 1967 فی رام الله وغیرها ،هل بإمکانکم أن تتصوروا حجم التزویر والتزییف فی هذه المسالة، وعلى هذا یجب أن تقاس المسائل.
( للکاتب والباحث الفلسطینی رشید شاهین من بیت لحم )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS