الاموال المهدورة بین صفقات السلاح وبناء المفاعلات
الاموال المهدورة بین صفقات السلاح وبناء المفاعلات
سعید الشهابی
فجأة انطلق سباق محموم فی مضمار الطاقة النوویة، واصطفت الدول العربیة فی خط واحد للدخول فی النادی النووی لاسباب واضحة احیانا وغامضة فی اغلب الاحیان.
هذا الاصطفاف یأتی فی اجواء التوتر والاحتقان فی العلاقات بین ایران والتحالف الغربی بضغوط متواصلة من اللوبی الصهیونی الذی یسعى لامرین: حمایة 'اسرائیل' من التوجه الدولی لاخضاع مشروعها النووی للرقابة الدولیة، ومحاصرة ایران، او ایة دولة عربیة او اسلامیة اخرى تسعى لامتلاک مشروع نووی غیر خاضع للاملاءات الاجنبیة فی ما یتعلق بالتکنولوجیا.
الحماس العربی دفع عددا من الدول العربیة لوضع خطط جدیة لامتلاک مفاعلات نوویة، بتکالیف باهظة، ولأغراض تستعصی على الفهم احیانا. فمثلا یمکن فهم رغبة دولة عربیة کبرى مثل مصر فی امتلاک مشروع نووی سلمی، نظرا لحاجتها الکبیرة للطاقة، ولکن ما الضرورة التی تدفع دول الخلیج الفارسی ، خصوصا الصغیرة منها، للاندفاع بهذه السرعة فی هذا المضمار؟ هل تواجه هذه الدول ازمة فی الحصول على الطاقة وهی التی تملک مصادر نفطیة هائلة؟ ام هل لدیها من السکان ما یستدعی الاسراع فی ذلک؟ وربما السؤال الاکثر وجاهة: ما دوافع التوجه للطاقة النوویة؟ أهو قرار صادر من العواصم الغربیة لاغراض اقتصادیة؟ ام انه محاولة لاحکام الحصار على ایران فی ما یتعلق بمشروعها النووی؟ هذه التساؤلات اصبحت ملحة، وتحتاج الى قراءات هادئة، وحوارات متواصلة خصوصا من ذوی العقول والاقلام، واصحاب الخبرة والاهتمام. فتوجه کهذا یجب ان لا یکون محصورا بقرارات سیاسیة تتخذ فی الاجتماعات السریة، لانها تمس مصالح المواطنین سواء بسبب ما تمثله من ضغوط على موازنات الدولة ام ما یرتبط بجوانبها البیئیة والصحیة والامنیة. ومن الضروری فتح السجال على اوسع ابوابه، والخروج من الدوائر الضیقة التی تصنع القرارات الاستراتیجیة بدون مشارکة المواطنین فی عقولهم وتحلیلاتهم ورغباتهم.
فی الاسبوع الماضی ذکر تقریر خاص بصحیفة 'التایمز' اللندنیة ان تحریاتها اکدت وجود رغبات العدید من الدول لبناء 15 مفاعلا نوویا بحلول العام 2025، اربعة منها فی دولة الامارات العربیة المتحدة، واربعة فی الکویت، ومثلها فی السعودیة (التی سوف تصدر قرارها بذلک قبل نهایة العام المقبل)، واثنان فی مصر، وواحد فی الاردن. اما ترکیا فقد وقعت فی شهر ایار/ مایو الماضی اتفاقیة مع روسیا لبناء اربعة مفاعلات بتکلفة 20 ملیار دولار. الهدف الاساسی المعلن لبناء هذه المفاعلات توفیر الطاقة لهذه الدول، ولکن لا یستبعد بعض الخبراء ان یکون ذلک بدایة لسباق فی مجال السلاح النووی، وان کانت المعطیات لا تشیر الى ذلک بوضوح. یتأکد المنحى السلمی لاغلب هذه المفاعلات من حقیقة مهمة وهی ان هذه الدول لن یسمح لها بتخصیب الیورانیوم، وهی الخطوة التی یعتبرها الخبراء، الشرط الاساس للدخول فی مضمار صناعة السلاح النووی. فاذا تم اخضاع المنشآت النوویة لرقابة الوکالة الدولیة للطاقة الذریة، فسوف یتعسر حرف المشاریع نحو التصنیع العسکری. فحتى الآن لیس هناک فی الشرق الاوسط سوى الکیان الاسرائیلی، ممن یمتلک مشروعا نوویا عسکریا. وقد استطاع هذا الکیان الوصول الى مرحلة التصنیع العسکری بدعم امریکی مباشر سمح له بعدم توقیع اتفاقیة منع انتشار السلاح النووی (ان بی تی)، وعدم السماح للوکالة الدولیة بتفتیش منشآتها النوویة منذ ان بنیت فی الخمسینات. تم ذلک فی اطار الالتزام الامریکی بالحفاظ على التفوق العسکریة الاسرائیلی فی المنطقة، لمنع ای تحد للاحتلال والتوسع اللذین یمثلان جوهر العقیدة الصهیونیة. ومنذ ان تم الکشف عن وجود الذراع العسکری للمشروع النووی الاسرائیلی على یدی مردخای فعنونو قبل ربع قرن، رفضت الولایات المتحدة وحلفاؤها ممارسة ای ضغط على الکیان الاسرائیلی لاتخاذ ایة خطوة لنزع ذلک السلاح. اما الضجة المرتفعة حالیا فتقتصر على استهداف ایران، لیس لانها تمتلک مشروعا نوویا عسکریا، بل لانها ربما تفکر فی امتلاک مثل هذا المشروع.
المسألة الجوهریة فی النزاع الغربی ضد ایران ینطلق من ارضیة واضحة: ما هو مصدر الیورانیوم المخصب الذی یستعمل لتشغیل المفاعل؟ فقد سمح للکیان الاسرائیلی بامتلاک اعداد کافیة من اجهزة الطرد المرکزی الضروریة لعملیات التخصیب، بینما سعت واشنطن منذ ثمانی سنوات لمنع ایران من ممارسة ذلک التخصیب. ولیس من دلیل على محوریة هذه العملیة فی المشروع النووی اقوى من رفع القضیة لمجلس الامن الدولی ودفعه لاتخاذ سلسلة من الاجراءات العقابیة ضد ایران، برغم تعاونها مع الوکالة الذریة، وبرغم توقیعها اتفاقیة ان بی تی، وبرغم تعاونها المعقول مع المفتشین الدولیین التابعین للوکالة. عملیة التخصیب المذکورة تمثل قلب المشروع النووی ولذلک فان منعها یهدف لأمور اربعة: اولها منع توجیه الیورانیوم المخصب للتصنیع العسکری، ثانیها: حصر التزوید بکمیات محدودة لا تفی بغرض التصنیع العسکری، وثالثها التحکم فی نسبة التخصیب، لان صناعة القنبلة النوویة تحتاج الى یورانیوم مخصب بنسبة اکبر من 90 بالمائة، بینما النسبة المطلوبة لتشغیل مفاعلات الطاقة 20 بالمئة، رابعها: منع الخبراء المحلیین من امتلاک القدرة المعرفیة لعملیة التخصیب. وبذلک تبقى المفاعلات، برغم ما تدفعه الدول فی مقابل بنائها، وکأنها مصانع مستأجرة من الدول التی قامت ببنائها. فاستهداف ایران، برغم عدم وجود ما یشیر بشکل قاطع الى انها تسعى للتصنیع العسکری، ینطلق على اساس منع امتلاکها 'القدرة' العلمیة والعقلیة والنفسیة على تخطی الحاجز الفولاذی بین من یملک التکنولوجیا النوویة ومن لا یملکها. هذه الملکیة لا تتحقق بوجود مفاعلات تبنى وتدار من قبل الشرکات الاجنبیة، لانها ستکون کالسیارات الفاخرة او اجهزة الهاتف النقال المتطورة جدا، فهذه ادوات مستوردة لا تعکس تقدما حقیقیا للبلد بقدر ما تعبر عن ظاهرة الاستهلاک المتنامیة فی بلدان عالمنا العربی والاسلامی. فالغرب لا یرفض تصدیر مصنوعات الى البلدان الاخرى خصوصا اذا کان یتقاضى عنها اسعارا مضاعفة، ولکنه یقف بحزم عندما یسعى ای من هذه البلدان للاستقلال السیاسی او العلمی او التکنولوجی. فالمطلوب ابقاء عالم العرب والمسلمین متخلفا علمیا وصناعیا، واتکالیا فی احتیاجاته على الدول الغربیة خصوصا فی اوقات الکساد الاقتصادی والشحة المالیة کما هو الحال فی الوقت الحاضر.
ان امتلاک التکنولوجیا المتطورة ضرورة لبلدان العالم الاسلامی. ولو وجه جانب من الثروات المالیة والبشریة بشکل مدروس فی هذا الاتجاه لتغیر وضع هذه الامة. اما التسابق من اجل استیراد احدث المنتجات الصناعیة والاسلحة المتطورة فانما یزید حالة الاعتماد والاتکالیة والتبعیة، ویحول دون الاستقلال الحقیقی. ایران الیوم تواجه حصارا شاملا لم تشهده من قبل. ویخطىء من یسعى للتقلیل من الآثار السلبیة لهذا الحصار الذی طال کافة اوجه نشاطها المالی والتکنولوجی. وفی الاسابیع الاخیرة اوقفت دولة الامارات العربیة المتحدة مصارفها عن ای تعامل مالی مع المصارف الایرانیة، متذرعة بقرارات الامم المتحدة، وکان العدید من دول مجلس التعاون قد اتخذ هذه الخطوة خصوصا البحرین والکویت. وبقیت ترکیا البلد الوحید الذی رفض الانصیاع للقرارات التی املتها الارادة الامریکیة على المجتمع الدولی بمقاطعة ایران اقتصادیا، ولکن انقرة، هی الاخرى، تخضع لضغوط لاتخاذ خطوات المقاطعة، ولکنها تشیر الى الموقف الغربی المتحسس ازاء ترکیا، خصوصا التلکؤ فی النظر بطلب الانضمام للاتحاد الاوروبی. وتجدر الاشارة الى ان مواطنی ترکیا والبوسنة وکوسوفو یحتاجون لتأشیرات سفر لزیارة بقیة دول الاتحاد الاوروبی، من بین کافة الشعوب الاوروبیة. هذا التمییز فی المعاملة من بین العوامل التی دفعت انقرة لاعادة النظر فی مواقفها وسیاساتها تجاه ایران التی تستهدف بدوافع غیر منصفة ولاسباب سیاسیة ودینیة وحضاریة. وفی الاسبوع الماضی شعر الایرانیون بامتعاض عندما القى مستشار الکویت الدائم لدى الامم المتحدة، محمد فیصل المطیری، کلمة بلاده امام الدورة الـ 65 للامم المتحدة، ودعا کلا من 'اسرائیل' وایران الى 'التعاون مع الوکالة الدولیة للطاقة النوویة'. فهل یجوز المساواة بین دولة وقعت اتفاقیة ان بی تی وسمحت لمفتشی الوکالة بمراقبة منشآتها، ولا تمتلک سلاحا نوویا، مع کیان یرفض کلا من هذه الالتزامات؟ مطلوب من الدول العربیة والاسلامیة تصعید الضغوط على الدول الغربیة لمحاصرة 'اسرائیل' بخصوص مشروعها النووی العسکری، من جهة، والتعاون بشکل فاعل لابقاء الشرق الاوسط منطقة خالیة من اسلحة الدمار الشامل ومنها السلاح النووی من جهة اخرى. هذا الموقف ضروری لحمایة مصالح دول المنطقة وشعوبها وتحجیم الغرور الاسرائیلی الذی اصبح یتحدى الارادة الدولیة ویصر على بناء المستوطنات ضد تلک الارادة.
ما الذی حققته الصفقات العملاقة بین الدول العربیة والغرب خصوصا فی مجال الطاقة النوویة وصفقات السلاح؟ ان من السذاجة بمکان الاعتقاد بسلامة المشاریع النوویة او قدرتها فی المدى البعید على توفیر حاجات الدول من الطاقة، خصوصا فی منطقة الخلیج الفارسی. ویمکن طرح النقاط التالیة لزیادة توضیح الصورة الضبابیة حول هذه القضایا الاستراتیجیة، بما یلی: اولا ان منطقة الخلیج الفارسی تملک من النفط ما یکفی فترات طویلة، خصوصا لو اتخذت قرارات بخفض معدلات الانتاج بهدف الحفاظ على الکمیات المختزنة منه، وزیادة اسعاره لیصل الى سعره الحقیقی الذی یعادل ضعف اسعاره الحالیة. ثانیا: ان المفاعلات النوویة باهظة التکالیف ولا یمکن تبریر تلک التکالیف بسهولة. فاذا دفعت دولة الامارات مثلا 40 ملیار دولار لبناء المفاعلات الاربعة المذکورة (فی مقابل 20 ملیار تدفعها ترکیا لروسیا لبناء اربعة مفاعلات مماثلة) فان ذلک المبلغ یکفی لدفع تکلفة انتاج الطاقة الکهربائیة للامارات اربعین عاما، بینما العمر الافتراضی للمفاعل لا یتجاوز العشرین عاما. ثالثا: تعانی منطقة الخلیج الفارسی من التلوث البیئی بمعدلات خطیرة، وثمة صمت کبیر على هذه الظاهرة نظرا لتبعاتها السیاسیة. ومن مصادر هذا التلوث الصناعات البترولیة والغازات السامة التی تنبعث من مصانع البتروکیماویات، وعملیات استصلاح الاراضی البحریة وما ینجم عنها من تدمیر الشعب المرجانیة الضروریة لانواع کثیرة من الاسماک، والنفایات النوویة التی تشیر دلائل عدیدة لوجودها فی قاع البحر، والتی ترمیها الاساطیل العسکریة الامریکیة خصوصا حاملات الطائرات التی تعمل بالطاقة النوویة. رابعا: تعمق الشکوک ازاء جدوى الصفقات العملاقة مع الغرب، خصوصا فی مجالی الطاقة والجوانب العسکریة، خصوصا ان هذه الصفقات تعید العائدات المالیة من مبیعات النفط الى الخزائن الغربیة، بینما لم تثبت جدوى تلک الصفقات والاتفاقات فی اوقات الحاجة.
ففی مقابل 'الکرم' العربی عند توقیع الصفقات، یمکن ملاحظة المفارقات الشاسعة فی تکالیف الصفقات بین ما تدفعه الدول الخلیجیة وما تدفعه 'اسرائیل'. ففی الصفقة الاخیرة التی وقعتها الولایات المتحدة مع الکیان الاسرائیلی الاسبوع الماضی، بلغت تکلفة شراء 20 طائرة مقاتلة من طراز اف 35 التی تصنعها شرکة لوکهید مارتن کورب الامریکیة 2.75 ملیار دولار. وهذه الطائرات هی الاکثر تقدما فی العالم، وربما ستکون 'اسرائیل' شریکا فی تصنیعها. وسیتم دفع ثمن الصفقة من الدعم الامریکی للکیان الاسرائیلی الذی یقدر بـ 30 ملیار دولار على مدى السنوات العشر القادمة. بینما ستدفع السعودیة اکثر من 60 ملیار دولار لـ 84 طائرة عسکریة امریکیة من نوع F-15 القدیمة التی تم تجدیدها، ومثلها من الطائرات العمودیة. وبذلک سیکون معدل سعر الطائرة اکثر من ضعفی سعر الطائرة التی تباع للکیان الاسرائیلی، والتی تعتبر اکثر تطورا. وعندما سئل المیجر جنرال المتقاعد ایهود شانی المدیر العام لوزارة الدفاع الاسرائیلیة، الذی وقع الاتفاقیة، عن ایران عدو اسرائیل اللدود قال شانی ان طهران 'مشکلة لکل العالم الدیمقراطی والحر وأحد الحلول لهذه المشکلة هو ...اف-35 .'
وتیرة هذه الاسعار اصبحت مألوفة فی الصفقات العملاقة، وتتضاعف خلال العمر الافتراضی للصفقة الذی یصل عشرین عاما تتخللها دفوعات کبیرة للصیانة والتدریب. هذه الاسعار 'الخاصة' سوف تطبق کذلک على المفاعلات النوویة المزمعة، الامر الذی یدفع للتساؤل عن مدى الحکمة وراء هذه الصفقات، وما اذا کانت حقا منطلقة من الشعور بالحاجة ام انها جزء من 'التفاهم' المصلحی بین هذه الحکومات والدول الغربیة . ألم یحن الوقت لفتح السجال حول هذه القضایا واخراجها من حیز الطبقات السیاسیة الخاصة، وعرضها على الرأی العام عبر حوارات مفتوحة وصریحة؟ ألیست هذه الاموال ملکا للشعوب؟ ام انها ستظل ملکا للنخب السیاسیة الحاکمة التی تمارس دورها بقوة السلاح والقمع؟ ألم یحن الوقت لاستثمار جزء من هذه الاموال بتمویل مؤسسات بحثیة وتصنیعیة فی البلدان المتطورة فی التکنولوجیا مثل ترکیا وایران ضمن کونسورتیوم نووی (على غرار المشاریع التکنولوجیة المشترکة فی اوروبا) یخطط لبناء المفاعلات لکل بلد عربی یحتاجه لاحقا؟ ان تبدید اموال الامة بهذه الصفقات امر غیر مفهوم وغیر مبرر، ویستدعی سجالا اکثر تحررا وانفتاحا وصراحة، فالصمت علیها تخل عن المسؤولیة وصمت على الباطل.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS