موسم 'التنزیلات' الفلسطینیة
موسم 'التنزیلات' الفلسطینیة
عبد الباری عطوان
یصعب علینا ان نفهم 'هجمة' التنازلات المجانیة التی تقدم علیها السلطة الفلسطینیة والمسؤولون فیها ورئیسها وتمس مساً مباشرا بالثوابت الوطنیة، مثلما یصعب علینا ایضا ان نفهم هذا الصمت الجلیدی المحیر فی اوساط الشعب الفلسطینی تجاهها.
فبعد التصریحات 'المستهجنة' التی ادلى بها السید یاسر عبد ربه امین سر اللجنة التنفیذیة فی منظمة التحریر 'المنتهیة الصلاحیة'، واقر فیها بالقبول بیهودیة الدولة الاسرائیلیة مقابل خریطة لها واضحة المعالم والحدود، ها هو رئیسه محمود عباس یصدمنا مرة اخرى باصدار فتوى اکثر خطورة، یعرب فیها عن استعداده لانهاء الصراع مع اسرائیل، والتخلی عن کل المطالب التاریخیة الفلسطینیة، عند التوصل الى تسویة سلمیة بین الجانبین تؤدی الى قیام دولة فلسطینیة على حدود الرابع من حزیران (یونیو) عام 1967.
انها لیست بالونات اختبار فقط، وانما خطة مدروسة باحکام، لتهیئة الرأی العام الفلسطینی لتسویة، عمادها الرضوخ للشروط الاسرائیلیة کاملة، ومن ضمنها الغاء حق العودة، والاعتراف بیهودیة اسرائیل والقبول بتبادل السکان ولیس تبادل الاراضی فقط.
تأکیدات السید سلام فیاض على عزمه اعلان الدولة الفلسطینیة قبل قدوم شهر ایلول (سبتمبر) المقبل، وتحدید الرئیس اوباما سقفا 'زمنیا' لمدة عام للمفاوضات الحالیة ینتهی بقیام دولة فلسطینیة تنضم لعضویة الامم المتحدة، وتشارک فی الدورة المقبلة لجمعیتها العامة فی ایلول (سبتمبر) ایضا، لیست تأکیدات من قبیل الصدفة المحضة.
اختیار الصحافة العبریة، او قادة الجالیات الیهودیة، لاطلاق هذه التصریحات، یهدف الى مخاطبة الفلسطینیین والعرب بصورة غیر مباشرة وعبر النافذة الیهودیة اولا لتخفیض سقف توقعاتهم، والتخلی عن احلامهم وآمالهم المشروعة، وطمأنة الاسرائیلیین فی الوقت نفسه على مستقبل آمن فی دولتهم وبحمایة جیرانهم او خدمهم القدامى الجدد ای الفلسطینیین.
فمن تابع الرسائل المتلفزة التی وجهها مجموعة من کبار المسؤولین فی السلطة الفلسطینیة وما تضمنته من تزلف واستجداء من قبلهم للاسرائیلیین یدرک ما نعنیه، ومن سمع الدکتور صائب عریقات کبیر المفاوضین، یبدأ رسالته فی مخاطبة هؤلاء بالقول 'لقد اخطأنا فی حقکم فسامحونا' یعرف او یفهم خطورة المنزلق الذی تنزلق الیه السلطة ورجالاتها.
المشهد العلنی الذی نراه حالیا یفید بان المفاوضات المباشرة متوقفة، ولکن لا ندری ان کان هذا المشهد مزورا، واننا امام فصول من مسرحیة مخادعة لتضلیلنا جمیعا، لاعطاء انطباع بصعوبة التسویة لتبریر تنازلات لاحقة تحت ذریعة التصلب الاسرائیلی، انعدام البدائل، الخلل فی توازن القوى، الانحیاز الامریکی، وتخلی العرب عن القضیة الفلسطینیة.
الکثیرون اعتقدوا خطأ، ان السید عبد ربه کان ینطلق من اجتهاد شخصی، او تورط فی زلة لسان، عندما اطلق بالون اختباره الخطیر باستعداده للاعتراف بیهودیة الدولة الاسرائیلیة، ولکن بعد ان استمعنا الى رئیسه یذهب الى ما هو ابعد من ذلک، ویعرب عن استعداده للتنازل عن الحقوق التاریخیة للشعب الفلسطینی، ادرکنا ان هناک انسجاما کاملا بین الاثنین وان هناک 'طبخة' نضجت منذ زمن فی مفاوضات سریة موازیة على غرار مفاوضات اوسلو الموازیة لمفاوضات مؤتمر مدرید.
ومن غرائب الصدف ان الرجلین، عباس وعبد ربه، کانا الطباخین الرئیسیین للمفاوضات الاولى ای اوسلو، واشرفا على دهالیزها فی غرفة عملیات اقاماها واشرفا علیها فی مکتب الاول فی تونس.
* * *
السید عبد ربه، ومثلما تشی مسیرته السیاسیة، 'مغرم' بتقدیم التنازلات المجانیة، ویسعد کثیرا فی التجاوب مع المطالب الاسرائیلیة، لیظهر مدى اعتداله وحضاریته، فقد دخل التاریخ کأول مسؤول فلسطینی یتنازل عن حق العودة للاجئین فی وثیقة جنیف التی وقعها بصفته عضوا فی اللجنة التنفیذیة للمنظمة، وهو الآن یرید تکرار هذه 'الریادة' بالاعتراف بیهودیة اسرائیل، لیعزز مکانته عند اصدقائه الامریکیین والاسرائیلیین.
نحن الآن امام مسیرة تنازلات تذکرنا بنظیرتها التی بدأتها منظمة التحریر عام 1974 عندما اعترفت بالنقاط العشر، وقبلت ضمنا بوجود اسرائیل وتنازلت عن الدولة العلمانیة، وعززت اعترافها هذا لاحقا بالقبول بقرار مجلس الامن الدولی رقم 242 و338، واعلان الاستقلال، ثم السقوط فی حفرة اتفاق اوسلو، ومن المفارقة ان السید عباس کان احد منظری هذا التوجه.
الآن یتکرر السیناریو نفسه، ولکن بطریقة اکثر تفریطاً بالثوابت، وکانت الحلقة الاولى عندما فاجأ الرئیس عباس مضیفیه من قادة اللوبی الیهودی الذین اجتمع بهم فی واشنطن فی شهر آب/اغسطس الماضی، بالاعتراف بحق الیهود فی فلسطین ووجودهم التاریخی العمیق الجذور فی ارضها، وعندما اطمأن الى غیاب ای رد فعل فلسطینی شعبی او فصائلی، وذهب الى ما هو ابعد من ذلک عندما لم یعترض على تسمیة اسرائیل بالدولة الیهودیة اثناء اجتماع آخر لقادة الیهود الذین اجتمع بهم فی نیویورک اثناء انعقاد الدورة الاخیرة للجمعیة العامة للامم المتحدة الشهر الماضی. وها هو، ولغیاب ای رد فعل فلسطینی ایضاً، یخترق کل المحرمات والخطوط الحمراء، ویعرب عن استعداده، وفی حدیث لصحیفة اسرائیلیة، لإنهاء حالة الحرب واسقاط کل الحقوق التاریخیة للشعب الفلسطینی مقابل قیام دولة فی الضفة والقطاع.
لا نعرف من أین اتى الرئیس عباس بکل هذه القوة والثقة بالنفس، لکی یقدم على کل هذه التنازلات الخطیرة، وهو الذی لا یملک التفویض او الشرعیة الوطنیة والدستوریة، وهو الرئیس المنتهیة ولایته منذ عامین، ولا یحتکم الى ای مؤسسات منتخبة، ولا یحترم رأی الشعب الفلسطینی، بل نشک مرة اخرى انه یعترف بوجوده.
لا نعتقد ان الرئیس عباس على هذه الدرجة من الغباء السیاسی حتى یقدم على مثل هذه التنازلات المجانیة وخارج اطر التفاوض لولا ان هناک خطة متفقا علیها، ودورا مطلوبا منه ان یؤدیه، ومشروع تسویة تم الاتفاق على تفاصیله الصغیرة ولیس خطوطه العریضة فقط. فالرجل عقد اکثر من 17 اجتماعاً مغلقاً اقتصرت علیه وحده مع ایهود اولمرت اضافة الى خمسین اجتماعاً للوفدین المفاوضین. کما عقد اجتماعات اخرى مغلقة مع نتنیاهو.
وکشف فی لقاءات صحافیة انه توصل الى مشروع تسویة متکامل مع اولمرت قدم نسخة منه الى نتنیاهو اثناء المفاوضات غیر المباشرة.
فاذا کانت المفاوضات المباشرة متعثرة فعلاً مثلما یشاع، والکیمیاء معدومة بین الرئیس عباس وخصمه نتنیاهو، فکیف یتناول الاول طعام العشاء فی منزل الثانی فی القدس المحتلة، ویتبادلان النکات والمجاملات، ویخرج علینا الرئیس عباس ومرافقوه مشیدین ببراعة ومهارة زوجة نتنیاهو فی اعداد الطعام الشهی؟ فهل هذا سلوک الخصوم ام الاصدقاء؟
***
ما تقدم علیه السلطة ومسؤولوها هو خروج عن کل الاعراف تتحمل مسؤولیته حرکة 'فتح' اولاً، والفصائل الفلسطینیة ثانیاً، والشعب الفلسطینی ثالثاً. انه تفریط وانحراف یتحمل مسؤولیتهما الجمیع دون استثناء من جراء الصمت، والارتباک وعدم تقدیر الاخطار المترتبة على هذا الانحراف، وهذا التفریط.
نلوم حرکة 'حماس' اکثر مما نلوم الآخرین، نقولها بمرارة فی الحلق، لانها کقائدة لحرکات المقاومة، ومعسکر الممانعة الفلسطینی، 'سهلت' هذا التفریط عندما تسامحت مع بعض المسؤولین فیها، او المحسوبین علیها، الذین لعبوا دوراً مثل دور السید عبد ربه، وقدموا مقترحات تسویة دون ان یطلب منهم ذلک، کانت أقرب الى طرح السلطة نفسها مثل القبول بدولة فی الضفة والقطاع مقابل هدنة، او الانخراط مجدداً فی مفاوضات مصالحة مع سلطة یشککون فی شرعیة تمثیلها او اهلیتها لتمثیل الشعب الفلسطینی، من خلال استقبال وفد لها فی دمشق، واظهار الاستعداد لسحب الکثیر من التحفظات والاعتراضات على الوثیقة المصریة، وفی تزامن مع استئناف المفاوضات المباشرة التی عارضتها بشدة.
جریمة الصمت على هذا التمادی فی التنازلات المجانیة لا تهدد بضیاع الثوابت الفلسطینیة فحسب، بل وکل فلسطین، والتخلی عن اهلنا فی الاراضی المحتلة عام 1948، والتضحیة بنضالاتهم المشرفة والمکلفة، من اجل الحفاظ على الهویة العربیة لأرضهم، واعطاء الضوء الأخضر لحکومات اسرائیل الحالیة والقادمة بطردهم، وممارسة التطهیر العرقی فی حقهم لاجتثاتهم من ارضهم.
نحن نرى عملیة 'سطو' على التمثیل الفلسطینی، سطوا على تمثیل الفلسطینیین فی الضفة والقطاع، وسطوا على تمثیل الفلسطینیین فی الشتات، وسطوا ثالثا على تمثیل الفلسطینیین من اهلنا فی المناطق المحتلة عام 1948 دون تفویض او مسوغات قانونیة او دستوریة. وهذا فی رأیی جریمة یجب ان لا تمر ناهیک عن ان تستمر.
لا اعرف شخصیاً ماذا حل بالشعب الفلسطینی، ولماذا تحول فی معظمه الى جسد بلا حراک امام محاولات تصفیة قضیته وحقوقه بالتقسیط المریح لمن یدعون الحدیث باسمه. هذا الشعب النائم المخدر بالراتب او بوسائل التضلیل والخداع بحاجة الى من یوقظه من سباته العمیق قبل فوات الاوان.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS