qodsna.ir qodsna.ir

هکذا نحن الآن بعد أربعین عاماً یا ناصر

هکذا نحن الآن بعد أربعین عاماً یا ناصر

 

تسلمت وکالة قدسنا هذا المقال من السید صبحی غندور مدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن

 

 أربعون عاماً مضت على وفاة جمال عبد الناصر یوم 28 سبتمبر من العام 1970. البعض یعتبر أنّ الحدیث الآن عن ناصر هو مجرد حنین عاطفی لمرحلة ولّت ولن تعود، بینما یُغرق هذا البعض الأمَّة فی خلافاتٍ وروایاتٍ وأحادیث عمرها أکثر من 14 قرناً، والهدف منها لیس إعادة نهضة الأمَّة العربیة بل تقسیمها إلى دویلات طائفیة ومذهبیة تتناسب مع الإصرار الإسرائیلی على تحصیل اعتراف فلسطینی وعربی بالهُویّة الیهودیة لدولة إسرائیل، فتکون "الدولة الیهودیة" نموذجاً لدویلات دینیة ومذهبیة منشودة فی المنطقة کلّها!.

هو "زمنٌ إسرائیلی" نعیشه الآن یا ناصر بعد رحیلک المفاجئ، وبعد الانقلاب الذی حدث على "زمن القومیة العربیة" حین کانت مصر، فی عقدی الخمسینات والستینات من القرن الماضی، طلیعته. فالیوم تشهد مصر وکل بلاد العرب "حوادث" و"أحادیث" طائفیة ومذهبیة وعرقیة لتفتیت الأوطان نفسها لا الهویّة العربیة وحدها.

هو "زمنٌ إسرائیلی" الآن یا ناصر على مستوى العالم أیضاً. فعصر "کتلة عدم الانحیاز لأحد المعسکرین الدولیین" الذی کانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر "صراع الشرق الإسلامی مع الغرب المسیحی" بینما تهمّش "الصراع العربی/الصهیونی"، وفی هاتین الحالتین المکاسب إسرائیلیة ضخمة.

فهل صحیح أنّ الحدیث الآن عن جمال عبد الناصر هو مجرّد حالة "نوستالجیة" لا علاقة لها بالواقع الراهن؟ وکیف یکون الأمر کذلک إذا کانت أوضاع مصر والعرب حالیاً هی صورة معاکسة لما مات عبد الناصر من أجله؟! ألم تأتِ المنیّة ناصر (بفعل قدری أو بجریمة تسمیم) وهو یجتهد ویُجاهد لوقف الصراعات العربیة التی تفجّر بعضها دماً آنذاک فی شوارع الأردن بین الجیش الأردنی والمنظمات الفلسطینیة؟ ألم یکن التضامن العربی الفعّال هو إستراتیجیة ناصر التی بناها فی قمّة الخرطوم عقب حرب العام 1967 والتی وضعت حدّاً لمرحلة الصراعات العربیة من أجل أولویّة المعرکة مع إسرائیل؟ ألم تکن الغایة الإسرائیلیة (المدعومة من الإدارة الأمیرکیة) بعد عدوان 1967 هی إخراج مصر من الصراع العربی/الإسرائیلی والمقایضة مع ناصر بإعادة سیناء له مقابل عزلة مصر عن المشرق العربی والجبهات الأخرى مع إسرائیل؟ ألیس محزناً أن تکون الأولویّة الآن لدى السلطات المصریة والسلطة الفلسطینیة هی لضمانات الأمن الإسرائیلی ولیس لحقّ المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال؟! وبأن یکون الموضوع الأول فی المفاوضات هو "حدود الدولة الفلسطینیة المنشودة"، لا إجبار إسرائیل (الدولة القائمة على الاحتلال لأکثر من 60 عاماً) على إعلان حدودها؟!

رحم الله جمال عبد الناصر الذی کان یکرّر دائماً: "غزَّة والضفَّة والقدس قبل سیناء.. والجولان قبل سیناء" والذی أدرک أنَّ قوّة مصر هی فی عروبتها وأنَّ أمن مصر لا ینفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربیة ومغربها ووادی نیلها الممتد فی العمق الأفریقی.

رحم الله جمال عبد الناصر الذی رفض إعطاء أی أفضلیة لعائلته وأبنائه، لا فی المدارس والجامعات ولا فی الأعمال والحیاة العامة، فکیف بالسیاسة والحکم!! مات ناصر وزوجته لا تملک المنزل الذی کانت تعیش فیه، أمَّا مصر الیوم فهی منشغلة بهموم "التوریث" وبمصالح الطبقة الحاکمة من "رجال الأعمال".

الیوم، نجد واقعاً عربیاً مغایراً لما کانت علیه مصر والعرب قبل أربعین عاماً.. فقد سقطت أولویات المعرکة مع إسرائیل وحلّت مکانها "المعاهدات"، الیوم هوت "الهویة العربیة" لصالح مسیرة "الانقسامات الوطنیة الداخلیة، الیوم تزداد الصراعات العربیة بینما تنشط مسیرة "التطبیع مع إسرائیل"!!

الیوم، أصبحت الأولویّات هی الحرص على الحکم لا على الوطن، الیوم تتحقّق فی المنطقة العربیة أهداف سیاسیة کانت مطلوبة إسرائیلیاً ودولیاً من حرب 1967، وقد منع عبد الناصر تحقیقها عقب الهزیمة حینما رفض ناصر استعادة الأرض عن طریق عزلة مصر وتعطیل دورها العربی التاریخی ..

عبد الناصر أدرک بعد حرب عام 1967 أهمیّة وجود کیان فلسطینی مقاتل، فدعم انطلاقة الثورة الفلسطینیة وقیادتها لمنظمة التحریر الفلسطینیة رافضاً إقامة "فصیل فلسطینی" خاص تابع له (کما فعلت آنذاک حکومات عربیّة أخرى) انطلاقاً من حرصه على وحدة الشعب الفلسطینی وعلى توحید جهود هذا الشعب من أجل استعادة وطنه، فإذا بقیادة هذه المنظمة تُحوّل الآن قضیّة شعب إلى مصالح "فصیل" وتختار حلّ مشاکلها الذاتیة (السیاسیّة والمالیّة) على حساب حلّ مشکلة شعب فلسطین، وتُسلّم خطوةً بعد خطوة بالمطالب الأمیرکیة والإسرائیلیة منذ توقیع "اتفاق أوسلو" عام 1993.

 عبد الناصر أکّد بعد حرب عام 1967 حرصه على تعمیق الوحدة الوطنیة فی کلّ بلدٍ عربی، وعلى رفض الصراعات الجانبیّة المحلیّة التی تخدم العدوّ الإسرائیلی (کما فعل فی تدخّله لوقف الصراع الداخلی فی لبنان عام 1968 بعد صدامات الجیش اللبنانی مع المنظمات الفلسطینیة)، فإذا بالأرض العربیة بعد غیابه تتشقّق لتخرج من بین أوحالها مظاهر التفتّت الداخلی کلّها، وکذلک الصراعات المحلیّة المسلّحة بأسماء طائفیّة أو مذهبیة، ولتبدأ ظاهرة التآکل العربی الداخلی کبدایةٍ لازمة لمطلب السیطرة الخارجیة والصهیونیة.

البعض فی المنطقة العربیة یرى الحلَّ فی العودة إلى "عصر الجاهلیة" وصراعاتها القبلیة وهو یستهزئ بالحدیث الآن عن حقبة ناصر التی ولّت!!. وبعضٌ عربیٌّ آخر یرى "نموذجه" فی الحل بعودة مصر والبلاد العربیة إلى مرحلة ما قبل عصر ناصر، أی العقود الأولى من القرن العشرین التی تمیّزت بتحکّم وهیمنة الغرب على الشرق! بینما لا یجوز فی رأی هولاء الحدیث مجدّداً عن ناصر وتجربته، وعن قیمه والأهداف التی سعى لتحقیقها فی مصر والمنطقة العربیة.

هذا واقع حال العرب الیوم بعد 40 سنة على غیاب عبد الناصر، فهل یتنبَّه العرب إلى ما هم علیه من انحدارٍ متواصل؟. لنقرأ ما قاله جمال عبد الناصر عن ذلک فی خطابه أمام المؤتمر العام للاتحاد الاشتراکی العربی عام 1969:

(إنّ رصاصة الأعداء لا تفرّق بین المسلم والمسیحی، وقنابل إسرائیل لا تفرّق بین المسلم والمسیحی، ولنتذکّر جمیعاً أنّ العدوّ لا یختصّ واحداً منّا بخطره، وإنّما خطره على الکلّ، لأنّ مطامعه فی الکلّ، والترکیز على واحدٍ منّا قبل غیره هو مسألة أولویّات یختارها العدوّ ولأسباب الملائمة …

إنّنی أرید أن أحدّد أمامکم عدّة مبادئ:

أولاً: إنّ هناک معرکة واحدة ولیس هناک معرکة أخرى غیرها فی العالم العربی، وهذه هی معرکة الأمّة العربیة ضدّ العنصریة الصهیونیة المؤیَّدة بقوى الاستعمار.

ثانیا: لسنا من أنصار إنشاء محاور عربیة إنّما تهمّنا مساهمة کلّ بلد عربی فی المعرکة، نحن مع کلّ تغییر یزید من القوة العربیة المحتشدة من أجل المعرکة وضدّ أی صراع شخصی أو طائفی أو فکری یکون من شأنه أن یضعف المعرکة وأن یأخذ منها).

بعد أربعین عاماً على غیاب جمال عبد الناصر، مصر تغیّرت، والمنطقة العربیة تغیّرت، والعالم بأسره شهد ویشهد متغیّراتٍ جذریة فی عموم المجالات .. لکن ما لم یتغیّر هو طبیعة التحدّیات على مصر وعلى العرب أجمعین.

ن/25

 

 

 


| رمز الموضوع: 143038